MEI

نهج باكستان والشرق الأوسط المتغيّر تجاه أفغانستان

أغسطس 12, 2024

سيد محمد علي


مشاركة

مع اقتراب الذكرى الثالثة لاستيلاء طالبان على أفغانستان، لا تزال محنة المواطنين الأفغان العاديّين مستمرّةً. فقد ثبُت، على مرّ التاريخ، أنّ الموقع الاستراتيجيّ لهذه الدولة غير الساحليّة نقمةٌ أكثر منه نعمة. تقع أفغانستان في موقعٍ حيويٍّ عند التقاطع بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا والشرق الأوسط. وقد أثار موقعها منافسةً كبيرةً بين القوى العُظمى في العصر الحديث، تعود إلى أيّام "اللعبة الكُبرى" في القرن التاسع عشر بين بريطانيا وروسيا، ثمّ بين الاتّحاد السوفياتي والولايات المتّحدة في ثمانينيّات القرن العشرين. كذلك، شهدت أفغانستان أطول فترة من الاحتلال الأجنبيّ بقيادة الولايات المتّحدة بعد أن استخدم تنظيم "القاعدة" البلاد كقاعدةٍ لتدبير هجمات أيلول/سبتمبر 2001 على الولايات المتّحدة. أمّا الدول الإسلاميّة المجاورة، فمارست تأثيرًا كبيرًا على التطوّرات في أفغانستان أيضًا. فمن الواضح أنّ إيران وباكستان، على سبيل المثال، تهتمّان بالشأن الأفغاني نظرًا إلى أنّ لكلٍّ من البلدَيْن حدودًا طويلة وسهلة الاختراق معها، فضلاً عن الأنهار العابرة للحدود، التي تعتمد عليها حياة الملايين من الناس وسبل عيشهم. كذلك، تمتلك أفغانستان علاقات دينيّة وثقافيّة واقتصاديّة طويلة الأمد مع عددٍ من دول الشرق الأوسط الأخرى، بما في ذلك المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة وقطر. ولكنْ، بمعزل عن هذه القواسم المشتركة الواضحة، أصبحت أفغانستان ساحةً للنزاعات بالوكالة بين القوى الإقليميّة، التي تبنّت سياساتٍ متباينةٍ تجاه أفغانستان على مدى عقود طويلة من الاحتلال الأجنبيّ، وهي تفعل ذلك مرةً أخرى بعد أن وقعت البلاد في قبضة حركة "طالبان" مجدّدًا.

نزاعات الحرب الباردة بالوكالة في أفغانستان

غالبًا ما يُلقى اللوم تاريخيًّا على باكستان والقوى الكبرى في الشرق الأوسط، مثل المملكة العربية السعودية، في تأجيج نيران التطرف داخل أفغانستان. لكنّ هذه الأحداث لم تحصل في فراغ، بل أتت نتيجةً لدوافع جيو-استراتيجيّةٍ أوسع نطاقًا ولهواجس تتعلّق بالأمن القومي. فقد أثار الغزو السوفياتيّ لأفغانستان في العام 1979 مخاوف داخل باكستان من غزوٍ وشيكٍ لتمكين السوفيات من الوصول إلى بحر العرب. وبالتالي، بدأت باكستان عمليّةً مموّلةً من الولايات المتّحدة لتسليح المجاهدين وتدريبهم؛ وأُطلِق عليهم آنذاك لقب "محاربو أفغانستان المقدّسون". كما قدّمت الولايات المتّحدة مساعداتٍ عسكريّة لباكستان بلغت قيمتها مليارات الدولارات، ووفّرت شريان حياة للنظام العسكريّ المدمِّر الذي حكم البلاد طوال عقدٍ من الزمن بقيادة الجنرال محمد ضياء الحقّ. من جهته، رحّب الجيش الباكستاني بالدعم الأمريكيّ لتمويل مشاركته في الجهاد الأفغاني ضدّ السوفيات كوسيلةٍ لكسب العمق الاستراتيجيّ في حال اندلاع مواجهةٍ أخرى مع الهند. وكان دعم باكستان للوكلاء الجهاديّين مدفوعًا بالأمل في استخدام الحماسة الدينيّة لتقويض المطالبات بالقوميّة البشتونيّة من جانبَيْ الحدود المتنازع عليها التي تعود إلى حقبة الاستعمار، والمعروفة باسم "خط ديورند"؛ وسمحت تلك الاستراتيجية لباكستان بدعم التمرّد في الجزء الخاضع لسيطرة الهند من كشمير بالوكالة.

بالإضافة إلى ذلك، قدّمت المملكة العربية السعوديّة دعمًا ماليًّا وأيديولوجيًّا كبيرًا للجماعات الجهاديّة الأفغانيّة. وعلى الرغم من أنّ السعوديّين لم يواجهوا أيّ تهديدٍ مباشرٍ من الغزو السوفياتيّ لأفغانستان، أتاح استثمارهم في دعم المتشدّدين المتطرّفين فرصة لتشكيل تحالفٍ استراتيجيٍّ مع الولايات المتّحدة وباكستان. كما سمح بمواجهة طموحات إيران المتنامية بعد الثورة لفرض نفوذها على الدول الإسلاميّة المجاورة، التي تضم أعدادًا كبيرةً من السكان الشيعة. بالتالي، أصبحت أفغانستان وباكستان ساحةً لصراعٍ عنيفٍ بين إيران والسعودية، كما بدأ المسلّحون السُّنّة الديوبنديّون، المدعومون من السعوديّة، والذين تدرّبوا لصدّ السوفيات عن أفغانستان، في مهاجمة الأقليّات الشيعيّة، الأمر الذي أثار ردود فعلٍ انتقاميّةً من جانب المسلّحين الشيعة المدعومين من إيران. فتسبّب ذلك في ارتفاع وتيرة العنف الطائفيّ في كلٍّ من أفغانستان وباكستان.

وبينما تضاءل الاهتمام الأمريكيّ بأفغانستان بعد أن قرّر السوفيات سحب قوّاتهم في العام 1989، تورّطت أفغانستان نفسها في صراعٍ داخليٍّ بين الفصائل المختلفة. فقد دفعت سنوات الاحتلال والنزاع الداخلي ملايين النازحين الأفغان إلى البحث عن ملجأ في إيران وباكستان. ثمّ راحت باكستان، بمساعدةٍ من السعوديّة والإمارات، تدعم حركة طالبان البشتونية، المستوحاة من الديوبنديّة، للاستيلاء على السلطة في العام 1996. وبينما شعرت دول الخليج وباكستان أنّ إيديولوجيّة طالبان السنيّة القصيرة النظر من شأنها أن تجعل الحركة حليفًا مناسبًا، تزايد الشعور بعدم الأمان لدى الأقلّيات الإثنيّة في البلاد، وانضمّ عددٌ منها إلى التحالف الشماليّ المتعدّد الإثنيات لمقاومة طالبان. وقدّمت إيران والهند دعمًا مشتركًا لحركة المقاومة هذه للتصدّي للدعم الباكستاني والسعودي لطالبان. وأدّت السياسات القمعيّة التي اتّبعها نظام طالبان الأوّل، بما في ذلك قمع النساء، وموجة الاحتجاج التي أثارها تدمير تماثيل باميان البوذية القديمة في العام 2001، إلى نبذهم على المستوى الدولي. وعلى الرغم من عدم اعتراف أيّ دولةٍ أخرى غير باكستان والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة رسميًّا بنظام طالبان، تجاهل المجتمع الدوليّ الحركة إلى حدٍّ كبيرٍ، وغضَّ النظر عن نظام الحكم الوحشيّ الذي فرضته على المواطنين الأفغان البؤساء، حتّى أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.

في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وقفت باكستان مجدّدًا إلى جانب الأمريكيّين في أفغانستان، ولكن هذه المرّة، لدعم الغزو الأمريكيّ بهدف تفكيك نظام طالبان الديني، الذي تلقّى قادته تدريبًا في المدارس الدينيّة الباكستانيّة بدعمٍ من الولايات المتّحدة في خلال المراحل الأخيرة من الحرب الباردة. وقد سمحت سنوات اللامبالاة الأمريكيّة لمسؤولي أجهزة الاستخبارات الباكستانيّة بتحويل المقاتلين الجهاديّين إلى حركة طالبان؛ والآن كُلِّف هؤلاء المسؤولون أنفسهم بتقويض الحركة. وعلى الرغم من الضغوط المتزايدة لبذل المزيد من الجهود لتقويض مقاومة طالبان، ظلّت باكستان غير قادرة على إقامة علاقاتٍ جيّدةٍ مع حكومتَيْ حامد كرزاي وأشرف غني. وعليه، تبنّت إسلام آباد سياسةً متباينةً في التعامل مع حركة طالبان. فبينما استمرّت في منح اللجوء لطالبان التي تشنّ حربًا داخل أفغانستان، تبنّت موقفًا أكثر صرامةً ضدّ الفصيل الباكستاني من الحركة، أي "حركة طالبان باكستان"، الذي استهدف الدولة الباكستانيّة ومواطنيها. وعلى الرغم من أنّ هذه السياسة التي تقوم على التمييز بين طالبان "الصالحة" وتلك "السيئة" تسبّبت في عداء كبير مع الحكومة الأفغانيّة المدعومة من الولايات المتّحدة، إلّا أنّ قرار باكستان بعدم قطع علاقاتها مع طالبان أثبت فائدته في نهاية المطاف. وبعد سنواتٍ من الجهود المتعدّدة الأطراف والإقليميّة للتوسّط في اتّفاق سلام، اضطلعت المؤسّسة الباكستانيّة بدورٍ مهمٍّ في جلب طالبان إلى طاولة المفاوضات مع الحكومة الأمريكيّة في الدوحة في العام 2020.

ومن اللافت بروز القطرييّن كوسيطٍ رئيسيٍّ بين متمرّدي طالبان والمفاوضين الغربيّين، وهو الدور الذي لم يُرضِ السعوديين أو الإماراتيين، خصوصًا في ظلّ الخلاف المتزايد مع قطر بسبب رغبتها في تأكيد هويّتها الفرديّة. وفي حين أدّى اتفاق الدوحة للسلام بين الولايات المتّحدة وطالبان إلى تهميش حكومة غني، قدّم لقوات حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتّحدة استراتيجيّة خروجٍ كانت في أمسّ الحاجة إليها.

صعوبات التعامل مع أفغانستان بعد انسحاب حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتّحدة

بما أنّ اتفاق الدوحة للسلام لم يتمكّن من توفير صيغةٍ لتقاسم السلطة، انهارت الحكومة الأفغانيّة المدعومة من الولايات المتّحدة، وسرعان ما بسطت طالبان سيطرتها بسرعة على كافّة أنحاء البلاد في غضون أيّامٍ من انسحاب حلف شمال الأطلسي في آب/أغسطس 2021.

كذلك، فإنّ استيلاء حركة طالبان على السلطة، الذي لم يواجه أيّ مقاومة فعليّة، مكّنها من تجاهل المطلب الدولي بتشكيل حكومةٍ تضمّ جميع الأطراف، فسيطر البشتون المتشدّدون على الحكومة الأفغانيّة "المؤقتة"، التي تتولّى السلطة منذ ثلاثة أعوامٍ. ولم يُسمَح للنساء بالعمل أو تولّي المناصب العامّة، ولا يزال موقف طالبان الصارم تجاه المجتمع المدني وعدم رغبة الحركة في السماح للفتيات بالدراسة بعد الصفّ السادس يشكّلان عقبتَيْن رئيسيّتَيْن تحولان دون الاعتراف بها كحكومةٍ شرعيّةٍ. علاوةً على ذلك، لا تزال حركة طالبان تواجه صعوبة في التعامل مع تنظيم الدولة الإسلاميّة في ولاية خراسان، الذي يصوّر نفسه على أنّه الجماعة الأكثر شرعيّة والأكثر التزامًا بالقيم الإسلاميّة، مقارنةً بحركة طالبان "المتعاوِنة والراضخة". ولعلّ التهديد المستمرّ الذي يشكّله تنظيم الدولة الإسلاميّة في ولاية خراسان قد منع طالبان من إظهار المزيد من المرونة بسبب الخوف من انسحاب العناصر الأكثر تشدّدًا من صفوفها. ومع ذلك، فإن حركة طالبان نفسها تتعاطف إيديولوجيًّا مع عددٍ من الجماعات المتطرّفة، بما في ذلك "حركة طالبان باكستان" وحتّى تنظيم "القاعدة"؛ ما يشكّل مصدر قلقٍ للدول المجاورة، مثال الهند وباكستان والصين وإيران.

أقرّ مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة في تقييمٍ أجراه للوضع في أفغانستان في شهر حزيران/يونيو بأنّ حركة طالبان تحوّلت من حركةٍ متمرّدةٍ إلى حكومة أمر واقع تتّسم بنموذج حكمٍ غير مرن على الإطلاق. وعلى الرغم من ممارساتها الوحشيّة، تمكّنت حركة طالبان من خفض منسوب العنف في البلاد، كما نجحت في الحدّ من الفساد، وتقليل زراعة الأفيون، وأصبحت قادرةً على توليد ما يكفي من الإيرادات لضمان استمرارية إدارتها، على الرغم من النبذ ​​الدوليّ الكبير لها.

وعلى الرغم من عدم اعتراف أيّ دولةٍ رسميًّا بطالبان حتّى الآن، أقامت حوالي اثنتَا عشرة دولةً إقليميًّة سفاراتٍ في كابول، ومعظم تلك الدول لديها دبلوماسيّون معتمدون من طالبان في السفارات الأفغانيّة على أراضيها. وقد أقامت الصين وباكستان وإيران وقطر والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة علاقاتٍ بحكم الأمر الواقع مع نظام طالبان. وبينما تدير الهند وتركيا سفارات في كابول، تخضع بعثات أفغانستان على أراضيهما لسيطرة طالبان جزئيًّا فحسب، إذ تضمّ أيضًا مسؤولين سابقين في الحكومة الأفغانيّة. وتلقّت الأمم المتّحدة طلباتٍ متكرّرة من طالبان للحصول على إعفاءاتٍ من حظر السفر، وتمّت الموافقة على الكثير منها، ما مكّن قادة طالبان من السفر إلى الإمارات العربيّة المتّحدة وقطر للمشاركة في حواراتٍ مع عددٍ من الجهات المعنيّة.

في نهاية شهر حزيران/يونيو، حضر ممثّلو أكثر من عشرين دولةً ومنّظمةً دوليّةً إلى الدوحة للاجتماع بكبار قادة طالبان، كجزءٍ من مناقشةٍ يسّرتها الأمم المتّحدة. وكان هذا اللقاء، المعروف باسم "الدوحة 3"، الجزء الثالث من عمليّةٍ مستمرّة بدأت منذ أكثر من عامٍ في محاولةٍ لإنشاء إطار متماسكٍ للتعامل مع الواقع على الأرض في أفغانستان. وفي حين وافقت طالبان للمرّة الأولى على المشاركة مباشرةً في المناقشة، لم تُسفِر مشاركتها عن أيّ نتائج حاسمة، على الرغم من أنّ جدول الأعمال لم يشمل سوى القضايا غير الخلافيّة، مثل تسهيل الأعمال وتعزيز تدابير مكافحة المخدرات. ومع أنّ المناقشات مع النساء الأفغانيّات وممثّلي المجتمع المدني أُبقيت على هامش الحوار الأساسي من أجل ضمان مشاركة طالبان، أبدى المسؤولون الغربيّون تحفّظات بشأن الإذعان لطلبات حركة طالبان بتمكين التجارة الإقليميّة، خوفًا من أن تخدم هذه الخطوة في المقام الأوّل المصالح الصينيّة والروسيّة. ويشعر منتقدون آخرون لحوارات الدوحة هذه أنّ الجهات المشاركة لا تبذل جهدًا كافيًا لمحاولة محاسبة طالبان على انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها بها محليًّا.

لا يزال الوضع الإنساني في أفغانستان متردّيًا، إذ تشير التقديرات إلى أنّ أكثر من نصف سكّان البلاد (حوالي 23.7 مليون نسمة) في حاجةٍ إلى المساعدات الإنسانيّة. وتتمتّع حركة طالبان بقدرةٍ محدودةٍ على توفير الخدمات الأساسيّة حتّى أو التعامل مع التحدّيات المعقّدة والمتزايدة، كالضغوط الناجمة عن تغيّر المناخ. مع ذلك، لا يُظهِر نظام طالبان أيّ علاماتٍ على انهيار وشيك، كما لا تبرز مؤشرات تدلّ على إمكانيّة الإطاحة به. لذا، فإنّ الاستمرار في عزله لن يُساعِد في إزاحته، بل سوف يفاقِم بؤس المواطنين الأفغان. بالتالي، من المهمّ النظر في المبادرات التي يمكن للقوى الإقليميّة الكُبرى القيام بها، بما في ذلك باكستان والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة وحتّى إيران، في سبيل تليين مواقف نظام طالبان وتلبية الاحتياجات الماسّة للشعب الأفغاني الذي طالت معاناته.

الاحتمالات والتحدّيات المستقبلية

في الحالة المُثلى، كان من الواجب على جميع الجهات الفاعلة الإقليميّة والدوليّة المهتمّة بالمساعدة في تحقيق الاستقرار في أفغانستان أن تتعاون لوضع خطّةٍ متماسكةٍ لممارسة تأثيرٍ إيجابيٍّ على طالبان، وتقديم المزيد من الدعم الإنسانيّ ومساعدات عابرة للقطاعات تساهم في التنمية البشريّة للسكّان المتضرّرين من النزاع والمضطهدين.

ومع ذلك، تشير بعض الدلائل على نشوء إجماعٍ دوليٍّ قويٍّ حول كيفيّة التعامل مع أفغانستان في ظلّ نظام طالبان. فباتت الصين وروسيا تزيدان من تعاملهما مع طالبان، وإن بحذر. لكنّ هذه التفاعلات مدفوعة بمصالح اقتصاديّة واستراتيجيّة، وليست جزءًا من جهودٍ أوسع لتحقيق التنمية المستدامة. أمّا الجهات الإقليميّة الأخرى فلا تتّفق حول كيفيّة التعامل مع نظام طالبان. فقد تدهورت علاقة باكستان مع طالبان بشكلٍ حادٍّ بسبب مقاومة الحركة لتسييج باكستان للحدود بين البلدَيْن بحكم الأمر الواقع. في المقابل، تشعر باكستان بالانزعاج من تردّد طالبان في تضييق الخناق على "حركة طالبان باكستان"، والمتمرّدين البلوش، الذين يُزعم أنّهم ما زالوا يتلقّون الدعم من الهند أيضًا. وإلى جانب التوتّرات الحدودية، نفّذت باكستان بعض الضربات الجويّة داخل أفغانستان، كما رحّلت ما لا يقلّ عن نصف مليون لاجئٍ أفغانيٍّ، وهي الآن على وشك الشروع في المرحلة الثانية من حملة الإعادة القسريّة.

وعلى الرغم من نجاح قطر في الاضطلاع بدورٍ دبلوماسيٍّ في ملفّ أفغانستان، لم يتّخذ مجلس التعاون الخليجي أيّ مبادرة فعليّة. فقد بدأ المجلس بمناقشة الوضع المستجدّ في العام 2022، وقدّم بعض المساعدات الإنسانيّة، ولكنّه افتقر لنهجٍ متماسكٍ حول كيفية التعامل مع أفغانستان. ولعلّ المشكلة لا تقتصر على مواقف الجهات الفاعلة الإقليميّة فحسب، بل هي أيضًا نتيجةَ قرار حركة طالبان التعامل مع أصحاب المصلحة الخارجيّين بطريقةٍ مجزّأة. وربّما تحاول الحركة استمالة شركاءٍ مختلفين لاستغلال هواجس بعضهم تجاه البعض الآخر بهدف الحصول على تنازلاتٍ أكبر. ومن الأمثلة على ذلك إعلان طالبان الأخير عن رغبتها في استثمار 35 مليون دولارٍ في ميناء "تشابهار" البحري العميق في إيران، الذي تشغّله الهند؛ لا يزال من غير الواضح إذا كانت طالبان ستتمكّن من القيام بهذا الاستثمار الضخم، ولكنّه مثالٌ على محاولةٍ واضحةٍ للتلاعب بهواجس باكستان الإقليمية، وإجبار حكومتها على تبنّي موقف أكثر ليونة تجاه مبادرات إصلاح العلاقات.

من جهتها، تواجه إيران مجموعةً من التحدّيات الثنائيّة مع أفغانستان. فبعد الإطاحة بطالبان في العام 2001، نجحت طهران في تنمية علاقاتها مع قيادة طالبان السنيّة المتشدّدة؛ حتّى إنّها قدّمت بعض الدعم العسكريّ لتمرّد طالبان. ومع ذلك، تُبدي إيران انزعاجها من محاولة نظام طالبان الجديد إقامة سدٍّ على نهر هلمند. كما وقعت بعض الاشتباكات الحدوديّة بين البلدَيْن بسبب هذا النزاع على تقاسم المياه.

وتتبنّى الولايات المتّحدة موقفًا متناقضًا تجاه تمكين التكامل الإقليمي الذي من شأنه أن يحسّن الوضع الاقتصادي في أفغانستان، التي تحكمها حركة طالبان، وغيرها من الخصوم الإقليميّين، مثل إيران. فسبق أن منحت الولايات المتّحدة الهند تنازلاتٍ للاستثمار في ميناء "تشابهار" في إيران، سعيًا إلى توفير المزيد من الطرق التجاريّة لأفغانستان عندما كانت الحكومة الأفغانيّة المدعومة من الولايات المتّحدة تتولى السلطة في البلاد. لكنّ الصفقة الجديدة التي وقّعتها الهند لتشغيل ميناء "تشابهار" لمدّة 10 سنوات دفعت الولايات المتّحدة إلى التهديد بفرض عقوبات. ويبقى أن نرى ما إذا كانت الولايات المتّحدة ستستمرّ في السماح للهند بتشغيل هذا الميناء، وكيف ستتعامل مع محاولات طالبان الاستثمار مباشرةً في "تشابهار". فإذا قرّرت الولايات المتّحدة ممارسة ضبط النفس، سيساعد ذلك في تحسين قدرة أفغانستان وآسيا الوسطى على الوصول إلى الأسواق الغربيّة. ومن دون التهديد الوشيك بفرض العقوبات، يمكن لأفغانستان الانخراط في تعاونٍ ثلاثيٍّ مع كلٍّ من إيران وباكستان في محاولةٍ لتعزيز التجارة، والتعامل مع الإرهاب العابر للحدود والتحدّيات الوشيكة المتمثّلة في إدارة الأنهار العابرة للحدود التي أصبحت تحت ضغطٍ متزايدٍ بسبب تغيّر المناخ. في المقابل، إذا استمرّت الولايات المتّحدة في عرقلة مثل هذا التآزر الإقليمي، ستستمرّ التوتّرات بين هذه الدول المجاورة في التعاظم، وستؤدّي إلى المزيد من زعزعة الاستقرار.

 

سّيد محمد علي هو باحثٌ غير مقيم في برنامج أفغانستان وباكستان التابع لمعهد الشرق الأوسط. يتمتّع الدكتور علي بخبرةٍ واسعةٍ في العمل مع المنظّمات المتعدّدة الأطراف والثنائيّة والحكوميّة وغير الحكوميّة بشأن تحدّيات التنمية الدوليّة المتنوّعة. 

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.

متعلق بالمنطقة

البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك