مواقف باكستان المتقلّبة من محنة الفلسطينيين والعلاقات مع إسرائيل
سبتمبر 04, 2024سيد محمد علي
سيد محمد علي
من عجيب المفارقات أنّ باكستان وإسرائيل دولتان نشأتا باسم الدين، في الوقت نفسه تقريبًا (في عامَيْ 1947 و1948 على التوالي)، وعلى الرغم من ذلك لا تربطهما علاقاتٌ رسميّة. إذ تحمل جوازات السفر الباكستانيّة كافّةً إشارةً إلى أنّ الوثيقة صالحةٌ للسفر إلى جميع بلدان العالم، باستثناء إسرائيل. ومع أنّ العداء الباكستاني لإسرائيل نشأ بسبب تهجير الفلسطينيين، إلّا أنّه شكّل وسيلةً لتعزيز مكانة باكستان في العالم الإسلامي والوقوف في وجه الهند، التي تستمرّ في توثيق علاقاتها بإسرائيل.
في ضوء الاضطرابات الحاليّة في الشرق الأوسط، التي بدأت مع هجوم حركة "حماس" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر على إسرائيل والردّ غير المتناسب من جانب الأخيرة وحملتها العسكريّة المُستمِرّة في غزة، التي تكاد تشعل نزاعًا أوسع في المنطقة، من المهمّ أن ننظر في ردود فعل البلدان الكبرى ذات الأغلبيّة المُسلِمة خارج المنطقة على هذه التطوّرات.
تاريخٌ مُعقَّدٌ
بعد فترةٍ وجيزةٍ من تأسيسها، عارضت باكستان فكرة إنشاء دولةٍ يهوديّةٍ في فلسطين وصوّتت ضدّ خطّة تقسيم فلسطين من خلال لجنة الأمم المتّحدة الخاصة لفلسطين. وبعد أن حصلوا على وطنٍ مستقلٍّ للمسلمين نتيجة التقسيم البريطاني لشبه القارّة الهنديّة، أراد قادة باكستان تعزيز التضامن الإسلامي الشامل، كما دفعتهم السياسة الواقعيّة إلى كسب ودّ القوى الناشئة في الشرق الأوسط. وعليه، انحازت باكستان إلى جانب الدول العربيّة في صراعاتها مع إسرائيل، فكانت الدولة الوحيدة، إلى جانب العراق والمملكة المتّحدة، التي اعترفت بضمّ الأردن للضفّة الغربيّة في خلال الحرب العربيّة-الإسرائيليّة في العام 1948. حتّى إنّ طيّارًا باكستانيًّا أسقط طائرةً إسرائيليّةً بواسطة طائرةٍ مقاتلة سوريّة في العام 1967 في خلال هذه الحرب.
إلّا أنّ باكستان لم تكن دومًا من أشدّ المؤيّدين للشعب الفلسطيني نفسه، ولا سيّما عند المفترقات التي تعارضت فيها القضيّة الفلسطينيّة مع المصالح الوطنيّة لدولٍ عربيّة أخرى. ففي العام 1970، قاد العميد في الجيش الباكستاني ضياء الحقّ، الذي أصبح لاحقًا قائد الجيش ورئيس البلاد، هجومًا كبيرًا على اللاجئين الفلسطينيين المتململين في الأردن، المدعومين من العراق وسوريا، في حدثٍ أصبح يُعرَف منذ ذلك الحين باسم "أيلول الأسود". في المقابل، حاول عددٌ كبيرٌ من القادة الديمقراطيّين والعسكريّين البارزين في باكستان طوال عقودٍ خلت النظر في إمكانيّة تطبيع العلاقات مع إسرائيل. حتّى إنّ قائد الجيش الباكستاني آنذاك ورئيس البلاد، الجنرال برويز مشرّف، حضر عشاءً رفيع المستوى جمعه بزعماءٍ يهود أميركيّين في نيويورك في العام 2005، وصرّح خلاله أنّه مستعدٌّ لاتّخاذ خطواتٍ نحو إقامة علاقاتٍ مع إسرائيل في حال حقّقت عمليّة السلام في الشرق الأوسط تقدّمًا ملحوظًا. من جهتها، حرصت إسرائيل أيضًا على إقامة علاقاتٍ مع هذه الدولة المُسلِمة الكثيفة بالسكّان في جنوب آسيا، بدءًا بالعلاقات التجاريّة. ومع ذلك، لا تزال باكستان تؤيّد رسميًّا حلّ الدولتَيْن وإقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ ذات سيادة، وقابلة للحياة ومتّصلة جغرافيًا، على أساس حدود ما قبل العام 1967، تكون عاصمتها القدس.
من جهةٍ أخرى، حافظت الجماعات الدينيّة السياسيّة في باكستان على موقفٍ ثابتٍ مناهضٍ لإسرائيل طوال عقودٍ من الزمن. وفي مراحل مختلفة، استغلّت الحكومة الباكستانيّة "ورقة إسرائيل" لتعزيز السرديّة المعادية للهند. فإلى جانب دعم المطالبة بدولةٍ فلسطينيّةٍ على أساس حدود ما قبل العام 1967، غالبًا ما يُقارَن النضال الفلسطيني ضدّ الاحتلال الإسرائيلي بنضال الكشميريين ضدّ الاحتلال الهندي.
وعلى هذا الأساس، يتمّ الخلط بين الهويّة اليهوديّة والإسرائيليّة؛ فيتبادل الساسة الباكستانيّون البارزون بين الحين والآخر اتّهامات بالتآمر والتعاطف مع الصهاينة. علاوةً على ذلك، برّرت الجماعات المسلّحة المتطرّفة، التي تستهدف الدولة الباكستانيّة والمواطنين، الاعتداء على العاملين في مجال الرعاية الصحيّة، مُدّعيةً أنّ حملات التلقيح هي جزءٌ من مؤامرةٍ يهوديّةٍ (ومسيحيّة) لجعل الأطفال المسلمين عاجزين جنسيًّا.
على الرغم من الانتشار الواسع للمشاعر المُعادية لإسرائيل في باكستان، نشأ بعض الزخم في الداخل لتطبيع العلاقات مع إسرائيل في أعقاب"اتفاقيّات إبراهيم" في العام 2020، بعد أن وقّعت الإمارات العربيّة المتّحدة والبحرين اتفاقيّات تطبيع مع إسرائيل. ووسط توقّعاتٍ بحذو المملكة العربيّة السعوديّة حذو الإمارات والبحرين في إقامة علاقاتٍ مع إسرائيل، ارتأى بعض المحلّلين الباكستانيّين أنّ الوقت قد حان لتغيّر باكستان موقفها المناهض لإسرائيل. وأشار بعض المؤيّدين لهذا التوجّه إلى الفوائد الاقتصاديّة المزعومة للاعتراف بإسرائيل، التي قد تشمل التعاون التكنولوجي لتعزيز المحاصيل الزراعيّة مثلًا. وتشمل دوافع السياسة الواقعيّة الأخرى لإقامة علاقاتٍ دبلوماسيّة مع إسرائيل، الحاجة إلى إضعافالتحالف الأمني المُتنامي بين إسرائيل والهند، واسترضاء الولايات المتّحدة والإمارات العربيّة المتحدة، ولا سيّما بعد تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل في العام 2020. ولكنّ المأساة المستمرّة في غزّة على مدى الأشهر العشرة الماضية، وتصاعد التوترات في الشرق الأوسط عمومًا، صعّبا على المملكة العربيّة السعوديّة وباكستان الاعتراف بإسرائيل.
تأثير حرب غزّة
تصاعدت المواقف المعادية لإسرائيل داخل باكستان، أسوةً بمناطق أخرى من العالم الإسلامي، بسبب الحرب في غزة والعنف المتزايد في الضفّة الغربيّة نتيجة المداهمات العسكريّة الإسرائيليّة وهجمات المستوطنين. في البداية، أصدرت وزارة الخارجيّة الباكستانيّة بيانًا حذِرًا عبّرت فيه عن قلقها إزاء تصاعد العنف في المنطقة. ولكنْ، مع استمرار ارتفاع حصيلة القتلى بين صفوف المدنييّن الفلسطينيّين، راح المسؤولون والسياسيّون الباكستانيّون يدينون الحملة العسكريّة الإسرائيليّة في غزة بعباراتٍ لا لُبس فيها؛ وغالبًا ما كانوا يشيرون إليها باعتبارها "إبادة جماعيّة". كما باتت وسائل الإعلام في البلاد تشير بشكلٍ متكرّر إلى الخسائر المدنيّة المأساويّة التي نجمت عن الغزو الإسرائيلي. وفي نيسان/أبريل من العام الجاري، تبنّى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة قرارًا غير مُلزِم اقترحته باكستان نيابةً عن منظّمة التعاون الإسلامي، يدعو إلى وضع حدٍّ لبيع المساعدات العسكريّة ونقلها وتحويلها إلى إسرائيل. وعلى الرغم من استياء الولايات المتّحدة، استضافت إسلام آباد الرئيس الإيراني آنذاك، إبراهيم رئيسي، في أواخر نيسان/أبريل 2024، بعد أشهرٍ قليلةٍ فقط من ضرباتٍ صاروخيّة متبادلة عبر الحدود بينهما استهدفت إرهابيّين مزعومين في منتصف شهر كانون الثاني/يناير. كذلك، ندّدت حكومة باكستان بأشدّ العبارات باغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" آنذاك، إسماعيل هنية، في طهران في نهاية شهر تمّوز/يوليو. ووصف قرارٌ برلمانيّ عمليّة القتل هذه بأنّها "مؤامرةٌ مُتعّمَدةٌ لتخريب الجهود الرامية إلى وقف القمع والوحشيّة المستمرَيْن ضدّ الفلسطينيين". ومع ذلك، لم تُظهِر حكومة باكستان ولا جيشها أيّ نيّةٍ لتقديم دعمٍ ملموسٍ لأيٍّ من الدول الإقليميّة التي ترزح تحت وطأة هذا الصراع.
وعلى غرار موقف الحكومة الباكستانيّة، بات صنّاع الرأي في باكستان يستغلّون محنة الفلسطينيين لتشويه سمعة الهند، جارتهم وخصمهم اللدود. فتسلّط وسائل الإعلام المختلفة الضوء باستمرارٍ على العلاقات الوثيقة بين الحكومة المُتشدِّدة في إسرائيل والحكومة القوميّة المُتطرِّفة في الهند بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، توقّفت الهند في عهده عن تقديم الدعم للفلسطينيين. كذلك، اتّهم مسؤولٌ باكستانيٌّ سابقٌ كبير مؤخّرًا وكالة التجسّس الهنديّة الأبرز بالتعاون مع الإسرائيليّين لاغتيال هنيّة. وزعم صحافيٌّ كبيرٌ في قناةٍ إخباريّةٍ شهيرةٍ أنّ الهجوم الأخير لحركة "حماس" على إسرائيل ساعد في إحباط مؤامرةٍ هنديّةٍ-أميركيّة ضدّ الصين، التي تعزّز تحالفها مع باكستان، من خلال إفشال صفقة الممرّ الاقتصاديّ بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا التي تقودها الولايات المتّحدة والتي تمّ توقيعها العام الماضي.
تشكّل إثارة المشاعر المُعادية لإسرائيل هدفًا سهلًا للحكومة الائتلافيّة الضعيفة، التي تلهث لاكتساب الشرعيّة وسط استياءٍ واسع النطاق إزاء الوضع الاقتصاديّ المتردّي في البلد والتجاذب السياسيّ المستشري. وقد صنّفت الحكومة الباكستانيّة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إرهابيًّا ومجرم حرب. وإضافةً إلى إرسال شحنات من المساعدات الإنسانيّة إلى الفلسطينيين، وعدت الحكومة الباكستانيّة أيضًا في تمّوز/يوليو بتشكيل لجنةٍ لمقاطعة الشركات الدوليّة التي تُعتبَر داعمةً لإسرائيل. وقد شارك عددٌ كبيرٌ من المستهلكين في المدن الباكستانيّة بالفعل في حملات المقاطعة هذه. ومع ذلك، من غير المرجّح أن تحذو الحكومة نفسها رسميًّا حذو مواطنيها، نظرًا لخطر فقدان إيرادات هي في أمسّ الحاجة إليها، والخوف من إثارة غضب المُقرضين الدوليّين مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، الذين لن يقفوا متفرّجين إزاء أيّ محاولاتٍ لمنع الشركات الأجنبيّة من الوصول إلى السوق الباكستانيّة. فضلًا عن ذلك، لا مكان للأخلاق في ما يتعلّق بتعزيز المصالح الوطنيّة. وبالتالي، إذا نجحت الجهود الحاليّة للتوصّل إلى وقفٍ حقيقيٍّ للأعمال العدائيّة، وتولّت دول الخليج الكبرى دورًا بارزًا في جهود إعادة الإعمار في الأراضي الفلسطينيّة التي مزّقتها الحرب، فقد تقرّر الحكومة الباكستانيّة مرّة جديدة إعادة النظر في موقفها تجاه إسرائيل.
سّيد محمد علي هو باحثٌ غير مقيم في برنامج أفغانستان وباكستان التابع لمعهد الشرق الأوسط. يتمتّع الدكتور علي بخبرةٍ واسعةٍ في العمل مع المنظّمات المتعدّدة الأطراف والثنائيّة والحكوميّة وغير الحكوميّة بشأن تحدّيات التنمية الدوليّة المتنوّعة.