في يوم الاستقلال الباكستاني، الأضواء تُسلَّط على الانقسام الأيديولوجيِّ المتزايد
أغسطس 20, 2024مارفن ج. واينبوم
مارفن ج. واينبوم
نادعلى سلهريا ومارفن ج. واينبوم
في 14 آب/أغسطس، احتفلت باكستان بالذكرى الثامنة والسبعين لاستقلالها على خلفية انقسامٍ أيديولوجيٍّ ومجتمعيٍّ آخذٍ في الاتِّساع بين مُؤيِّدي القوميَّة الإسلاميَّة والمُدافِعين عن الديمقراطيَّة. واغتنمَ القادة العسكريُّون والسياسيُّون هذه المناسبة، إدراكًا منهم لهشاشة باكستان أمام عدم الاستقرار السياسي وانهيار الترابُط الاجتماعيِّ، وسعى كلٌّ منهم إلى صياغة الخطاب الوطنيِّ والتأثير على الرأي العامِّ بسرديَّاته الخاصَّة.
المبادئ الديمقراطيَّة للسياسيِّين مقابل القوميَّة الإسلاميَّة للعسكريِّين
بما أنَّ السياسيين يعتمدون بدرجةٍ كبيرةٍ على الإطار الديمقراطيِّ لضمان بقائهم، فقد أظهروا ولاءهم للمبادئ الأساسية للديمقراطيَّة، والنظام الدستوريِّ، وفصل السلطات، رابِطين هذه القِيَم بإرث النضال السياسيِّ التاريخيِّ للآباء المؤسِّسين للدولة الباكستانيَّة. في المقابل، تسعى المؤسَّسة العسكريَّة، التي تعمل غالبًا بشكلٍ مستقلٍّ عن النظام الديمقراطيِّ، إلى أسلمة الأيديولوجيَّة الباكستانيَّة والتشديد على أهميتها في تشكيل الهويَّة الوطنيَّة. وقد عبَّرَ الجيش أحيانًا عن هذه العلاقة الوثيقة بين الإسلام والرؤية الاستراتيجيَّة العسكريَّة، ولا سيّما خلال عهد الجنرال محمد ضياء الحقّ في أواخر السبعينات والثمانينات.
يُعرَف رئيس أركان الجيش الباكستاني الجنرال عاصم منير بمعتقداته الدينيَّة المُحافِظة والمتشدِّدة، وبكونه حافظًا للقرآن، وهو يحرص باستمرارٍ على تطعيم تصريحاته بالنداءات الدينيَّة. كذلك، فهو يقتبس غالبًا من النصوص الإسلاميَّة ويعقد مقارناتٍ من التاريخ الإسلاميِّ، ما يعكس سعيه إلى إثبات نفسه كقائدٍ عسكريٍّ لديه معرفةٌ إسلاميَّةٌ معمَّقةٌ وقادرٌ على توفير الإرشاد الدينيِّ إلى جنوده. وفي ظلِّ قيادته، قدَّمَ الجيش الباكستاني نفسه كقوَّةٍ من جنود الله الذين يخوضون نضالًا بارًّا ضدّ أعداء الله، مُلتمِسين النصر الموعود من الله.
أبرز النقاط في خطاب الجنرال منير بمناسبة يوم الاستقلال
تبعًا لهذا التقليد، استشهدَ الجنرال منير مُجدَّدًا، في خطابه الأخير بمناسبة يوم الاستقلال، بالمبادئ الإسلاميَّة ورَبَطَها بالأيديولوجيَّة والهوية الوطنية، فألقى كلمةً بليغةً يمكن تقسيمها إلى أربعة مَحاوِر منفصلة. وشكَّلَ كلامه، الذي جمعَ بين الخطاب الهجوميِّ والدفاعيِّ، دحضًا مباشرًا لاتِّهامات كثيرةٍ ساقَها عمران خان ضدَّ الجيش.
في الجزء الأوّل من خطابه، شرحَ الجنرال منير رؤيته للأيديولوجيَّة الوطنيَّة الباكستانيَّة، مؤكِّدًا أنَّ باكستان في الأساس دولةٌ إسلاميَّةٌ ترمي إلى الحفاظ على هويةٍ إسلاميةٍ منفصلةٍ. وعبَّرَ عن رفضه للقِيَم الغربيَّة، واصفًا إيَّاها بأنَّها غير مناسبةٍ للبلد، واستخدمَ هذه الحجَّة لتبرير دور الجيش باعتباره الوصيَّ الوحيد على الدولة والإسلام. وربطَ استقرار باكستان وتقدُّمها بقوّة جيشها، مُحذِّرًا من أنَّ إضعاف القوَّات المسلَّحة يُفضي إلى إضعاف الدولة نفسها.
في الجزء الثاني من الخطاب، تحدَّثَ الجنرال منير عن التهديدات التي تواجهها باكستان، ورَكَّز على الصراعات والفوضى الداخلية. وحدَّدَ عدوَّيْن داخليَّيْن رئيسيَّيْن: "الإرهابيُّون الرقميُّون" الذين لديهم دوافع سياسيَّةٌ على حدِّ تعبيره -أي الذين يتآمرون ضدَّ الجيش أو يُشوِّهون سُمعته عبر منصَّات التواصل الاجتماعي- والجماعات المتطرِّفة العنيفة، أو فتنة الخوارج -وهو مصطلح يستعمله الجيش لوصف "حركة طالبان باكستان". أدانَ الجنرال منير "الإرهابيِّين الرقميِّين" لقيامهم بأنشطةٍ زعمَ أنَّها مُناهِضةٌ للدولة وتنتهك الدستور من خلال إساءة استخدام حرّيَّة التعبير لأغراضٍ تدميريَّةٍ. وندَّدَ أيضًا بالجماعات المتطرِّفة العنيفة مُشيرًا إلى أنَّها غير إسلاميةٍ وأنَّ أعمالها تتعارض مع الشريعة.
في الجزء الثالث من خطابه، عرضَ الجنرال منير الحلَّ العسكري لهذه التحدِّيات من خلال رؤية "عزم الاستحكام" التي أُطلِقَت مؤخَّرًا والتي تتضمَّن نهجًا مُنسَّقًا ومتعدِّد الأبعاد يجمع بين الأعمال الحربيَّة الفعليَّة، والتدابير العسكرية والأمنية التي لا تنطوي على قتالٍ مباشرٍ وتهدف إلى مكافحة الإرهاب والاستقطاب السياسيِّ على حدٍّ سواء.
أمّا الجزء الأخير من خطاب الجنرال منير فتطرَّقَ إلى مَطالِب الجيش للأمَّة، داعيًا إلى ثقة الشعب الثابتة. وأكَّدَ أنَّ الثقة المتبادَلة والعلاقة المتينة بين الشعب والقوّات المسلّحة هي الركيزةُ الأهمُّ للدولة. وحثَّ الجمهور، ولا سيّما الشباب، على توخِّي الحذر ضدّ الحملات المُعادِية التي تستهدف الجيش. وإذ بثَّ الجنرال منير الأملَ بمستقبلٍ أكثر إشراقًا وأشادَ بتضحيات الشعب والقوّات المسلّحة في مكافحة الإرهاب، اختتمَ كلمته بتحذيرٍ من أنَّ أعداء الله وباكستان، الذين ينشرون اليأس والفوضى، سوف يتكبَّدون خسارةً مُدوِّيةً، واعِدًا بردٍّ سريعٍ وحاسمٍ من الجيش، سواء بالأساليب التقليديَّة أو غير التقليديَّة.
الخطاب المضاد لعمران خان
يُركِّز خانَ في خطابه الشعبوي على تصوير المؤسَّسة العسكريَّة باعتبارها مسؤولةً عن قيادة البلد إلى مُفتَرَقٍ خطيرٍ؛ فهو يتّهم الجيش بفرض أحكامٍ عسكريَّةٍ غير مُعلَنةٍ وشنِّ حملةٍ قمعيةٍ ضدَّه وضدَّ حزبه، كما يَصِف مقاومته أيضًا بأنَّها مُقاوَمةٌ مُحِقَّةٌ؛ أي جهادٌ من أجل الحرّيَّة الحقيقيَّة، بهدف الدفاع عن الدستور واستعادة الديمقراطيَّة.
رفضَ خان مزاعم الجيش حول "الإرهاب الرقميِّ"، معتبرًا أنَّها تأتي بنتائج عكسية، وأنَّها تُؤجِّج الانقسام المتزايد بين الجيش والمواطنين. فيعتبر خان أنَّ 90 في المئة من الباكستانيين يؤيّدون حزبه "حركة الإنصاف الباكستانية"، وهو يُحذِّر من العواقب التي ستنجم عن تصنيف مؤيِّديه على أنَّهم إرهابيون. ويؤكّد خان أنَّ النظام السياسي الحالي، الذي يُسيطر عليه الجيش، هو استهزاءٌ بالديمقراطية، زاعِمًا أنَّ نظامًا استبداديًّا غير شرعيٍّ استولى على تفويض الأغلبية لحزب "حركة الإنصاف الباكستانية" في انتخاباتٍ غير نزيهةٍ في 8 شباط/فبراير 2024. ومؤخَّرًا، اتَّهَمَ"خان" كبير القضاة في باكستان القاضي فايز عيسى بالتحيُّز ضدَّ حزبه والتصرُّف بأوامر عسكريَّةٍ. ويدعو خان إلى حلولٍ تختلف تمامًا عن حلول الجنرال منير؛ أي إطلاق سراحه وغيره من السجناء السياسيّين على الفور، واستعادة تفويضه السياسي المزعوم من خلال إجراء انتخاباتٍ جديدةٍ. وفي مقارنةٍ مع تغيير النظام الذي حصلَ مؤخّرًا في بنغلاديش، زعمَ خان أنَّ الوضع في باكستان أكثر سوءًا، مُحذِّرًا من إمكانية حدوث اضطرابات إذا لم تُنفَّذ الحلول التي اقترحَها.
تصاعد وتيرة النزاعات والمخاوف
يُعَدُّ النزاع المتزايد بين خان والقيادة العسكرية سببًا رئيسيًّا لزعزعة استقرار باكستان، حيث تدورُ مواجهةٌ شبه فتَّاكةٍ بين النهج الشعبوي والنهج الاستبدادي. ويكشف الخطاب الاستقطابي من الجانبَيْن عن شقاقٍ عميقٍ داخل باكستان حول مفاهيم الوطنيَّة والقوميَّة الراسخة. وعلى الرغم من هذا التوتُّر، يؤثِّر الخوف المتبادل على سلوك "حركة الإنصاف الباكستانية" الشعبوية والمؤسّسة العسكرية. من ناحية، تخشى الحركة أن يؤدّي خطابها الحادُّ ضدَّ المؤسَّسة العسكريَّة إلى استجابةٍ أكثر قسوةً، ما قد يقودُ البلد إلى حُكمٍ عسكريٍّ مباشرٍ ومفتوحٍ إلى أجل غير مُسمًّى. من ناحية أخرى، يخشى الجيش أن تؤدِّي شعبية خان إلى احتجاجاتٍ عامّة، ما قد يُحدِث حالةً من الفوضى على غرار ما حصلَ في بنغلاديش، حتَّى إنَّ الأمر قد يُفضي إلى تعاطفٍ ومعارضةٍ داخليَّةٍ ضمن صفوف المؤسَّسة العسكريَّة. وفي حين يهدف خان إلى حصر دور المؤسّسة العسكريَّة بالدفاع كما ينصُّ عليه الدستور والحدّ من تأثيرها السياسيّ، فإنَّ هدف الجيش لا يقتصر على هزيمة خان، بل أيضًا منع أيِّ سيناريو مستقبليٍّ يمكن لشعبية أحد السياسيين فيه أن تهدِّد الوضع القائم.
وقد يُفسِّر هذا الخوف لماذا لجأ الجنرال منير، في مواجهة أزمة الشرعية، إلى الأوامر الإسلامية لتعزيز التراتُبية والانضباط والشعور بالاعتزاز بين الجنود، وتحويل ولائهم لقائد الجيش رمزيًّا إلى قضيةٍ إيمانيةٍ تتجاوز الواجب العسكريَّ. وفي أعقاب خطاب الجنرال منير، يبدو أنَّ الجيش يُكثِّف جهوده لاستئصال الأشخاص الذين يعتقد أنَّهم مسؤولون عن عدم الاستقرار السياسي وإحكام قبضته على خان ومؤيِّديه، بما في ذلك داخل صفوف الجيش. وخيرُ مثالٍ على ذلك اعتقالُ رئيس المخابرات السابق الجنرال (المتقاعد) فايز حميد -الذي يُشير إليه عمران خان باعتباره "شخصيةً ثمينةً"– وإخضاعه للمحاكمة العسكرية، إضافةً إلى ثلاثة ضبّاط عسكريين متقاعدين آخرين، بتهمة إساءة استخدام السلطة والانخراط في أنشطة تُهدِّد الاستقرار الوطني.
دعم الحكومة المتزايد للجيش
زعمت حكومة الرابطة الإسلامية الباكستانية-نواز، التي أشادت بإجراءات الجيش، أنَّ حميد والضبّاط الآخرين يتصرّفون بناءً على أوامر من خان في محاولةٍ لنشر الفوضى في باكستان، وكانت انتفاضة 9 أيّار/مايو -التي شهدت هجمات على منشآتٍ عسكريَّةٍ في مختلف أنحاء البلد- هي محاولتهم الأبرز. وألمحَت الحكومة إلى الكشف عن معلوماتٍ مهمَّةٍ واعتقالات أخرى في الأيّام المقبلة. وانطلاقًا من تفاؤلها بهذه التطوُّرات، تسعىالرابطة الإسلامية الباكستانية إلى محاكمة خان في نهاية المطاف أمام محكمةٍ عسكريةٍ. وإذا ظهرت أدلّة تُثبت وجود علاقةٍ بين حميد وخان في التخطيط لأعمال الشغب التي وقعت في 9 أيّار/مايو، فقد يتّخذ الجيش الإجراءات اللازمة، علمًا أنَّه يتردَّد حتَّى الآن في محاكمة خان لأسبابٍ مختلفةٍ. ومن شأن ذلك أن يُحوِّل القضية من المحاكم المدنية -حيث تلقّى خان أحكامًا تخفيفيةً من خلال تعليق العقوبات الصارة بحقِّه- إلى محكمةٍ عسكريةٍ، حيث يصعب إبطال الأحكام.
خسارة لجميع الأطراف
يبدو أنَّ خان يُدرِك أنَّ نقله إلى عهدة الجيش باتَ أمرًا حتميًّا، وقد يُجرِّده ذلك من خطِّه الدفاعيِّ الأخير من خلال شلِّ قدرته على التواصل مع العالم الخارجي، وهو اتّصالٌ استطاعَ الحفاظ عليه بفعّالية أثناء الاحتجاز المدني. وإذ أدركَ أنَّ خيار المصالحة مع قائد الجيش لم يعُد متاحًا، يعتمد خان الآن على حزبه لـتشكيل تحالفاتٍ مع مجموعاتٍ سياسيَّةٍ أخرى تُشاطِره المَظالِم نفسها ضدَّ المؤسَّسة العسكريَّة، على أمل إشعال فتيل الاحتجاجات على نطاقٍ واسعٍ، ولا سيّما في المناطق المضطربة في "بلوشستان" و"خيبر بختونخوا". ولكنَّ هذه الاحتجاجات لن تكونَ كافيةً إذا لم تتوسَّع لتشمل "بنجاب" و"السِّند"، حيث يعيش أغلب سكّان باكستان. غير أنَّ المشهد السياسي المُشرذَم في البلد يجعل هذا الأمر بمثابة تحدٍّ كبيرٍ، ما يُقلِّل من احتمالات اندلاع انتفاضة على الصعيد الوطني.
يُعوِّل خان أيضًا على كبير قضاة باكستان العتيد منصور علي شاه على أمل أن يُحرِّره من قبضة الجيش. في المقابل، من غير المستَبعَد أن تمنع الحكومة حدوث ذلك عن طريق التمديد لكبير القضاة الحالي فايز عيسى. وإذ يبلغ خان الجولات النهائية من معركته مع المؤسّسة العسكرية، لا يزال يُعلِّق آماله على دعمه الشعبي الساحق الذي قد يؤثّر على المؤسَّسة العسكريَّة، مُدرِكًا الضرر الحتمي الذي قد يلحق بها نتيجة اغتياله سياسيًّا.
في هذه المواجهة التي تلوحُ في الأفق بين خان وقائد الجيش، باتَ واضحًا أنَّ المخاطر الكبيرة ستُفضي على الأرجح إلى وضعٍ يخرج منع الجميع خاسرًا. فمن المستبعَد أن يتحقَّق هدف خان المتمثّل في فرض سيادة الدستور واستعادة الديمقراطية، وكذلك هدف قائد الجيش المتمثِّل في تأسيس الاستقرار على ركائز دينيَّةٍ. وسوف تترك هذه المواجهة بصمةً دائمةً في الذاكرة الجَمَاعيَّة للأمَّة، ما سيؤدِّي إلى تدهوُر سُمعة مؤسّسات الدولة ويقلِّل فُرَص المصالحة والوحدة الوطنية. وفي حين قد تجتاز الدولة هذه الأزمة غير المسبوقة، فإنَّ باكستان التي يسودُها الانقسام والاستقطاب سوف تفشل في تحقيق الأهداف التي وضعَها مؤسِّسوها قبل أكثر من ثلاثة أرباع قرنٍ من الزمن.
في رصيد نادعلى سلهريا أكثر من خمس سنوات من الخبرة في العمل مع المنظّمات الدولية ومراكز الأبحاث في مناصب مختلفة كباحثٍ سياسيٍّ، ومستشارٍ سياساتيٍّ، وخبيرٍ استراتيجيٍّ في شؤون السلام، وخبير في مجال حقوق الإنسان. وهو يعمل حاليًا كباحثٍ مُساعِدٍ للدكتور مارفن ج. واينبوم، مدير برنامج الدراسات الأفغانية والباكستانية في معهد الشرق الأوسط.