MEI

نظام عالمي لحوكمة الذكاء الاصطناعي يلوح في الأفق

ديسمبر 24, 2023

محمّد سليمان


مشاركة

في السنوات الأخيرة، شهد المجتمع الدولي زخمًا متزايدًا نحو وضع معايير لحوكمة الذكاء الاصطناعي. وقد رسَّخت المملكة المتحدة، حيث يزدهر قطاع الذكاء الاصطناعي، مكانتها كلاعب رئيسي في هذه المناقشات. في هذا السياق، عقد رئيس الحكومة البريطاني ريشي سوناك، خلال الشهر الماضي (1-2 تشرين الثاني/نوفمبر) قمّة "سلامة الذكاء الاصطناعي"، التي كانت بمثابة انتصار شخصي للزعيم البريطاني المُحاصَر الذي يسعى جاهدًا لتعزيز دور المملكة المتحدة في تحديد مسار الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي.

داخل المملكة، أعطت هذه القمّة فرصةً لرئيس الوزراء سوناك للترويج لنفسه كرجل دولة مؤثّر على الصعيد العالمي، لعلّه يحشد الدعم لنفسه ولحزب المحافظين الحاكم قُبيل الانتخابات. وسمحت له هذه القمّة أيضًا بإثبات قدرة المملكة المتحدة على تحقيق التوافق حول الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي، علمًا بأنّ الولايات المتَّحدة وفرنسا عجزتا عن تأدية هذا الدور بسبب القيود السياسية التي تُواجِهانها. بالنظر إلى المرحلة المقبلة، تهدف لندن إلى الحدّ من الدور غير المتناسب الذي تؤدّيه بروكسل في تأطير الحوار المتعلق بمشهد الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي، وهو هدف تسعى واشنطن هي الأخرى إلى تحقيقه. وعليه، عكست قمّة "سلامة الذكاء الاصطناعي"، المنعقدة في تشرين الثاني/نوفمبر المنصرم، جهود المملكة المتحدة نحو عدم تكرار تجربة القانون العام لحماية البيانات (GDPR) الصادر عن الاتحاد الأوروبي، والذي أصبح المعيار التنظيمي المُعتمَد لضمانات حماية البيانات الشخصيَّة عبر الحدود في جميع أنحاء العالم، مع الإشارة إلى أنَّ واشنطن أيضًا لا ترغب في تكرار هذه التجربة. في الوقع، ليس من مصلحة أيٍّ من القوى غير الأوروبية الفاعلة في مجال الذكاء الاصطناعي أن تُعاد الكرَّة بوضع قواعد الذكاء الاصطناعي وأنظمتها بدون مشاركتها.

حضر قمّةَ "سلامة الذكاء الاصطناعي" كبارُ قادة العالم وممثّلو القطاع، وسُجِّل حضور لافت للصين التي قلَّما تشارك في فعاليات مشابهة، ما أكّد الحاجة الملحّة إلى معالجة المخاطر المنطوية على استخدام الذكاء الاصطناعي، وأضفى على المؤتمر المزيد من الشرعية. وعلى الرغم من أنّ الوفد الصيني لم يكن برئاسة المسؤول الرسمي الأعلى رتبة، إلّا أنّ مشاركة بكين اعتُبِرَت قيّمةً جدًّا، بخاصة أنّ الصين معنيّة بشكل جوهري في تحديد المعايير الأساسية لحوكمة الذكاء الاصطناعي. بالتالي، تمكّن رئيس الوزراء سوناك، كما كان يأمل، من جمع الدول والشركات وقادة الفكر بنجاح لمناقشة تطورات الذكاء الاصطناعي.

مع ذلك، من الضروري فهم الأهمية الأوسع لهذه الفعالية ضمن سياقها العام. فمن الملحوظ أنّ القمّة تزامنت مع إصدار إدارة بايدن الأمر التنفيذي بشأن سلامة وأمن وموثوقية الذكاء الاصطناعي، ما زاد من تعقيد مشهد الحوكمة العالمية المتغيّر. صحيح أنّ القمّة أفضت إلى نتيجة ملموسة تمثّلت في "إعلان بلتشلي"، إلّا أنّ هذه الوثيقة تفتقر إلى أهداف سياساتيّة محدّدة وتستخدم لغة متواضعة نسبيًّا مقارنةً بالمبادرات الأكثر شمولًا، مثل قانون الاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي أو الأمر التنفيذي الصادر عن البيت الأبيض. ولكنْ، يوفّر الإعلان أساسًا مفيدًا لمناقشات مستقبلية حول الذكاء الاصطناعي. وتسلّط الوثائق الصادرة عن القمّة أيضًا الضوء على المبادئ الأساسية التي قد تمهّد الطريق لتحقيق توافق أوسع نطاقًا. فتمحور الإعلان، بشكل عام، حول ثلاث ركائز أساسية، وهي:

الفرص العالمية: التأكيد على قدرة الذكاء الاصطناعي على إحداث فرق إيجابي وتحسين رفاه الإنسان والسلام والازدهار على نطاق عالمي.

التطوّر والتعاون الشاملان: الاعتراف بالحاجة إلى تطوير الذكاء الاصطناعي بشكل آمن، وبالفرص التي يوفّرها لتحويل الخدمات العامة، والعلوم، والاستدامة، وحقوق الإنسان، والدعوة إلى بذل جهود شاملة وتعاونية في تطوير الذكاء الاصطناعي.

معالجة المخاطر وضمان السلامة: الإقرار بالمخاطر الجدية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وبخاصة على الحدود، وبالحاجة الملحة إلى معالجة مسائل مثل حقوق الإنسان، والشفافية، والإنصاف، والمساءلة، والسلامة، إلى جانب الالتزام بالتعاون الدولي، والسياسات التي تحدّ من المخاطر، والأبحاث العلمية التي تضمن التطوّر والنشر المسؤولَيْن للذكاء الاصطناعي.

غير أنّ قانون الاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي، الذي هدفَ إلى حثّ الشركات التي توفّر منتجات الذكاء الاصطناعي في السوق الأوروبية على الالتزام بالقواعد الشاملة، والأمر التنفيذي الصادر عن الولايات المتّحدة، الذي صُمِّم كنموذج للأنظمة العالمية في هذا المجال، يفوقان القمّة أهمِّيةً. فمن المرجَّح أنّ هاتَين المبادرتَين، نظرًا إلى دقّتهما وقابليتهما للتنفيذ، هما اللتان ستوجّهان مستقبل حوكمة الذكاء الاصطناعي، وستتفوّقان بذلك على القمّة التي استضافتها المملكة المتحدة، والتي كانت شاملة ولكن أقل تأثيرًا.

لا شكّ أنّ تعقيداتٍ كثيرةً تعرقل التوفيق بين وجهات النظر المختلفة، وبخاصة الجدل القائم حول المخاطر القصيرة الأمد للذكاء الاصطناعي، مثل المعلومات المضلّلة والنتائج المتحيّزة، مقابل التهديدات الوجودية المُحتمَلة الناجمة عن الذكاء الاصطناعي. ففي حين أنّ قمة 1-2 تشرين الثاني/نوفمبر سعت إلى معالجة المخاطر طويلة الأمد وتوفير منصة لمناقشة مختلف الآراء، واجهت القمّة تحديات في تحقيق أيّ نتائج ملموسة.

من المقرَّر عقد مؤتمرَيْن آخرَيْن في كوريا الجنوبية وفرنسا استكمالًا للقمّة، ما يشير إلى النيّة المستمرّة لخوض المناقشات. ومع تبلور نتائج هذه النقاشات في المرحلة المقبلة، لا يزال من المتوقَّع أن يكون تأثير قانون الاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي والأمر التنفيذي الصادر عن إدارة بايدن أكثر تأثيرًا من قمّة بلتشلي في تحديد المسار العالمي لحوكمة الذكاء الاصطناعي. غير أنّ دولًا مثل الهند والولايات المتحدة والمملكة المتحدة ستواصل تعزيز نُهُجها الاستباقية في حوكمة الذكاء الاصطناعي أملًا في إضعاف قدرة الاتحاد الأوروبي على صياغة المعايير العالمية بمفرده وفقًا للأولويات الأوروبية.

في الشرق الأوسط، تحتلّ كلا من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مكانة بارزة في المناقشات حول الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي. فقد دعمت السعودية، التي هي عضو في مجموعة العشرين وتتمتّع باقتصاد مزدهر، مساعي المجموعة في هذا المجال ومثّلت وجهة نظر الأعضاء غير الغربيين إزاءه. وتتماشى جهود المملكة السعودية مع المبادرات المحلية في الرياض الهادفة إلى تعزيز قدرات المملكة على مستوى الذكاء الاصطناعي، ولا سيما في تطوير نماذج لغوية واسعة النطاق باللغتَين الإنكليزية والعربية. وفي الوقت نفسه، أظهرت الإمارات العربية المتحدة، التي تمثّل المركز الإقليمي الأهم للتكنولوجيا، مشاركة أكبر في دعم قطاع التكنولوجيا واحتضان وجهات نظر متنوعة حول حوكمة الذكاء الاصطناعي.

في حين أن قمّة "سلامة الذكاء الاصطناعي" في المملكة المتحدة شكلت إنجازًا دبلوماسيًّا وخطوة واضحة في الاتجاه الصحيح، يبقى تأثير القمّة مرتبطًا بقدرة المجتمع الدولي على التعامل مع مختلف الأطراف المعنيّة بحوكمة الذكاء الاصطناعي، علمًا بأنّ اللوائح القابلة للتنفيذ والمبادرات الشاملة ستؤدّي دورًا حاسمًا على هذا الصعيد.

 محمد سليمان هو مدير برنامج التقنيات الاستراتيجية والأمن السيبراني التابع لمعهد الشرق الأوسط، ومدير في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في شركة "مكلارتي أسوشيتس" McLarty Associates)). يركّز في عمله على التقاطع بين التكنولوجيا والجغرافيا السياسية والأعمال التجارية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

 

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.
البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك