هل لا يزال التطبيع بين السعودية وإسرائيل مطروحًا؟
ديسمبر 22, 2023عبد الله ف. الربح
عبد الله ف. الربح
في أعقاب هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر وما تبعها من قصف واجتياح لقطاع غزّة، اعتبرت معظم وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث أنّ حركة "حماس" شنّت الحرب لقطع الطريق أمام تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. فقبل هجوم "حماس"، كان وليُّ العهد السعودي محمد بن سلمان قد أعلن أنّ بلاده تسير بخطى ثابتة نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ومن جهتهم، أبدى الإسرائيليّون حماسةً لهذا المسار؛ في حين خشيت "حماس" أن يؤدّي تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل إلى عزلها أكثر فأكثر عن العالم العربي.
ولكنْ، في ظلّ النزاع الدموي المستمرّ منذ أكثر من شهرَيْن في غزّة، ومع تجاوز عدد القتلى الفلسطينيّين المدنيّين 20 ألفًا بحسب التقارير، تواجه المملكة العربية السعودية –التي لديها باعٌ طويلٌ في دعم الفلسطينيّين– ضغوطًا متنامية للإحجام عن إبرام أيّ صفقة مع إسرائيل في الوقت الحالي. لذا، يشدّد السعوديّون على ضرورة ضمان حقوق الفلسطينيّين قبل أن توافق الرياض على توقيع أيّ اتفاق سلام مع الدولة اليهودية.
سياسة وليّ العهد تجاه النزاع
في 20 أيلول/سبتمبر 2023، أجرى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مقابلةً مع شبكة "فوكس نيوز" الأمريكية، تناول فيها سلسلةً من المواضيع، منها سياسة المملكة تجاه إسرائيل. باختصار، أعلن بن سلمان أنّ آفاق تطبيع العلاقات بين الدولتَيْن "تقترب أكثر" كلّ يوم، فيما شدّد أيضًا على ضرورة ضمان حقوق الفلسطينيّين. فالرياض ليست في وارد التفريط بمكانتها الدبلوماسية والروحية في العالم الإسلامي من دون مقابل.
وفي نقاشاته مع البيت الأبيض في 25 تشرين الأول/أكتوبر بشأن الحرب الدائرة في غزّة، شدّد بن سلمان أمام الرئيس الأمريكي جو بايدن على ضرورة "العودة إلى مسار السلام لضمان حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة"، وكذلك "تحقيق السلام العادل والشامل [بين إسرائيل وفلسطين]".
لا شكّ في أنّ الفلسطينيّين يمتلكون خيار السير في سياستهم الخاصة تجاه إسرائيل كدولةٍ مستقلّةٍ. فالسلطة الوطنية الفلسطينيّة في رام الله هي الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني، وتجمعها بالرياض علاقة جيّدة. وإثر اندلاع الحرب الحالية، اتّصل الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس بولي العهد السعودي لمناقشة التصعيد العسكري في غزّة والأراضي المحتلّة معه، وإطلاعه على التدهور السريع في الظروف الإنسانية والمخاطر التي يطرحها النزاع على الأمن والاستقرار في المنطقة بشكل عام. وقد تبنّت واشنطن الشروط المسبقة نفسها كما الرياض (ورام الله). لذا، في المفاوضات الجارية مع إسرائيل حول إنهاء النزاع، تصرُّ الولايات المتّحدة على إشراك "مكوِّن فلسطيني مؤثر" بما يلبّي تطلّعات المملكة العربية السعودية والسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينيَّة.
إنّ السلطة الفلسطينية في رام الله مستعدّة لتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل يتضمّن اعتراف الطرفَيْن المتبادل ببعضهما البعض. وفي حال نجح بن سلمان في الضغط على إسرائيل للاعتراف بالدولة الفلسطينيّة، تماشيًا مع التزامات إسرائيل الموثّقة في اتفاقيات أوسلو، سيذكر التاريخ مساهمته القيّمة في حلّ جانب هام من الصراع العربي-الإسرائيلي. غير أنّ العقبة الأبرز تتمثل في موقف الحكومة الإسرائيلية الحالية التي ترفض صراحةً حلَّ الدولتَيْن.
أُسُس الاتفاق المحتمل
تعتمد فاعلية موقف إسرائيل على قدرة الأخيرة على مواصلة خوض مفاوضات ثنائية مع كلّ دولة عربية على حدة. وفي سعيها إلى إبرام اتفاق ثنائي مع المملكة العربية السعودية، تحاول إسرائيل ضمان عدم مشاركة طرف ثالث (أي الفلسطينيّين) في أيّ اتفاق محتمل. وعليه، قد يقدّم الإسرائيليون بعض الوعود اللفظية للسعوديّين بشأن المسألة الفلسطينيّة، ومن المرجح أن يستخدموا لغة ملتبسة بما يضمن الطموحات الإسرائيلية. إلا أنّ السعوديّين يريدون الوصول إلى وضع يشعر فيه الفلسطينيّون بأنهم مستعدّون للقبول بوعود إسرائيل (الشرعية)، ذلك أنّ الرياض تريد أن تتفادى التدخّل مجددًا في أيّ توتّرات مستقبلية بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين.
في الوقت نفسه، يسعى بن سلمان إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب من خلال صفقة مع الولايات المتّحدة، لا مع إسرائيل، كون الأخيرة لا تمتلك الكثير من الأوراق المغرية. لذا، يصبّ ولي العهد السعودي تركيزه على واشنطن، ويسعى إلى الحصول على ضمانات أمنية بمستوى لم يسبق للجانب الأمريكي أن قدّمه للسعودية من قبل، بما في ذلك الأسلحة والتقنيات العسكرية المتقدّمة.
بطبيعة الحال، لا تضمن المشاركةُ السعودية في المفاوضات مع إسرائيل التوصُّلَ إلى اتفاق نهائي. ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ بن سلمان نجح، قبل اندلاع الحرب في غزّة، في دفع إدارة بايدن إلى تبنّي موقف يعزّز أجندته. وأمضى منسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك عدّة أشهر في التوسّط لإبرام اتفاقيات اقتصادية وأمنية من شأنها تحريك عجلة العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
تمثّلت الخطوة الأولى، وغير المشروطة، لإطلاق تلك المفاوضات في تخلّي بايدن ضمنيًّا عن تعهده، أثناء حملته الانتخابية، بـ"نبذ" المملكة العربية السعودية. وفي ظلّ عدم زيارة أيّ من أفراد العائلة الملكية السعودية البارزين لواشنطن خلال السنوات الثلاث الأولى من ولاية بايدن، شكّلت زيارة وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2023 خطوة محوريّة في العلاقة الثنائية، مع العلم أنها أتت في سياق الحرب في غزّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ وزير الدفاع هو المسؤول السعودي الأعلى رتبة الذي يزور واشنطن منذ تولّي بايدن سدّة الرئاسة حتى تاريخه.
إنّ فريق بايدن في سباق مع الوقت للتوصّل إلى اتفاق يمكن للرئيس الحالي تصويره كانتصار لسياسته الخارجية قُبيل انتخابات العام 2024، وكإنجاز توازي أهمّيته -أو حتى تفوق- أهمّية اتفاقيات إبراهيم التي أُبرِمَت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. لهذا السبب، تراجع بايدن والمسؤولون في إدارته بوضوح عن بعض الشعارات المناهضة للسعودية التي استخدموها في حملة العام 2020. ولكنْ حتى لو ضاعت كلّ تلك الجهود سُدًى بسبب الحرب في غزّة، يعتبر بعض المراقبين أنّ بن سلمان حقّق ربما الهدف الذي كان يطمح إليه من خلال المفاوضات– أي "تطبيع" العلاقات مع البيت الأبيض خلال ولاية بايدن.
مع ذلك، من المؤكّد أنّ الحرب في غزّة زادت من التوتّرات والتعقيدات في المشهد السياسي في الشرق الأوسط. فمنذ السابع مع تشرين الأول/أكتوبر، تشير معظم تقارير مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام إلى أنّ الاتفاق المحتَمَل بين السعودية وإسرائيل هو أحد أبرز الأسباب التي دفعت "حماس" إلى شنّ هذه الحرب. وبحسب ماثيو ليفيت من معهد واشنطن، يتمثّل الدافع الذي شجّع قيادة "حماس" على شنّ هذا الهجوم التصعيدي الشديد بشكل أساسي في عرقلة المساعي الدبلوماسية الإسرائيلية لتعزيز العلاقة مع السعودية. فقد شعرت "حماس" بأنّ إبرام اتفاق تطبيع من هذا النوع سيُزيل المسألة الفلسطينية من قائمة أولويات معظم الدول العربية والإسلامية. كذلك، من شأن هذا الاتفاق أن يعزّز التحالف الإقليمي ضدّ إيران ووكلائها في المنطقة، بما في ذلك "حماس" و"حزب الله".
هذا وتشعر "حماس" بأنّ الموقف السعودي من الحرب الحالية متوازن. فمن جهة، لا تؤيّد الرياض "حماس" على الإطلاق. ولكن من جهة أخرى، أدانت الحكومة السعودية بأشدّ العبارات وبشكل لا لُبس فيه الهجوم العنيف والحصار الذي فرضته إسرائيل على غزّة ردًّا على هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر. كذلك، عبّرت السعودية عن استيائها الواضح للولايات المتّحدة. وعندما زار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الرياض في أعقاب زيارته الأولى إلى تل أبيب –حيث شدّد على هويّته اليهودية– بعد اندلاع الحرب، اضطرّ إلى "الانتظار لساعات عدّة للاجتماع بوليّ العهد مساءً، غير أنّ الأخير لم يجتمع به سوى في الصباح التالي". واعتبر السعوديّون أنّ هذا الأداء الرمزي يؤكّد سيادتهم وتضامنهم مع إخوتهم الفلسطينيّين.
مع استمرار الحرب، يشدّد السعوديّون على رفضهم للاجتياح البرّي الإسرائيلي لقطاع غزّة، وقد أشارت الرياض في مناسبات عدّة إلى أنّ هذا الاجتياح سيجعل التوصّل إلى اتفاق سلام بين السعودية وإسرائيل صعبًا، أو حتى مستحيلًا.
وفي 11 تشرين الثاني/نوفمبر، استضافت السعودية قمّة استثنائية مشتَرَكة لمنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية. عُقِد هذا الاجتماع المتعدّد الأطراف استجابةً للظروف الاستثنائية في قطاع غزّة، ونجحت الحكومة السعودية في تولّي زمام القيادة لإصدار موقف مشترك وموحّد بين المشاركين في القمّة. وقبل ذلك بيوم واحد، استضافت الرياض قمّة سعودية-إفريقية مقرّرة مُسبقًا. وشدّد قادة الدول المشاركون على "الدور الذي يجب أن يضطلع به المجتمع الدولي في الضغط على الجانب الإسرائيلي لإيقاف الهجمات الإسرائيلية والتهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة، الذي يُعدّ انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني والقوانين الدولية".
ويشكّل نجاح المملكة في تنظيم القمّة العربية-الإسلامية المشتركة، التي جمعت قادة وممثلين عن أكثر من 90 دولة في الرياض بعد يومَيْن من إصدار الدعوة، دليلًا على قوّة الدبلوماسية السعودية حاليًا. وينبغي أن يعزّز هذا النجاح الموقف السعودي في أيّ مفاوضات مقبلة مع إسرائيل، في حال حدوثِها في المستقبل القريب.
ماذا بعد؟
يسعى وليُّ العهد السعودي محمد بن سلمان إلى الابتعاد عن التوتّرات العابرة للحدود مع الدول المجاورة، وقد اتّبع سياسة تفادي النزاعات، ما دفعه حتى إلى الموافقة على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران في وقتٍ سابق من هذا العام. كذلك، أبدى بن سلمان استعدادًا للتوصّل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل في نهاية المطاف. لكنّ إسرائيل تختلف عن إيران؛ ففي حين أنّ العلاقة مع إيران تقوم على مسائل مشتَرَكة يمكن للرياض وطهران معالجتها بمفردهما، تشمل العلاقة مع إسرائيل عدّة مسائل عابرة للحدود تتجاوز البُعد الثنائي حصرًا.
تشكّل المسألة الفلسطينية على وجه التحديد موضوعًا محوريًّا لدولة عربية وإسلامية رائدة مثل السعودية. لذا، يتعيّن على الرياض أن تُجري حساباتٍ استراتيجيةً قبل اتّخاذ أيّ خطوة في القضايا المحلّية أو الإقليمية أو الدولية التي قد تحمل تداعيات على المسألة الفلسطينية أو قد تتأثر بها. وعليه، من المرجح أن تؤجِّل المملكة العربية السعودية تطبيع العلاقات مع إسرائيل إلى حين توفير مكاسب معقولة للفلسطينيّين. وفي الوقت نفسه، لا تزال الولايات المتّحدة الجهة الأساسية التي تورِّد الأسلحة والتقنيات العسكرية إلى المملكة، وهي عناصر ضرورية للحفاظ على الاستقرار في المنطقة وردع إيران ووكلائها. بالتالي، ينبغي على واشنطن، بصفتها الوسيط المفترض في أيِّ اتفاق سعودي-إسرائيلي لتطبيع العلاقات، أن تبادر بحسن نيّة إلى تلبية الطلبات السعودية للحصول على الأسلحة والتقنيات العسكرية في حال وافقت السعودية وإسرائيل، الدولتان الحليفتان لواشنطن في المنطقة، على التفاوض لإبرام اتفاق سلام في المستقبل.
د. عبد الله الربح هو أستاذ مشارك في سوسيولوجيا الدين والنظريات السوسيولوجية في الجامعة الحكومية في غراندفالي وباحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط. يركّز في أبحاثه على جوانب السياسة والثقافة والدين والسلطة في المملكة العربية السعودية والخليج والإسلام.
معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.