عزمُ الرئيس المُنتخَب مسعود بزشكيان على تعزيز العلاقات مع الدول العربيّة خطوة منطقيّة في ضوء التحدّيات الاجتماعية-الاقتصادية الهائلة التي تواجهها إيران
يوليو 24, 2024ألكس فاتانكا
ألكس فاتانكا
كتبَ الرئيس الإيراني المُنتخَب مسعود بزشكيان رسالتَيْن مفتوحتَيْن إلى العالم، مثيرًا تكهّنات عدّة حول برنامج عمله وقدرته على تنفيذه. تشكّل رسائله حتى الآن، الموجّهة إلى ثلاثة جماهير مُختلِفة –الدول المجاورة لإيران مباشرةً، والغرب، والصين وروسيا– دعوة للسلام، لكنّها دعوة مشروطة. فلم يرفع بزشكيان الراية البيضاء إطلاقًا، وليس في مقدوره أساسًا الإقدام على خطوةٍ من هذا النوع نظرًا إلى صلاحياته المؤسّسية المحدودة بصفته رئيسًا مُنتخبًا في الجمهورية الإسلامية، حيث يمثّل المُرشِد الأعلى غير المُنتخَب، آية الله علي خامنئي، وجنرالات الحرس الثوري الإيراني نواة "الدولة العميقة" التي تُمسِك بزمام السلطة الفعلية.
في الواقع، يسود اعتقاد شائع مفاده أنّ بزشكيان مجرّد واجهة شكليّة من تصميم "الدولة العميقة" في طهران، التي تمتلك فعليًّا سلطة اتّخاذ القرارات المتعلّقة بملفات السياسة الخارجية الخلافيّة، بما في ذلك موقف إيران تجاه الأمريكيّين والعرب والإسرائيليّين في المنطقة، وبرنامج إيران النووي والصاروخي، ونموذج الحرب بالوكالة الذي تتّبعه.
ووفق هذا المنطق، تتمثّل مهمّة بزشكيان ليس في تغيير مسار السياسات الإيرانية، بل في خفض الضغوط الدولية عليها. وحتى إذا صحّ ذلك، تواجه إيران في العام 2024 تحدّيات اجتماعية-اقتصاديّة هائلة لا يمكن "للدولة العميقة" تجاهلها. وقد يكون وصول بزشكيان المفاجئ إلى سدّة الرئاسة مُخطّطًا مُسبقًا كذريعة للنظام الإيراني لتغيير مساره.
في تلك الحالة، ينبغي تشجيع الرئيس الجديد على الوفاء بوعده المتمثّل في التركيز على خفض التصعيد وتعزيز التعاون في المنطقة –بدلًا من إعطاء الأولوية لمسار مُعجَّل للتوصّل إلى اتفاق نووي مع الغرب– وذلك لسبب أساسي، وهو أنّ خفض التصعيد مع العالم العربي قد يفسح المجال أمام إيران للتراجع عن برنامجها الإقليمي وموقفها من إسرائيل. ففي نهاية المطاف، ما من ملفٍّ آخر يؤثّر إلى هذا الحدّ في المستقبل السياسي ومسار السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية.
الوعد
خلال حملته الانتخابية، انتقد بزشكيان أداء السياسة الخارجية الإيرانية. وشبَّه موقف إيران في العالم ب "الوجود داخل قفص"، وأدان خصمه المتشدّد الرئيسي سعيد جليلي، معتبرًا أنّه يريد بناء جدران لعزل البلد. ورفض بزشكيان فكرة أنّ "تقرير المصير" يعني "العزلة الذاتية". وعلى حدّ تعبيره، "ينبغي على إيران خوض حوار مع العالم وضمان حصّتها [من فوائد التعاون الدولي]".
ويُعدّ هذا الموقف شجاعًا للغاية، نظرًا إلى أنّ علي خامنئي هو من يتّخذ كافة قرارات السياسة الخارجية الاستراتيجية في الجمهورية الإسلامية منذ العام 1989. وقد ألمحَ المرشد الأعلى إلى استيائه من بعض شعارات بزشكيان الانتخابية، لكنّه لم يمنعه من الترشُّح. ويحمل ذلك دلالاتٍ عميقةً على نوايا خامنئي المُحتَمَلة.
التركيز الذكي على العالم العربي
حاول بزشكيان عدم استفزاز أحد في الرسالتَيْن اللتين وجَّهَهُما إلى العالم، ولعلّه كان حذرًا أكثر من اللازم. ولكنْ، علينا أن نتذكّر أنّ برنامجه –في حال كان يمتلك بالفعل برنامجًا مستقلًّا– قائمٌ على اتّخاذ خطوات بطيئة وتدريجيّة نحو تغيير السياسات، من دون أن يشعر خامنئي أو قيادة الحرس الثوري بالخطر من وجهة نظرهم كجزء من هيكلية السلطة داخل النظام.
في رسالته الأولى، طلب بزشكيان من الأوروبيّين "أن يضعوا جانبًا تفوّقهم الأخلاقي المزعوم" وأن يسعوا إلى التعاون مع إيران. وفي حال وافق الأوروبيون على ذلك، يعتبر بزشكيان ألا حدود لما يمكن للطرفَيْن أن يحقّقاه معًا.
بطبيعة الحال، أبدى بزشكيان درجةً أعلى من الحذر في تعامله مع الأمريكيّين، وهو أمر ليس مُستغربًا نظرًا إلى حساسية خامنئي الشديدة إزاء العلاقات الأمريكيّة-الإيرانيّة. فحتى الآن، تعكس رسالة بزشكيان إلى واشنطن موقف خامنئي، وهو أنّ "إيران لا ولن تخضع للضغوط".
هذا هو الموقف الأكثر أمانًا الذي يمكن لبزشكيان اتّخاذه، وأشّر من خلاله لواشنطن بأنّ الكرة في ملعبها إذا أرادت للولايات المتّحدة وإيران محاولة التقرُّب من جديد. من السهل صرف النظر عن نتيجة الانتخابات الإيرانية الأخيرة واعتبارها مسرحيّة جوفاء، إلا أنّ تلك الانتخابات بعثت برسالة لا لُبسَ فيها، مفادُها أنّ جميع أجنحة النظام الإيراني باتت تعتقد اليوم أنّ الحياة الاقتصادية لن تستقيم ما دامت العقوبات الأمريكيّة على إيران مستمرّة.
اعتبر بزشكيان أيضًا أنّ الولايات المتّحدة "لا تتّبع استراتيجية معيّنة تجاه إيران". وفي الحقيقة، لا تتّبع إيران استراتيجية واضحة المعالم تجاه الولايات المتّحدة هي الأخرى. فموقف طهران الاستراتيجي الوحيد تجاه الولايات المتّحدة يقوم على شعار بائد، وهو أنّه يجب على الولايات المتّحدة مغادرة الشرق الأوسط. غير أنّ هذا الهدف صعب التحقيق، لا بل إنّه يتعارض مع السياسة الواضحة الوحيدة التي تنجح إيران في تنفيذها في السنوات الأخيرة، وهي الحوار البنّاء مع دول الخليج العربية الحليفة للولايات المتّحدة.
في رسالته الثانية، توجّه بزشكيان إلى العرب بخطابٍ واضح، شدّد فيه على أنّ إيران لا تريد مواصلة المنافسة الإقليمية القائمة على مبدأ إمّا غالب أو مغلوب. وعلى حدّ تعبيره، كلّ تقدُّم تحقّقه دول الخليج العربية يُعدّ مكسبًا إيجابيًّا صافيًا لإيران وللشرق الأوسط عمومًا. وتحدّث بزشكيان أيضًا عن "وحدة المنطقة"، لكنّه امتنع عن انتقاد العلاقات الوثيقة بين الحكومات العربية وواشنطن.
يؤمَل أنَّ بزشكيان لن يسير على خطى أسلافه أو يكرِّر محاولاتهم الفاشلة لاستمالة دول الخليج العربية وترجمة هدف إخراج الولايات المتّحدة من الخليج الفارسي إلى مطلب غير قابل للتفاوض يقضي بإنشاء هيكل أمني إقليمي في إطار السعي إلى خفض التوتّرات.
بدلًا من ذلك، تحدّث بزشكيان عن إمكانية سعي الإيرانيّين ودول الخليج العربية إلى "رفض تقسيم العالم والاصطفافات القائمة على مصالح القوى العظمى". وإذا أردنا تفسير هذا الموقف بصورة إيجابية، يُفهَم منه أنّ إيران ودول الخليج يجب ألا تتحوّل إلى بيادق في المنافسة بين الولايات المتّحدة والصين، علمًا أنّ دول الخليج لا تُعارِض هذه الرسالة كونها تتّبع هذا النهج بحكم الأمر الواقع.
أخيرًا، تجدر الإشارة إلى أنّ ما امتنع بزشكيان عن قوله في رسالته إلى العرب يحمل دلالات عميقة أيضًا. فهو اعتبر في رسالته أنّه "يجب تحرير الشعب الفلسطيني... من الاحتلال وضمان حقوقه الطبيعية والبديهيّة"، لكنّه لم يدعُ إلى تدمير إسرائيل بعبارات صريحة. وصحيح أنّه انتقد ترسانة إسرائيل النوويّة، لكنّه وضعَ هذا التحدي ضمن إطار السعي إلى "إزالة الأسلحة النووية من الشرق الأوسط"، وليس نزع السلاح النووي الإسرائيلي حصرًا. تلك رسالة أخرى يصعب على دول الخليج العربية رفضها، كونها تطالب منذ سنوات طويلة بإقامة دولة فلسطينية وفقًا لحلّ الدولتَيْن الذي أقرّته مبادرة السلام العربية في العام 2002، وبنزع الأسلحة النووية من الشرق الأوسط.
سوف تراقب دول الخليج عددًا من المسارات عن كثب، أوّلها ما إذا كان بزشكيان يحمل بالفعل تفويضًا من خامنئي والحرس الثوري لتغيير مسار إيران، نظرًا إلى أنّهما يقرّران عمليًّا سياسة إيران الإقليمية. فلم تأخذ دول الخليج الرئيس السابق حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف على محمل الجدّ لهذا السبب بالذات. ففي محادثاتهم مع طهران، يفضّل قادة دول الخليج التواصل مع شخصيّات من "الدولة العميقة"، مثل علي شمخاني، الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي وقّع اتفاق السلام مع المملكة العربية السعودية في بكين في العام 2023.
كذلك، تنتظر دول الخليج لمعرفة ما إذا كانت طهران ستتّخذ موقفًا أكثر اعتدالًا تجاه إسرائيل. فلا أحد يعتقد أنّ خامنئي والحرس الثوري سيتخلّيان عن نموذج محور المقاومة والرفض الرسمي لإسرائيل. ولكنْ، هل ستكون طهران مستعدّة للحفاظ على رفضها الإيديولوجي لإسرائيل بالتزامن مع خفض الهجمات ضدّها من خلال وكلائها الإقليميّين؟
في تلك الحالة، ستتلاشى الكثير من مخاوف دول الخليج بشأن نشوب نزاع إقليمي أوسع نطاقًا قد يعيق خططها الطموحة للتنمية الاقتصادية بعيدًا عن النفط. ففي نهاية المطاف، يشكّل مصير الفلسطينيّين قضيّة عربيّة أكثر ممّا هو مسألة وجوديّة لإيران، الدولة غير العربيّة. حاليًا، هناك 22 حكومة عربيّة تعتقد أنه لا يمكن هزيمة إسرائيل عسكريًّا، وتؤمن بأنّ المسار الدبلوماسي هو السبيل المُجدي الوحيد للمضيّ قدمًا. يمكن لطهران تقبُّل هذا الواقع الصعب وتغيير مسارها للتركيز على النهضة الوطنية التي يعتبر بزشكيان أنّها ضرورة ملحّة. فعلى حدّ تعبيره، "ليس لدينا سوى إيران واحدة [لنحميها]".
هل بزشكيان قادر على الوفاء بوعوده؟
في حملته الرئاسية، تحدّث بزشكيان بصراحة تامّة عن تحدّيات إيران الإقليمية. ففيما أمضت طهران العقدَيْن الأخيرَيْن وهي تسعى للحفاظ على طموحاتها النوويّة مهما بلغ الثمن، تفوّقت عليها الدول العربية وتركيا والدول المجاورة الأخرى على جميع المستويات الاقتصادية تقريبًا. وكما أشارالرئيس المُنتخَب، "كان من المفترض أن نتجاوز العقوبات، لكنّ الممرّات [الاقتصادية الإقليمية الناشئة] هي التي تجاوزتنا". ويصرّ بزشكيان على أنّ السياسة الخارجية ينبغي أن تساهم في تحسين مستوى المعيشة، لا في فرض أعباء إضافية على المواطن الإيراني العادي الذي يعيش ظروفًا صعبة أساسًا. وفي حال تمكّن من الوفاء بهذا الوعد، يكون قد أحدث تحوّلًا مفصليًّا مقارنة بأسلافه منذ العام 1979.
ولكن بدايةً، عليه أن يثبت قدرته على الوفاء بتلك الوعود، وهو ليس بالأمر المستحيل إن تمكّن من إقناع خامنئي والحرس الثوري وبقيّة أطياف النظام بالمضيّ في هذا المسار. فسبق أن أعلن بزشكيان أنّ أولويّته القصوى في السياسة الخارجية هي خوض حوار مع العرب. ومن المرجح أن تتقبّل "الدولة العميقة" هذا النهج أكثر من التركيز حصرًا على التوصُّل إلى اتفاق نووي مع الأمريكيّين، مع ما يستتبعه ذلك من تعقيدات.
في المقابل، فإنّ الحوار البنّاء مع دول الخليج العربية قد يمنح طهران فرصةً لوضع مطالبتها بحق الفلسطينيّين في تقرير مصيرهم ضمن إطار إقليمي تدعم بموجبه إيران والدول العربية المفهوم نفسه لحلّ الدولتَيْن. ومع أنّ هذا الهدف صعب المنال، في حال اتّبعت إيران نهجًا مماثلًا ستتمكّن من التركيز على سياسات قد تسمح لها بالخروج من الضائقة الشديدة الناجمة عن العقوبات، أو على الأقل التخفيف منها.
فليس سرًّا أنّ برنامج طهران الإقليمي، بما في ذلك دعمها للمجموعات المسلّحة المناهِضة لإسرائيل مثل "حزب الله" و"حماس" والحوثيّين، هو سبب يوازي الملف النووي أهمّية، إن لم نقل يفوقه أهمّية، في العقوبات التي تفرضها واشنطن والغرب عمومًا على إيران. باختصار، قد يوفّر الحوار المُجدي مع الدول العربية لإيران مسارًا للخروج من مأزقها في الملفّ الإسرائيلي، وهو ما قد يدفع صانعي القرار في واشنطن إلى تبنّي مواقف أكثر ليونة حول كيفية التعامل مع التحدّي الإيراني.
ألكس فاتانكا هو مدير برنامج إيران في معهد الشرق الأوسط. يحمل كتابه الأخير عنوان: "معركة آيات الله في إيران: الولايات المتّحدة والسياسة الخارجية والتنافس السياسي منذ 1979" (The Battle of the Ayatollahs in Iran: The United States, Foreign Policy and Political Rivalry Since 1979). حسابه على "تويتر": @AlexVatanka.
معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.