"ظلمة ملؤها النور": بعد عشرات السنوات.. لا تزال أعمال الفنان اللبناني-الأمريكي نبيل قانصوه مرآة للوضع الراهن
يوليو 03, 2024
شون فولي
نتجَ عن الهجوم على سفارة الولايات المتحدة في بيروت في 5 حزيران/يونيو، كما كان متوقعًا، وابلٌ من التقارير الصحافيّة التي سلّطت الضوء من جديدٍ على أزمات لبنان المتعدّدة والمتشابكة، أزمات يُشكّل هذا الحادث المأساوي الذي طال البلدين معًا واحدًا من فصولها. لكن هذه التقارير تجاهلت حدثًا تاريخيًّا حصل في العاصمة اللبنانية في اليوم نفسه كما الهجوم، ويعمّق الروابط بين الولايات المتّحدة ولبنان، ألا وهو افتتاح المعرض الفني الأول في لبنان للفنّان اللبناني-الأمريكي نبيل قانصوه (1940-2019). لم تَنَلْ أعمال قانصوه المؤثّرة، التي يسعى مِن خلالها إلى سبر أغوار موطنه الأم والعالم المعاصر، التقدير الذي تستحقّه عن جدارة قبل اليوم. بالفعل، تُعرض أعمال قانصوه أيضًا في "معهد الفنون العربية والإسلامية" في مدينة نيويورك (IAIA) و"المتحف العالي للفنون" في أتلانتا، عاصمة ولاية جورجيا؛ وستُعرض في "متحف الفن إيلي وإيديثي برود" في جامعة ولاية ميشيغان في العام 2025.
في الليلة التي سبقت افتتاح معرض قانصوه في بيروت، تحدّثتُ مع صالح بركات، وهو شخصيةٌ بارزةٌ في عالم الفن اللبناني والعربي. وكنّا قد التقينا في وقتٍ سابقٍ من ذاك اليوم في مؤتمرٍ أكاديمي حول الدوائر الفنية العربية عُقد في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت. وبينما كنّا نستمتع بغروب الشمس الخلّاب في مطعمٍ كبيرٍ في بيروت، يطلّ على صخرة الروشة الشهيرة، أخبرني بركات أنّه كان يعرف قانصوه جيدًا، مُشيدًا بنزاهته كفنان، ووصفَ التحديات الشرسة التي كان يواجهها أحيانًا في سعيه لعرض أعماله. وهو أمرٌ طبيعيٌّ في رأي بركات، فقد حذرني من أن أعمال قانصوه "ليست سهلة المشاهدة"، مضيفًا أنها "ليست في كثير من الأحيان ما يتم بيعه في سوق الفن". مع ذلك، وافق بركات على إقامة معرضٍ لأعمال قانصوه الفنية من مجموعة "مؤسسة دلول للفن" في صالة العرض التي تحمل اسمه في بيروت، لأنّه يعتقد أن أعمال الفنان الراحل لها قيمة كبيرة، وتعبّر عن الوضع الراهن، مع أنّه رسم أبرز تلك الأعمال منذ عقود خلت.
تتجسّد نظرة بركات هذه بوضوحٍ في اللوحات الزيتية الثلاث الضخمة التي تشكّل الأعمال الأساسية في معرض قانصوه في بيروت. الأولى، لوحةٌ زيتيةٌ ملوّنةٌ لا تحمل عنوانًا، بقياس 217 سم × 277 سم، من سلسلة قانصوه حول الحرب الأهلية اللبنانية. تصوِّر هذه اللوحة طائرة نفاثة مقاتلة، ومروحية عسكرية، وطيورًا مُحلّقة، وكنيسةً، ومسجدًا، ومجموعةً منكوبةً من البشر. صحيحٌ أنَّ اللوحة تعود إلى العام 1983 وتصوِّر ضمنيًّا غزو إسرائيل للبنان في العام 1982، لكن يمكن أن نرى فيها بسهولةٍ صورة عن غزة بعد تشرين الأوّل/أكتوبر 2023 أو أيًّا مِن الصراعات المتعدّدة الأخرى التي تُلطِّخ مشهدنا الإعلامي بألوان الموت والعنف.
أمَّا اللوحة الثانية، فتحمل عنوان "لبنان 1977: دوامات الغضب"، من سلسلة "انقسام الحياة"، وهي لوحة زيتية ثلاثية الأبعاد على قماش، بقياس 310 سم × 716 سم. ومع أن عنوان اللوحة يُشير إلى عام مهمٍّ في أوائل الحرب الأهلية في لبنان، إلّا أن اللوحة تصوِّر مشهدًا جحيمًا ملتهبًا مليئًا بالسلاسل، ورجالًا ونساءً، وطفلًا، وشخصيات أسطورية مختلفة. نرى عددًا مِن هذه الشخصيات تتدلَّى رأسًا على عقب أو في وضعيات ملتوية، فوق حفر عميقة أو أمام مخلوقات ذات وجوه أشبه بالجماجم، تهدِّد بالتهامها في أي لحظة. في وسط المشهد، شخصيَّة ضخمة في وضعيَّةٍ تُشبه وضعيَّة المسيح على الصَّليب؛ أضِفْ إلى ذلك وجهًا برتقاليًّا ضخمًا يكاد يشغل لوحة كاملة بذاته، وينظر إلى المُشاهِد نظرات ثاقبة تُنذر بالخطر.
واللوحة الثالثة، عبارة عن عملٍ واحدٍ بقياس 310 سم × 550 سم، وتحمل عنوان "الدوَّامات المشتعلة". يشير العنوان الفرعي للّوحة، "صيف لبنان 1982، صبرا وشاتيلا"، إلى المذبحة التي حصلت في مخيَّمَي اللاجئين الفلسطينيين في لبنان على يد قوَّات عسكرية مارونية في العام 1982، مِن دون أي تدخُّل مِن الجيش الإسرائيلي الذي كان متموضعًا في نقطة قريبة من المكان حينذاك. على الرغم مِن ذلك، لا تُشكِّل اللوحة وصفًا للتاريخ اللبناني أو الصِّراع العربي-الإسرائيلي. بل هي ترمز إلى الموت والولادة مِن جديد؛ وهما موضوعان ربطتهما مريم سلطان، في كتابها الجديد عن حياة قانصوه، بهوية الفنان الدرزية. هذان الموضوعان، كما يُشير حاتم الزهراني في فصل حديث عن الشاعر محمد الثبيتي، هما أيضًا محوريان بالنسبة إلى الحركة التموزية في الأدب العربي الحديث، والمشهد الثقافي في بيروت طوال مرحلة شباب قانصوه في الخمسينيات والستينيات. ففي هذه الحقبة مثلًا، اتَّخذ الشاعر السوري ورئيس تحرير مجلة "شعر" الأدبية الرائدة والمؤثِّرة، أحمد سعيد إسبر، الاسم المستعار "أدونيس"، وهو اسم إله الموت والقيامة في الأسطورة الإغريقية الفينيقية.
في لوحة "صيف لبنان 1982"، نرى مجموعةً واسعةً من الصِّور التي يمكن ربطها بالموت والولادة مِن جديد، بما في ذلك الصلبان، والهلال، والشَّمس، ورجالٌ ونساءٌ يسجدون مُصلِّين، وشخصٌ يشرب سائلًا يُشبه الدم، ورؤوس خيول. وتبرز أيضًا عينٌ برتقاليّةٌ ضخمةٌ، تنظر إلى المشاهد على غرار الوجه الذي يظهر في لوحة "لبنان 1977". ويقسم اللوحة إلى نصفين نهرٌ يزخر بالأسماك والمخلوقات الأسطورية الشَّبيهة بالأسماك، في إشارةٍ إلى نهر "ستكيس" في الأساطير الإغريقية.
عندما ينظر المرء إلى هذه الأعمال للمرة الأولى، مِن الصَّعب ألا تروِّعه المشاهد المرعبة، فتذكِّره بأكثر الأعمال كآبةً للرسَّامَيْن الإسبانييْن، فرانسيسكو غويا أو بابلو بيكاسو. وبالفعل، لطالما ذَكَر قانصوه أنّه استلهم من أعمالهما إلى حدّ بعيد. مع ذلك، فإنَّ رؤية قانصوه للظلام تتخلّلها أنوار وألوان مفاجِئة: فترى تدرُّجات غنيَّة مِن اللون الأزرق والبنفسجي والأحمر والفيروزي والأصفر والأبيض، وغيرها مِن الألوان التي لا يربطها عقل الإنسان بالجحيم أو الحرب. وكما أشار بركات في اليوم التالي للافتتاح، فإنَّ استخدام قانصوه للألوان والنور لا مثيل له؛ فهو لم يَرَ ما يوازي هذا الإبداع طوال مسيرته المهنيّة التي امتدَّت لثلاثة عقودٍ في عالم الفن العربي. ويشبِّه بركات تأثير استخدام قانصوه لهذا الطَّيف الواسع من الألوان بما نراه عندما ننظر إلى النوافذ الزجاجية الملوّنة.
على نحو مُشابه، فإن روح الفكاهة التي تمتَّع بها قانصوه وميْله إلى الإضاءة على كل ما هو عبثي، يضفيان بُعدًا آخرَ يناقض المشهد القاتم عمومًا في لوحاته. فعلى سبيل المثال، لوحاته بالحبر الأبيض والأسود، وهي أصغر مِن أعماله الملوّنة على القماش، تزخر بالبشر والعفاريت والشياطين والشخصيات الأسطورية الأخرى التي غالبًا ما يخيَّل إلى المُشاهد أنَّها تبتسم له، ابتسامةً ملؤها التهديد، تذكّرنا بقطّ الشيشاير. مِن أبرز هذه الأعمال، لوحةٌ من سلسلة "أوراق من مسرح الحرب"، بقياس 61 سم × 46 سم، تُصوِّر ثلاثة عفاريت تبتسم وتضع يديها على كرة أرضيَّة. قد يعتقد المُشاهد أن هذا العمل ينقل واقع النظام السياسي الثلاثي في لبنان، إلا أنَّه على غرار أعمال أخرى مشابهة لقانصوه، يحكي قصّةً عالميّةً حول السياسة والمجتمعات الإنسانيّة. ويوضِّح قانصوه ذلك من خلال منحه الأعمال، التي ابتكرها في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، عناوين بخمس لغاتٍ مختلفة: العربية والإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية.
ليس مفاجئًا هذا الارتباط بين أعمال قانصوه والسياسة. فكما أوضح لي دانيال قانصوه، نجل نبيل، لم ينضم والده يومًا إلى أي حزب سياسي، ولم ينتمِ إلى أي أيديولوجية سياسية. لكنه كان مُهتمًّا في قضايا العالم بأسره، وأمِل أن تلهم أعماله الآخرين للنظر إلى عالمهم بعين الناقد والاندفاع إلى الفعل. وقد عكس هذا الاهتمام، جزئيًّا، التجارب التي عاشها الفنان في لبنان وأمريكا. فقد استقرّ قانصوه في مدينة نيويورك في حقبة حرب فيتنام لدراسة الفن في جامعة نيويورك (NYU)، ثمَّ افتتح أول صالة عرضٍ له في المدينة في العام 1968 الذي شهِدَ اضطرابات سياسية كبيرة. وفي العام 1972، شارك في إنتاج الترجمة الأولى للدستور اللبناني باللغة الإنجليزية، بالتعاون مع البروفيسور في العلوم السياسية في جامعة نيويورك، غيسبرت فلانز. وشكَّل حصول قانصوه على الجنسيَّة الأمريكية في العام 1983 حدثًا مُهمًّا آخر في حياتِه، أجبره على استكشاف تاريخ وطنه الجديد ومجتمعه. وبالفعل، كما أوضح لي ابنه، عاش نبيل قانصو وعمل في أتلانتا طوال أربعين عامًا، تعمَّق خلالها في قضايا العِرق والنوع الاجتماعي وتاريخ الأمريكيين الأصليِّين، والهولوكوست، وقصف هيروشيما وناغاساكي بالقنابل الذريَّة، وغيرها مِن المواضيع المعقَّدة المتعلِّقة بموطنه الجديد. وفي العام 1997، تراسل قانصوه ورئيس بلدية هيروشيما، تاكاشي هيراوكا، الناشط في مجال نزع السِّلاح النووي، حول أعماله الفنية المُستوحاة مِن الهجوم التاريخي على المدينة في 6 آب/أغسطس 1945.
بعد نحو ستين عامًا على انتقال قانصوه إلى أمريكا وبَدء حياته المهنيَّة كفنان تشكيلي، لا تزال أعماله تتمتَّع بأهميَّة كبيرة، إذ تجسّد روح عصرنا المضطرب والعنيف. فتعبّر أعماله الكبيرة على وجه الخصوص عن العالم المُظلم والجهنميّ والخطير والذي يعتقد الكثير من الناس أنه نتج عن جائحة "كوفيد-"19 وحربَيْ غزة وأوكرانيا والانقسامات السياسية الداخليَّة الشديدة في الولايات المتّحدة والمجتمعات الأخرى حول العالم. وعلى الرغم مِن الظلام الذي يطغى على رؤية قانصوه، تذكِّرنا أعماله أنّ النور يسطع حاملًا معه إمكانية الولادة الجديدة والتجديد حتّى في أكثر السياقات خطورةً وظُلمة. فيحاكي في رسالته هذه، رسالة عالِم اللاهوت الإنكليزي، توماس فولر، الذي عاش هو أيضًا عصرًا مِن المرض، والعنف، والتطرُّف السياسي في القرن السابع عشر. فقد كتب في العام 1650: "يُقال إنَّ أحلك ساعات الليل تسبق الفجر مباشرةً".
شون فولي، أستاذ تاريخ في جامعة ولاية تينيسي الوسطى، متخصّص في تاريخ الشرق الأوسط والاتّجاهات الثقافية والسياسية والدينية في العالم الإسلامي. وهو مؤلف كتاب "السعودية المتغيرة: الفن والثقافة والمجتمع في المملكة". لمزيد من المعلومات حول أعماله، يمكنكم زيارة موقعه الإلكتروني: www.seanfoley.org.
معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.