MEI

آراء الخبراء: كيف نتعامل مع قواعد اللعبة الجديدة في النزاع الإسرائيلي-الإيراني؟

أبريل 25, 2024

براين كاتوليس, بول سالم, روبرت س. فورد, نمرود غورين, تشارلز ليستر, رندا سليم, ألكس فاتانكا, روس هاريسون


مشاركة

آراء الخبراء: كيف نتعامل مع قواعد اللعبة الجديدة في النزاع الإسرائيلي-الإيراني؟

بول سالم، أليكس فاتانكا، نمرود غورين، براين كاتوليس، شارلز ليستر، روس هاريسون، رندا سليم، روبرت س. فورد

25 نيسان/أبريل 2024

مقدمة

 

شهد شهر نيسان/أبريل تصعيدًا غير مسبوقٍ في النزاع الإيراني-الإسرائيلي الآخذ في التفاقم منذ فترةٍ طويلة، حيث عمدَ كلّ من البلدَيْن إلى شنّ هجماتٍ بالصواريخ والمسيّرات على أراضي الطرف الآخر للمرّة الأولى في التاريخ.

يبحث خبراء معهد الشرق الأوسط في المقالات أدناه في الأثر المترتب على المناخ الأمني والسياسي في المنطقة غداة هذه الهجمات، والعناصر الضرورية لعودة الاستقرار في ظلّ قواعد اللعبة الجديدة، وكيف يمكن للدبلوماسية الأميركية تيسير هذه العملية.

وجهات النظر

بول سالم

خفض التصعيد لإعادة الاستقرار: منع تصادم مباشر ثانٍ بين إيران وإسرائيل

في نظريته حول العلاقات بين الدول، يعتبر الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز أنّ الاستقرار بين الخصوم يتحقّق عادةً من خلال توازن القوى، أو أقلّه توازن الردع. يمكن القول إنّ ذلك تحقّق بالفعل إلى حدٍ ما في خلال الأسبوعين الأخيرين، حيث برهنت إيران استعدادها وقدرتها على إطلاق الصواريخ والمسيرات باتّجاه إسرائيل مباشرةً، فيما أظهرت إسرائيل قدرتها على القيام بالمثل. ولا ينبغي استخلاص استنتاجاتٍ خاطئة لمجرّد أنّ معظم المسيّرات والصواريخ الإيرانية التي فاق عددها الثلاث مئة قد أُسقطت. فقد اكتسبت إيران معلومات قيّمة عن كيفية تصدّي إسرائيل والولايات المتحدة والحلفاء الإقليميّين لهجوم من هذا النوع. وإذا ما أرادت طهران فعلًا التسبب بضرر واسع، يمكنها إرسال 3,000 إلى 10,000من هذه المسيّرات والصواريخ، أو بإمكانها استخدام ترسانة "حزب الله" الذي يبعد دقائق قليلة وليس ساعات عن إسرائيل. من جهتها، أظهرت إسرائيل قدرتها على ضرب أهداف في الداخل الإيراني - وأهمّ المنشآت النووية - من دون تفعيل نُظُم الدفاع الجوي الإيرانية.

بالتالي، برز مستوى جديد من الردع بين الطرفين. ولكن، في المقابل، أدّت الهجمات المتبادلة إلى بروز مخاوف بشأن التصعيد وشعورٍ بالتهديد في البلدين. فبات اليوم على إسرائيل أن تأخذ على محمل الجدّ استعداد إيران وقدرتها على ضربها مباشرةً، والأمر سيّان بالنسبة لإيران. ومن المرجّح أن يؤدي ذلك إلى سباقٍ للتسلُّح بين البلدين، من المنظورَيْن الهجومي والدفاعي. تتصدّر إسرائيل هذا السباق حاليًا بفضل حزمة المساعدات العسكرية بقيمة 17 مليار دولار أميركي التي وافقت عليها واشنطن الأسبوع الماضي. ويُتوقّع أن تتجّه إيران نحو روسيا والصين لتعزيز منظومتها الدفاعية الجوية والاستمرار في توسيع ترسانتها من الصواريخ والمسيرات. وينبغي أيضًا أن نأخذ في الاعتبار خطر أن تخطو إيران خطوةً حاسمة باتجاه تطوير أسلحة نووية لبلوغ مستوى الردع المطلق.

أصبحنا اليوم أمام واقعٍ جديد في الشرق الأوسط، ولا يمكن الولايات المتحدة أو غيرها القيام بالكثير لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل 13 نيسان/أبريل. ولكن، ثمّة جملةٌ من التدابير التي يمكن اتخاذها لمحاولة إدارة النزاع والحدّ من المخاطر أمام هذا الواقع الجديد، بما فيها:

استحداث قناةٍ سرّية وفعالة للوساطة، تربط بين صناع القرار الأمني الإسرائيليّين والإيرانيّين، حتى ولو بطريقةٍ غير مباشرة. وستحتاج الولايات المتحدة إلى لعب دورٍ محوري في هذه القناة، إلى جانب أطراف إقليمية متعدّدة، على غرار عُمان وقطر وتركيا، قادرة على التواصل مع الإيرانيّين. وينبغي أن تعمل هذه القناة السرّية على إرساء "قواعد جديدة للّعبة" أو "خطوط حمراء"، للحرص على عدم تجدُّد التصعيد المباشر بين القوّتَيْن الإقليميّتَيْن.

بما أن موجة التصعيد الإقليمي بأكملها هذه قد نتجت عن الجولة الأخيرة من النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، يتعين على الولايات المتحدة تكثيف جهودها لوضع حدٍّ للحرب في غزة بشكل نهائي ومستدام، وتيسير عودة من تبقى من الرهائن الإسرائيلييّن، واتخاذ تدابير عاجلة لرفع مستوى الأمن البشري وضمان التعافي لدى سكان غزة. كما وينبغي على الولايات المتحدة أن تصرّ على العودة إلى مسار حلّ الدولتين.

من جهةٍ أخرى، ينبغي على الولايات المتحدة والصين الحفاظ على علاقاتهما الوثيقة بالشركاء (إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة، وإيران بالنسبة للصين)، وذلك لإدارة محور النزاع الخطير هذا في المستقبل وتجنّب أيّ مواجهةٍ كبرى.

بول سالم هو رئيس معهد الشرق الأوسط ومديره التنفيذي. يهتمّ بقضايا التغيير السياسي والانتقال والنزاع، وكذلك بالعلاقات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط.

أليكس فاتانكا

حان الوقت كي تعيد طهران النظر في استراتيجيات الوكلاء التي تنتهجها

لا شكّ في أنّ الضربات المتبادلة الأخيرة بين إيران وإسرائيل ستستدعي بعض التفكير المعمّق في طهران، مع أنّ نتائج ذلك لن تتجلّى على الفور. حاليًا، يزعم المسؤولون الإيرانيون أن وابل المسيّرات والصواريخ التي أطلقتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية على إسرائيل في 13 نيسان/أبريل أرست معادلة من الردع المتبادل. وكانت شرارة جولة التصعيد الأخيرة هذه قد انطلقت نتيجة الغارة الإسرائيلية على السفارة الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان/أبريل، التي أدّت إلى مقتل قادة بارزين في الحرس الثوري الإيراني. وبعد الضربة الإيرانية الانتقامية في 13 نيسان/أبريل، قرّرت إسرائيل الرد بطريقةٍ محدودة في 18 من الشهر نفسه.

الآن وقد اندلعت مواجهة مباشرة بين الطرفين، لا يمكن لإيران وإسرائيل العودة إلى مرحلة "حرب الظل". فقد برهن كلّ منهما قدرته على استهداف المواقع الحساسة للطرف الآخر بترسانته العسكرية. مع ذلك، بالنسبة للجانب الإيراني، كانت تلك المرة الأولى منذ تأسيس "محور المقاومة"، أي منذ حوالى 20 عامًا، التي توجّب على طهران فيها اختيار ما إذا كانت تريد لاستراتيجية الأمن القومي لديها بأكملها أن تتمحور حول النزاع مع إسرائيل.

في المرحلة المقبلة، يمكن لطهران أن تقرّر التعامل مع هذا النزاع بالسبل السياسية والدبلوماسية، عوضًا عن محور المقاومة، وهو نموذجٌ للحرب بالوكالة ساهم في عزل إيران عن الغرب وأثار هواجس لدى جيرانها العرب بشأن أهدافها الإقليمية الفعلية. فبالنسبة لطهران، تبدّلت معادلة الكلفة-المنفعة التي تبرّر نموذج الحرب بالوكالة بشكلٍ ملحوظ في الأسابيع الأخيرة.

لطالما كان الهدف من نموذج الحرب بالوكالة هو السماح لإيران بمحاربة خصومها الإقليميّين بعيدًا عن أراضيها وبكلفةٍ مالية متدنية نسبيًا. ومع دخول المواجهة بين إيران وإسرائيل مرحلة النزاع المباشر، لم يعد ذلك ممكنًا.

ليست إيران الدولة الأولى التي تستخدم الحرب بالوكالة لتنفيذ أجندتها. فعلى مدى القرن الأخير، استخدمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي/روسيا والصين الحرب بالوكالة بشكلٍ أوسع بكثير في سعيها للاستحواذ على السلطة. ومع ذلك، لا يجد أيٌ من هذه البلدان مانعًا في التخلي عن وكلائه عندما تتخطى التكاليف المنافع. كذلك، فإنّ كلفة الانخراط في حربٍ بالوكالة لا تُقاس حصرًا بمدى الالتزام بقضية أيديولوجية معيّنة، بل بعوامل أخرى على غرار المصالح الجيوسياسية العامة، والكلفة المالية، والدعم الداخلي العام لاستراتيجية الوكلاء هذه.

في حالة إيران اليوم، يشكّل نموذج الحرب بالوكالة الإقليمي نتاج فرصٍ ظهرت في الأعوام العشرين الماضية، حين اندلعت الاضطرابات الأمنية وعمّ الفراغ السياسي في بلدان كاليمن وسوريا، بقدر ما هو تحالف متكامل. وأفضل مثالٍ على ذلك علاقة طهران المتقلّبة مع نظام بشار الأسد في سوريا.

فعليًا، شكّلت مناورات الأسد الأخيرة نوعًا من السياسة الواقعية التي يجدر بطهران استخلاص الدروس منها. فإلى جانب الاجتماعات التي يعقدها الرئيس السوري مع المسؤولين الأميركيّين بحسب التقارير - وهو أمرٌ ترفض طهران القيام به - رفض الأسد أيضًا الانضمام إلى طهران في انشغالها الأيديولوجي المفرط بإسرائيل. 

هذا وتشير تقارير إعلامية في طهران إلى احتمال تمرير بعض العناصر في نظام الأسد الاستخبارات إلى الإسرائيليّين ليقوموا باستهداف أصول إيرانية في سوريا. فبعد أن نجا نظام الأسد من الثورة الشعبية، لم تعُد هناك حاجةٌ ربما للإيرانيين. وبغض النظر عن مدي صحّة هذه التقارير، لا تعتبر طهران أنّ ولاء الأسد مضمون بالكامل.

يشير ذلك كلّه إلى أنّ لدى إيران ما يكفي من الأسباب لتُعيد النظر في التكاليف والمنافع المترتبة على استراتيجية الحرب بالوكالة التي تنتهجها ضدّ إسرائيل وداعميها في الولايات المتّحدة. فالتداعيات السلبية المحتملة لهذه الاستراتيجية أخطر من أيّ وقتٍ مضى، ويبدو أنّ المنظومة بأكملها تتزعزع، ولا سيّما أنّ بعض شركاء إيران في محور المقاومة ليسوا سوى حلفاء بحكم المصلحة في أفضل الأحوال ويسعون إلى تنفيذ أجنداتهم الخاصة، في حين أنّ الرأي العام الإيراني يعارض بشدّة استراتيجية النظام للحرب بالوكالة المحفوفة بالمخاطر

أليكس فاتانكا هو مدير برنامج إيران وزميل أوّل في برنامج البحر الأسود في معهد الشرق الأوسط.

نمرود غورين 

في ظلّ قواعد الاشتباك الجديدة، ترى إسرائيل أهميةً متزايدة في التحالفات والشراكات

أدّت سلسلة الأخبار المتسارعة في الشرق الأوسط إلى صرف انتباه الرأي العام الإسرائيلي بسرعة عن الهجوم الإيراني الذي وقعَ في 13/14 نيسان/أبريل، والذي اعتُبِرَ آنذاك تهديدًا عسكريًا غير مسبوق وفي غاية الخطورة. وفي أعقاب الردّ الإسرائيلي الذي لم يولّد أيّ استجابة إيرانية، عادَ تركيز إسرائيل لينصبّ مرّة أخرى على غزّة، حيث الاستعدادات جارية الآن لعملية مُحتمَلة في رفح، إلى جانب التصعيد المستمرّ مع "حزب الله" على الحدود الإسرائيلية-اللبنانية.

لكنَّ تسارُع وتيرة الأحداث ينبغي ألّا يصرف الأنظار عن القرار الذي اتّخذته إيران للمرّة الأولى بتوجيه ضربة مباشرة إلى إسرائيل، وهو قرارٌ من شأنه أن يُغيِّر قواعد اللعبة. فقد يؤدّي هذا التطوُّر إلى إرساء قواعد اشتباك جديدة في النزاع الطويل الأمد بين هاتين القوّتَيْن في الشرق الأوسط، ومن الممكن أن يدفع إسرائيل إلى تغيير حساباتها بشأن الأعمال العسكرية المستقبلية ضدّ الأهداف الإيرانية.

قبل الهجوم الإيراني على الأراضي الإسرائيلية، التزمت إسرائيل علنًا بالردّ بالمثل، ويبدو ظاهريًا أنَّها فعلت ذلك. لكنَّ الهجوم الإسرائيلي أتى بمثابة ردّ مدروس بعناية يرمي إلى منع التصعيد وتفادي ردّ إيراني آخر. فقد أشارَت التقارير إلى أنَّه كانَ مُوجَّهًا نحو هدفٍ عسكري مرتبط بالقوّات الجوّية – وليسَ هدفًا مدنيًا أو نوويًا – وبالتالي أتى مُشابهًا لخيار الاستهداف التي اعتمدته إيران في هجومها ضدّ إسرائيل قبل ذلك بأيّام.

جديرٌ بالذكر أنَّ إسرائيل امتنعت عن تبنّي الهجوم علنًا، رغم أنَّها قدّمت تلميحات كثيرة تؤكّد ضلوعها. وقد سمحَ ذلك للنظام الإيراني بإنكار الهجوم الإسرائيلي والتقليل من أهمية الحدث بمجمله من باب حفظ ماء الوجه، مُبرِّرًا عدم قيامه بردٍّ فوري. استخدمت إسرائيل أيضًا تكتيكات حفظ ماء الوجه لتبرير ردّها المحدود على هجومٍ شملَ أكثر من 300 طائرة مُسيَّرة وصاروخ جوّال وباليستي، حيث أشارت رسائل من مصادر إسرائيلية إلى أنَّ إسرائيل كانت قد خطّطت لردٍّ أشدّ بكثير، لكنَّها عادت وخفّفت من حجم هذا الردّ جرّاء الضغوط الغربية.

استخلصت إسرائيل دروسًا أساسية من التدابير التي اتّخذتها لاعتراض الضربة الإيرانية، والتي نجحت إلى حدّ كبير بفضل الدعم المشترك من الولايات المتّحدة والأردن والمملكة العربية السعودية وفرنسا والمملكة المتّحدة. تتغنّى إسرائيل عادةً باعتمادها على ذاتها وحرّيتها في العمل العسكري كمبدأَيْن رئيسيَّيْن في عقيدتها الأمنية القومية، مع أنَّها عمليًا تعتمد على الضوء الأخضر والدعم العسكري من الولايات المتّحدة غالبًا. وفي أعقاب الهجوم الإيراني بالصواريخ والمُسيَّرات، أصبحَ الرأي العام الإسرائيلي يُدرِك بوضوح ضرورة تنسيق الإجراءات مع الولايات المتّحدة والعمل ضمن النطاق الذي يوافق عليه الأميركيون.

برزت إلى الواجهة أيضًا الأهمية الاستراتيجية لعلاقات إسرائيل السلمية – إنّما المتوتّرة – مع الأردن، ما يدحض الشكوك التي أعربَ عنها السياسيون الإسرائيليون اليمينيون مرارًا وتكرارًا في السنوات الأخيرة حول منفعة هذه العلاقات. واتَّضَحَ أيضًا أنَّ التعاون الاستراتيجي بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية والولايات المتّحدة بهدف التصدّي لهجمات الحوثيين منذ 7 تشرين الأوّل/أكتوبر يشمل قضايا أخرى بدوره.

فلكي تتمكّن إسرائيل من مواجهة إيران في المستقبل، لا بدَّ لها أن تُعزِّز شراكاتها الإقليمية. والسبيل الأفضل لتحقيق ذلك يندرج في سياق المسار نحو حلّ الدولتَيْن بين إسرائيل وفلسطين. فمن شأن ذلك أن يُتيح التطبيع بين إسرائيل والسعودية، بالإضافة إلى إعادة الزخم للعلاقات الإقليمية الحالية لإسرائيل.

في الوقت الراهن، يُرجَّح أن يعودَ كلٌّ من إسرائيل وإيران إلى حالة النزاع التقليدية. وسوف يُواصِل وكلاء إيران، وعلى رأسهم "حزب الله"، شنّ هجمات على حدود إسرائيل ، كما من المُرجَّح أن تستمرّ إسرائيل في تنفيذ عمليات سرّية ضدّ أهداف إيرانية على علاقة ببرنامجها النووي ومحاولة الحدّ من الوجود الإيراني في سوريا. وربّما سترتاح إسرائيل إذا كانت الخلاصة الرئيسية من هجمات نيسان/أبريل هي أنَّ ضرب الأهداف الإيرانية لا يؤدّي إلى ردٍّ إيراني إلّا إذا حصلَ على الأراضي الإيرانية (بما في ذلك بعثاتها الدبلوماسية في الخارج). فقاعدة الاشتباك هذه معقولة ويمكن الالتزام لها في نظر إسرائيل.

أظهرت كلٌّ من إسرائيل وإيران في مواجهتهما الأخيرة أنَّهما قادرتان على التصرُّف بعقلانية وضبط وتيرة الصدام ضمن المستوى الذي تُريدانه. وقد استخدمتا القنوات الدبلوماسية غير المباشرة القائمة بين الولايات المتّحدة وإيران (عبر الدبلوماسيين السويسريين مثلاً) التي سمحت لهما بنقل هذه الرسائل المتعمّدة. وتعترف إسرائيل على نحو متزايد بأهمية الوساطة التي تضمّ أطرافًا متعدّدة على جبهات مختلفة، ويتجلّى ذلك أيضًا في المحادثات الجارية لإطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم "حماس". يُعَدّ هذا التطوُّر إيجابيًا، ويجب أن يقترن بجهود إسرائيلية للاستثمار في إنشاء قنوات حوار خاصّة بها مع إيران.

د. نمرود غورين زميل أوّل مختصّ بالشؤون الإسرائيلية في معهد الشرق الأوسط ورئيس المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية "ميتفيم"، وأحد مؤسّسي مجلس دبلوماسية البحر الأبيض المتوسط Diplomeds.

براين كاتوليس

الاستقرار في الشرق الأوسط يحتاج إلى زيادة انخراط الولايات المتّحدة، وليس انسحابها

اختبرت الدول والجهات غير الحكومية لسنوات عدّة حدود نفوذها في ميزان القوى المتقلّب وغير المستقرّ في الشرق الأوسط. وكانَ نشوء تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا قبل عقدٍ من الزمن أحد الأمثلة على ذلك، ما دفعَ الولايات المتّحدة والشركاء الإقليميين الرئيسيّين إلى التعاون للتصدّي لهذا التهديد الاستراتيجي لنظام الدول والاستقرار العالمي.

يُمثِّل النزاع المفتوح بين إسرائيل وإيران، الذي اندلع في الأسابيع القليلة الماضية بعد عقود من حرب الظلّ، أحدث جولة بين دولتَيْن مهمّتَيْن تختبران حدود قوّتهما علنًا. وفي خضمّ الإرباك الناجم عن الأجندات ووجهات النظر السياسية المُتنافِسة والحرب الدعائية والإعلامية بشأن تبادل الصواريخ وهجمات المُسيَّرات بين الجانبَيْن، قد يتمّ إغفال نقطة جوهرية، ألا وهي أنَّ إسرائيل وإيران تخوضان مواجهة من سنوات عن طريق الهجمات الإرهابية، والاغتيالات، والحرب بالوكالة، وغيرها من الوسائل المُبطَّنة، والآن اتّخذت الأمور طابعًا علنيًا.

لكنّ جولة القتال المفتوح والمنخفض الشدّة بين إسرائيل وإيران كانت محدودة للغاية - حيث إنَّ تكاليفها البشرية والمالية لا تُذكَر، ولا سيّما مقارنة بالحروب الأهلية التي اندلعت لسنوات في أماكن أخرى من المنطقة مثل سوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا. فقد أرادَ كلٌّ من البلدَيْن توجيه رسالة للطرف الآخر واختبار طريقة ردّه، لكنَّهما كانا حريصَيْن على عدم خروج الأمور عن السيطرة.

ثمّة نقطة أساسية أخرى سقطت سهوًا في موجة التعليقات حول المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وإيران، حيث يسعى كلّ طرف إلى دفع الآخر إلى الخضوع لشروطه، ألا وهي الدور المركزي للولايات المتّحدة في منع التصعيد في المنطقة. فعلى الرغم من كلّ الضجيج وأجندات المناصرة التي تُطرَح من وجهات نظر أيديولوجية وحزبية عدّة في النقاش السياساتي الأميركي بشأن الشرق الأوسط، لا شكّ في أنَّ الوجود العسكري الأميركي وبعض المساعي السرّية ضمن إطار دبلوماسية الأزمات كانا في الواقع عاملَيْن أساسيَّيْن لتحفيز الطرفَيْن الرئيسيَّيْن، أي إسرائيل وإيران، على ممارسة درجة معيّنة من ضبط النفس. بنت الولايات المتّحدة تحالفًا فعليًا وغير مُعلَن في المنطقة ليس استجابةً لتنظيم "الدولة الإسلامية" فحسب، بل أيضًا للتهديدات المتزايدة الناجمة عن إيران وشبكة شركائها، بدءًا بالحوثيين في اليمن ووصولاً إلى "حزب الله" في لبنان، فضلاً عن الميليشيات والجماعات الإرهابية في فلسطين والعراق وسوريا. لقد أسقطَ هذا التحالف العسكري معظم الصواريخ والمُسيَّرات التي استخدمتها إيران لاستهداف إسرائيل. كذلك، فإنّ الجهود الدبلوماسية التي بذلتها الولايات المتّحدة مع إسرائيل، بتنسيقٍ خفيّ مع الشركاء العرب، هي التي أبقت ردّ إسرائيل على الهجوم الإيراني ضمن حدود مضبوطة.

ما الذي يعنيه ذلك في المرحلة المقبلة؟ أوّلاً، ينبغي على الولايات المتّحدة أن تُواصِلَ أداء دورَها القيادي في السعي إلى تعزيز التكامل الأمني الاستراتيجي بين شركائها في المنطقة، مع الاعتراف عمليًا بالقيود التي تفرضها ثغرات الثقة. فلا تتمتّع أيّ قوّة خارجية أخرى - لا الصين، ولا روسيا، ولا أيّ بلد أوروبي – بعلاقاتٍ معمّقة وواسعة في المنطقة تُتيح لها توفير الحماية ضدّ التهديدات الأمنية الإقليمية والتهديدات العالمية المتزايدة المنبثقة عن إيران وشبكة شركائها.

ثانيًا، يجب على الولايات المتّحدة تكثيف دورها الدبلوماسي في السعي إلى تهدئة التوتّرات في المنطقة وبذل الجهود الدبلوماسية خلف الكواليس لمساعدة الجهات الفاعلة في عدم الانجرار إلى مواجهة أوسع نطاقًا. ويعني ذلك العمل بشكل أوثق، بالتنسيق مع شركائها، في الجهود الرامية إلى تحقيق التكامل الإقليمي والمضيّ قدمًا نحو إنشاء دولة فلسطينية، وهو أمر يدعمه حاليًا أغلب شركاء الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط، باستثناء البعض منهم.

أخيرًا، ينبغي على الولايات المتّحدة أن تتغاضى عن الأصوات التي تعلو في النقاشات السياسية الداخلية، قائلةً إنَّ أميركا ووجودها العسكري والدبلوماسي في الشرق الأوسط يُشكِّلان عائقًا أكثر من كونهما عاملاً داعمًا للاستقرار الإقليمي. فقد أثبتت الأحداث التي طرأت في الأشهر الماضية أنَّ هذه الآراء لا تعكس واقع الشرق الأوسط اليوم، الذي من شأنه أن يستفيد من الانخراط الأميركي المتزايد والأكثر توازنًا وثباتًا في المنطقة.

براين كاتوليس هو زميل أوّل معني بشؤون السياسة الخارجية الأميركية في معهد الشرق الأوسط.

تشارلز ليستر

بعد تجاوز الخطوط الحمراء، تواجه إيران وإسرائيل اليوم بيئةً محفوفةً بالمخاطر التي يتعذّر التنبّؤ بها

طوال عقود من الزمن، بقي العداء الذي تتّسم به العلاقة بين إيران وإسرائيل خفيًّا - أي أنّه اقتصر على التجسُّس والفضاء الإلكتروني والخلايا السرّية والحلفاء بالوكالة والقوّات الخاصّة التي تعمل خلف خطوط العدو. وعلى الرغم من أنَّها كانت عنيفة وفتّاكة بدون شكّ في أحيان كثيرة، بقيت هذه الحرب الخفيّة وغير المتكافئة في الغالب لسنوات ضمن خطوط حمراء معيّنة غير مُعلَنة. وقد أنتج ذلك مستوى معيّنًا من القدرة على التنبّؤ بالأحداث وتفادي دوّامات التصعيد الخطير، أو على الأقلّ إبقائها ضمن دائرة الاحتمالات غير المُرجَّحة.

تغيَّرت المعادلة كلّها هذا الشهر، عندما انتُهِكَت بشكلٍ منهجي الخطوط الحمراء القائمة منذ وقت طويل، بدءًا من الأوّل من نيسان/أبريل، عندما شنّت إسرائيل غارة جوّية دقيقة على مبنى تابع للقنصلية الإيرانية في دمشق، ما أسفرَ عن مقتل جميع قادة فيلق القدس التابع لحرس الثورة الإسلامية في المشرق، وبينهم العميد محمّد رضا زاهدي. وبعد اثني عشر يومًا، في 13 نيسان/أبريل، حصلَ الردُّ الحتمي – فأطلقت إيران أكثر من 300 مُسيَّرة انتحارية وصاروخ جوّال وباليستي عبر الشرق الأوسط، مُستهدِفةً إسرائيل. وفي تنسيقٍ عسكري دولي لافت، بادرَت كلٌّ من الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة وفرنسا وإسرائيل والأردن وغيرها من الجهات الإقليمية إلى اعتراض كلّ الهجمات تقريبًا، ما أدّى فعليًا إلى إبطال الهجوم الجوّي غير المسبوق. وفي 18 نيسان/أبريل، ردّت إسرائيل بإطلاق عدّة صواريخ من طراز "بلو سبارو" على إيران من مُقاتِلات مُحلِّقة في المجال الجوّي العراقي، مُستهدِفةً موقع رادار تابع للحرس الثوري خارج أصفهان يحمي منشأة نطنز النووية.

ورغم أنَّ هذه الضربة البسيطة نسبيًا كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى قدرة إسرائيل على بلوغ أهداف في العمق الإيراني والتحذير من عدم التصعيد، إلّا أنَّ إيران تحتفظ بأوراق خاصّة للردّ في هذه المواجهة غير المتكافئة، أي عبر وكلائها. كانت المواجهة الخطيرة غير المسبوقة بين إسرائيل وإيران في الأسابيع الأخيرة عبارة عن مواجهة مباشرة بين دولتَيْن، في حين تابعَ وكلاء إيران نشاطهم السابق غير متأثّرين بالمستجدّات. والاستثناء الوحيد هنا هم شركاء إيران المسلّحون في العراق وسوريا الذين التزموا بوقفٍ غير مُعلَن للهجمات ضدّ القوّات الأميركية منذ أوائل شهر شباط/فبراير.

في السابق، عندما كانت إيران تُستَفَزّ بشكل خاصّ بالأعمال الإسرائيلية، كانت تستعين بوكلائها في سوريا والعراق للردّ - ليس ضدّ إسرائيل نفسها، ولكنْ عبر استهداف القوّات الأميركية كمصدر للضغط غير المباشر على السياسة الإسرائيلية. وقد تعود هذه الورقة إلى الساحة الآن فيما تسعى إيران إلى الردّ على ضربة أصفهان بأساليب غير متكافئة. في 21 و22 نيسان/أبريل، نفَّذَ وكلاء إيران ما لا يقلّ عن ثلاث هجمات ضدّ القوّات الأميركية في العراق وسوريا - وهي الأولى منذ ما يزيد عن 10 أسابيع.

ولم يأتِ تجدُّد الهجمات من باب الصدفة؛ وفي حين أنّ تلك الهجمات قد تشير إلى عودة الدينامية التي حكمت الأعمال العدائية قبل 1 نيسان/أبريل، يبدو أنّ هذا التوصيف متفائل بشكل مفرط. فبمجرّد تجاوز الخطوط الحمراء، تصبح الأخيرةُ ضبابيةً في أحسن الأحوال. ومن وجهة نظر الدول كما الوكلاء، أصبحت بيئة العمليات الآن أكثر خطورةً وأكثر عُرضة للتصعيد المقصود أو غير المقصود.

شارلز ليستر زميل أوّل ومدير برنامجَيْ سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرّف في معهد الشرق الأوسط.

روس هاريسون

إيران وروسيا والصين: تحالفٌ ثلاثي تحت وطأة الحرب

كُتِبَ الكثير عن تجدُّد المنافسة بين القوى العظمى في الشرق الأوسط. ولكن بُعيد هجمات "حماس" في السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، يبدو أنَّ روسيا والصين قد تنازلتا عن الصدارة لصالح الولايات المتّحدة، مُعوِّلين على قدرة واشنطن واستعدادها لكبح نزعة إسرائيل للانتقام وكذلك لمنع امتداد رقعة النزاع خارج غزّة. أمّا في أعقاب الهجوم الإيراني على إسرائيل في منتصف نيسان/أبريل والهجوم الإسرائيلي المضادّ، فلا بدَّ من فهم الدور الذي قد تضطلع به كلٌّ من موسكو وبيجين في المرحلة المقبلة لناحية تخفيف وتيرة التصعيد بين إيران وإسرائيل.

تبدو روسيا والصين وكأنَّهما أقلّ نشاطًا على الساحة الإقليمية مقارنةً بما قبل 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، وذلك لعدّة أسباب. أوّلاً، لديهما موارد عسكرية ودبلوماسية محدودة للتعامل مع القتال المُحتدم في غزّة. ثانيًا، لا تواجه روسيا والصين القدر نفسه من المخاطر في حرب غزّة مقارنةً بالولايات المتّحدة، كون الأخيرة هي الحليف الرئيسي لإسرائيل.

ولكنْ، ثمّة تعليلٌ أقرب إلى المنطق الاستراتيجي يُفسِّر تراجع روسيا والصين. فالبلدان يستفيدان من النشاط الأميركي في المنطقة منذ السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر من دون الحاجة إلى بذل أيّ جهد. بالنسبة إلى روسيا، أدّت حرب غزّة والدور الذي لعبته الأسلحة الأميركية في هجمات إسرائيل الدموية إلى صرف الأنظار الدولية عن وحشية موسكو في أوكرانيا، كما عرّضت واشنطن لاتهامات بازدواجية المعايير. وبالنسبة إلى الصين، تراجعَ التركيز أيضًا عن تايوان مقارنةً بما كانت عليه الأمور قبل ستّة أشهر. واستفادت بيجين أيضًا من الجهود الأميركية لتوفير الأمن في ممرّات الشحن الحيوية في البحر الأحمر التي تتعرّض لهجمات الحوثيين. إضافةً إلى ذلك، استفادت روسيا والصين سياسيًا من الهزيمة التي تكبَّدَها الرئيس الأميركي جو بايدن على الساحة العالمية وفي بلده بسبب تقديمه ما اعتُبِرَ دعمًا غير مشروط لإسرائيل.

ولكنْ، في 1 نيسان/أبريل، عندما هاجمت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، تغيَّرَت المعادلة كلّها. ومنذ ذلك الحين، تحوَّلَ النزاع من حرب ظلّ تخوضها بالدرجة الأولى الميليشيات المدعومة من إيران، إلى نزاعٍ مباشر بين إيران وإسرائيل. والآن، أصبحت الصين وروسيا معنيّتَيْن أكثر بالنتيجة؛ فلن يستفيد أيٌّ منهما من اندلاع حرب واسعة النطاق في الشرق الأوسط. وتُدرِك موسكو أنَّ الحرب الطويلة يمكن أن تُزعزع حُكم الرئيس بشّار الأسد في سوريا، معقل روسيا الرئيسي في المنطقة. وستخسر موسكو وبيجين إذا وقعت حرب كبرى وأدّت إلى زعزعة استقرار إيران، الحليف الرئيسي لكليهما، وإذا خرجت واشنطن مُنتصِرَةً بطريقة أو بأخرى بعد مواجهة بهذا الحجم.

لكنَّ أوجه التشابه تقفُ عند هذا الحدّ بسبب الاختلافات الكبيرة بين مصالح روسيا ومصالح الصين. فروسيا لا تكترثُ كثيرًا لنجاح الجهود الدبلوماسية، بل تفضّل بقاء إيران دولة منبوذة دبلوماسيًا كحالها. كذلك، في حال نجاح الجهود الدبلوماسية في إنهاء حرب غزّة وإعادة الاستقرار للشرق الأوسط، قد تعود الأنظار الدولية للتركّز مجدّدًا على أوكرانيا. وقد يؤدّي الاستقرار أيضًا إلى انخفاض أسعار النفط العالمية، الأمر الذي من شأنه أن يزيد الضغط على الاقتصاد الروسي الذي يرزح تحت وطأة العقوبات. وأخيرًا، يمكن للجهود الدبلوماسية أن تعود بالمنفعة على واشنطن، وهو أمرٌ تريد موسكو تجنُّبه بأيّ ثمن. بعبارة أخرى، صحيحٌ أنَّ روسيا لا تريد حربًا شاملة في الشرق الأوسط، لكنَّها تستفيد من النزاع المُحتدِم وغياب المساعي الدبلوماسية الرامية إلى خفض وتيرة التصعيد.

في المقابل، فإنَّ الاستقرار الإقليمي الشامل يخدم مصلحة الصين، وبالتالي لديها مصلحة أكبر في الدبلوماسية – شرط أن تكون الأخيرة متناغمة مع تفضيلات بيجين. أوّلاً، من مصلحة الصين حماية التقارُب الذي توسّطت فيه قبل أكثر من عام بين المملكة العربية السعودية وإيران، وهو الاتّفاق الذي قد تُطيح به الحرب الواسعة النطاق. إضافةً إلى ذلك، قد يؤدّي ارتفاع أسعار النفط نتيجة الحرب إلى تعكير صفو الاقتصاد الصيني الذي يواجه تحدّيات عدّة في الأساس. وأخيرًا، استفادت الصين اقتصاديًا واستراتيجيًا من قدرتها على التعامل مع جميع الجهات الفاعلة في المنطقة، وهو أمرٌ قد تُعيقه الحرب الشاملة.

تُريد روسيا والصين تجنُّب الحرب الشاملة في الشرق الأوسط. ولكنْ، من المتوقع أن تستفيد الصين من الجهود الدبلوماسية أكثر من روسيا. للمفارقة، من مصلحة إسرائيل وروسيا إبقاء النزاع الحالي على نارٍ هادئة، وذلك لأنَّ ساعة الحساب قد تدقّ لقيادات البلدَيْن عندما يهدأ الصخب. في المقابل، قد تكون للصين والولايات المتّحدة مصلحة مشتركة في تحقيق الاستقرار، وإنْ اختلفت وجهات النظر حيال ذلك. وبدلاً من المنافسة على سلامٍ أميركي جديد أو سلامٍ صيني، ربّما تستطيع واشنطن العمل على إيجاد أرضية مشتركة مع بيجين لتمهيد الطريق أمام شرق أوسط أكثر أمانًا واستقرارًا، مع الحدّ من قدرة موسكو على لعب دورها المُفسِد المعهود.

روس هاريسون زميل أوّل ومحرّر سلسلة كتب في معهد الشرق الأوسط.

رندا سليم

تصعيد النزاع الإيراني-الإسرائيلي سيزيد من تعقيد المفاوضات بين إسرائيل و"حماس"

حتّى هذه اللحظة، لم تنجح عملية الوساطة الثلاثية التي ترأسها قطر ومصر والولايات المتّحدة بين إسرائيل و"حماس" في التوصُّل إلى هدنة إنسانية ثانية يمكن أن تؤدّي إلى وقف دائم لإطلاق النار تزامنًا مع الإفراج عن الرهائن الإسرائيليّين والأسرى الفلسطينيين المُحتجَزين في السجون الإسرائيلية. وفي ظلّ الضغط الذي مارسه الرئيس الأميركي على المسؤولين الإسرائيليين، سمحت إسرائيل بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة – ولكنَّ هذه الكميات ما زالت غير كافية لدرء شبح المجاعة. في الوقت نفسه، تُشير المعلومات إلى أنَّ إسرائيل تستعدّ لغزو برّي في رفح، جنوب قطاع غزّة - وهو الملجأ الأخير المتبقّي داخل القطاع لأكثر من مليون فلسطيني فرّوا من شمال القطاع ووسطه.

وعلى الرغم من أنَّ أيًّا من أطراف المحادثات لم يُعلِن وصول الأمور إلى طريقٍ مسدود، لم يُبدِ الطرفان المتنازعان، أي إسرائيل و"حماس"، استعدادهما لتقديم التنازلات الصعبة اللازمة للتوصُّل إلى اتّفاق. فكلٌّ منهما يُلقي اللوم على الطرف الآخر مُتّهِمًا إياه بعرقلة المفاوضات، كما أنَّ الإدارة الأميركية تدخّلت وألقت اللوم على حركة "حماس" مُعتبِرةً أنَّها العقبة الأساسية التي تَحول دون التوصُّل إلى انفراجٍ في المفاوضات. من جهة أخرى، لن يؤدّي التصعيد الحادّ في النزاع الإيراني-الإسرائيلي هذا الشهر سوى إلى إبعاد احتمال التوصُّل إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار في غزّة.

وحتّى لو وضعنا جانبًا العواقب الإقليمية الأوسع نطاقًا للهجمات الإيرانية والإسرائيلية المتبادلة الأخيرة، يمكن القول إنَّ عملية الوساطة بين إسرائيل وحركة "حماس" مُعلَّقة، وسنكون بحاجة إلى تغييرات جذرية في ديناميات النزاع في غزّة، إمّا بسبب الضغط الداخلي أو الخارجي أو كليهما، لتغيير حسابات الخصمَيْن الرئيسيَّيْن حيال قيمة التوصُّل إلى اتّفاق. ولا يزال قادة إسرائيل و"حماس" مُقتنِعين، وليس بالضرورة للأسباب نفسها، بأنَّ الاتّفاق سيُضرّ بمصالحهما أكثر من الوضع الراهن.

يُقاتِل رئيس الوزراء الإسرائيلي من أجل بقائه السياسي، فيما يُقاتِل قادة "حماس"، ولا سيّما أولئك الذين ما زالوا في غزّة، من أجل البقاء على قيد الحياة. ويواجه كلاهما قراراتٍ مصيرية، ما يعني أنَّ تكاليف الخسارة باهظة، والعواقب ليست نظريةً فحسب. فالقرارات التي يتّخذونها الآن ستكون لها عواقب حتمية على مستقبلهم الشخصي.

يمارس الناخبون الإسرائيليون ضغوطًا لدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي باتّجاه تقديم تنازلات يمكن أن تضمن التوصُّل إلى اتّفاقٍ. إلّا أنَّ هذا الاتّفاق ربّما يعني انتهاء مستقبله السياسي. وفي الجانب الآخر، يمارس المسؤولون القطريون والمصريون أيضًا ضغوطًا على قيادة "حماس" للتوصُّل إلى اتّفاق. وفي الوقت نفسه، لم توقف إسرائيل هجماتها على غزّة، كما أنَّها تُهدِّد الآن بغزو برّي في رفح. بالنسبة إلى قادة حركة "حماس"، وتحديدًا أولئك الذين ما زالوا في قطاع غزّة، يهدف الاتّفاق بالدرجة الأولى إلى القضاء عليهم وإنهاء دور الحركة في إدارة الشؤون الفلسطينية. وفي الواقع، أعلنَ المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون صراحةً عن نيّتهم تحقيق هذين الهدفَيْن.

وعلى الرغم من أنَّ فريق الوساطة الثلاثي يتمتّع بإمكانية الوصول إلى الطرفَيْن المتنازعَيْن ويحظى بقبولٍ منهما، لكنَّه لا يحظى بثقة أيٍّ منهما. فيطرح كلّ عضو في الفريق أجندته الخاصّة على طاولة الحوار، ما يجعل المفاوضات بين الوسطاء حول الأهداف المنشودة من المحادثات صعبةً في حدِّ ذاتها. ويعاني الطرفان المتنازعان أيضًا من انعدام الثقة في صفوف الجبهة الداخلية. فالانقسامات بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين تمنع القيادات في الطرفَيْن من اتّخاذ القرارات الصعبة التي لن تقبلها بالضرورة جميع الأطراف المعنيّة على كلا الجانبَيْن. ففي صفوف الفلسطينيين، تزداد المعارضة الشعبية ضدّ حركة "حماس"، حيث يلوم الشعب الحركة على المصاعب والمآسي التي يعاني منها. كذلك، تزداد المعارضة الشعبية في صفوف الإسرائيليين صدّ رئيس الوزراء الإسرائيلي لفشله في إعادة الرهائن ولإدارته السيّئة للحرب وتداعياتها السياسية على سُمعة إسرائيل في الخارج.

وما يزيد من صعوبة هذه المفاوضات هي النزاعات الجانبية التي تؤثّر بصورة مباشرة على حسابات صنع القرار لدى القادة في النزاع بين إسرائيل و"حماس". ففي ظلّ تصاعد وتيرة المواجهة الإيرانية-الإسرائيلية، فضلاً عن التصعيد التدريجي في الاشتباكات الحدودية بين "حزب الله" وإسرائيل، سقطت قواعد الاشتباك السابقة التي كانت تحكم تلك النزاعات، ما أضاف عنصرًا آخر من عناصر الاضطراب إلى سياقٍ متقلّب أساسًا. فتلك النزاعات تصرف الانتباه بعيدًا عن الحرب في غزّة وتجعل قرار قيادات إسرائيل و"حماس" بالتوصُّل إلى اتّفاق أكثر صعوبةً. بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، إنَّ ضبط الوضع على الجبهة الإيرانية-الإسرائيلية يُقلِّل من هامش المناورة لديه بشأن التنازلات التي يمكن تقديمها لحركة "حماس"، ولا سيّما إذا أرادَ الحفاظ على دعم أعضاء ائتلافه اليميني. لذا، فالحرب في لبنان قد تمنحه مهلةً سياسية. ومع ذلك، إذا عُدنا بالنظر إلى الوراء، فإنَّ الحروب الإسرائيلية السابقة في لبنان انتهت عادةً بفقدان رئيس الوزراء الإسرائيلي مصداقيته وإقالته من منصبه في نهاية المطاف.

إنَّ قرار إيران بتحويل حرب الظلّ التي تخوضُها مع إسرائيل إلى حرب مباشرة بينهما، وسياسة "حزب الله" التصعيدية المُعلنة إزاء إسرائيل، فضلاً عن مشاركة أعضاء آخرين من محور المقاومة الذي تقوده إيران في دعم "حماس"، كلّ ذلك يمنحهم ويمنح طهران مقعدًا على طاولة صنع القرار، ما يزيد من صعوبة عملية صنع القرار المتوتّرة أساسًا في الجانبَيْن.

إنَّ المفاوضات المتعدّدة الأطراف والتي تنطوي على قضايا متعدّدة تستغرق في العادة وقتًا طويلاً لتَصِلَ إلى اتّفاقٍ مقبول لدى جميع الأطراف. ويصحّ ذلك بشكل خاصّ إذا خيضَت المفاوضات في خضمّ نزاع شرس أودى بحياة عشرات الآلاف من المدنيّين وأسقطَ عددًا أكبر من الجرحى، وقَلَبَ حياة الملايين رأسًا على عقب، وشملَ حتّى الآن ستّة ميادين عسكرية مختلفة. لذلك، لا ينبغي لنا أن نتوقّع التوصُّل إلى خاتمة تفاوضية سريعة أو سهلة لهذه الحرب.

رندا سليم مديرة برنامج تسوية المنازعات وحوارات دبلوماسية المسار الثاني في معهد الشرق الأوسط، كما أنَّها زميلة غير مُقيمة في معهد السياسة الخارجية التابع لكلية الدراسات المتقدّمة والدولية في جامعة جونز هوبكنز.

روبرت س. فورد

رسم "الخطوط الحمراء" الجديدة: دروس قديمة من لبنان

أخطر مفاصل في السياسة الدولية هي عندما يحاول الخصوم المسلّحون إعادة رسم "خطوطهم الحمراء"، تمامًا كما نشهد اليوم بين إيران وإسرائيل. فكلُّ طرفٍ يسعى إلى إعادة بناء قوّته الرادعة ضدّ الطرف الآخر، ولكنْ قد يتمّ تجاوز الخطوط الحمراء المُبهَمة والانزلاق إلى مواجهة مسلّحة متصاعدة وغير مقصودة. لذلك، يجب أوّلاً تحديد الخطوط الحمراء لدى الخصمَيْن. ولإيضاح هذه الفكرة، يمكننا العودة إلى مثالٍ من عدّة عقود مضت.

بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1978، توصَّلت كلٌّ من إسرائيل وسوريا إلى تسوية مؤقّتة في البلد: لم تنشر سوريا قوّاتها جنوب نهر الليطاني، ووافقَ الإسرائيليون على الانتشار العسكري السوري في أماكن أخرى من لبنان شرط ألّا تستخدِم دمشق بطاريات مضادة للطائرات لأنَّها قد تعترض رحلات الاستطلاع الإسرائيلية. تقبَّل السوريون أنَّ إسرائيل تسعى إلى ردع الهجمات على طول حدودها الشمالية، في حين تفهَّم الإسرائيليون المخاوف السورية بشأن عدم الاستقرار في لبنان وإمكانية انتقاله إلى سوريا. احترمَ كلُّ طرفٍ المصالح الأمنية للطرف الآخر، أو أدركا على الأقلّ أنَّ جهود التصدّي للطرف الآخر ستكون باهظة الثمن. واستمرّت قواعد اللعبة هذه إلى أن رأت الحكومة الإسرائيلية فرصةً استراتيجية واجتاحت لبنان في عام 1982.

بالعودة إلى عام 2024، تحتاج كلٌّ من إسرائيل وإيران، كما إسرائيل وسوريا سابقًا، إلى فهم الخطوط الحمراء التي أعاد الطرف الآخر رسمها. ومن شأن المساعي الدبلوماسية التي تبذلها الأطراف المعنيّة، بما في ذلك الولايات المتّحدة، أن تساعد الخصمَيْن على تحقيق هذا التفاهم وتمرير التحذيرات. في حالة إيران وإسرائيل، اللتين لا تربطهما علاقات مباشرة، يتعيّن على حكومات أخرى أن تتكفّل بنقل الرسائل أو ربّما تأدية دور الوسيط للقواعد الجديدة. ولكنْ، للتوصّل إلى نتيجةٍ فعّالة، على واشنطن أن تفهم الفرق بين دور حامل الرسائل ودور الوسيط. يمكن لواشنطن أن تكتفي بنقل الرسائل إلى إسرائيل من دُوَل تتواصل مع طهران وليست لديها اتّصالات مستمرّة مع إسرائيل (مثل عُمان وقطر). ولكنْ، إذا أرادت واشنطن التوسُّط لتثبيت قواعد اللعبة - وتخفيف الضغط للتدخُّل ضدّ إيران لاحقًا - فيجب أن تكون مستعدّة لتغيير تصوُّر إسرائيل لمصالحها الوطنية عندما تختبر الخطوط الحمراء الإيرانية.

إنَّ فشل إدارة الرئيس رونالد ريغان في الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن ووزير الدفاع أرييل شارون للامتناع عن غزو لبنان في العام 1982، ساعدَ إسرائيل على اتّخاذ قرار إلغاء التسوية المؤقّتة. وفي محاولةٍ لاحتواء الأزمة لاحقًا، طالبَ الرئيس ريغان شخصيًا، بعد أربعة أشهر، أن يمارس بيغن ضبط النفس أثناء قصفه لبيروت في آب/أغسطس 1982. وافقت إسرائيل على ذلك، وسمحَت تلك الهدنة للمبعوث الأميركي فيليب حبيب بالمضيّ قطمًا في خطّة للانسحاب من لبنان. على المقبل الآخر، ينبغي على واشنطن وعواصم أخرى أن تحثّ إيران على احترام الخطوط الحمراء الإسرائيلية. كذلك، سيتعيّن على إيران أن تثبت أنَّ وكلاءها في العراق وسوريا، ولا سيّما "حزب الله" في لبنان، سيحترمون الخطوط الحمراء الإسرائيلية. وثمّة مسألةٌ ملحّة بصورة خاصّة، وهي هجمات "حزب الله" على التجمّعات في شمال إسرائيل التي اضطرّ سكّانها إلى إخلائها. إنَّ وساطة واشنطن الناجحة في تحديد قواعد اللعبة بين إسرائيل وإيران لن تتطلّب استخدام النفوذ فحسب، بل ستقتضي أيضًا القدرة على إنفاذها على المدى الطويل. سقطت خطّة حبيب للبنان لاحقًا عندما سعت واشنطن إلى تقليص مشاركتها. وسيكون من الصعب لإدارة بايدن الحفاظ على نفسها الطويل وضمان استدامة القواعد الجديدة بين إسرائيل وإيران نظرًا للأولويات الكثيرة في واشنطن في عام 2024.

السفير (المتقاعد) روبرت س. فورد زميل أوّل في معهد الشرق الأوسط، يتناول في كتاباته التطوُّرات في دول المشرق العربي وشمال أفريقيا.

الصورة في الأعلى: مرتضى نيكوبازل / وكالة "نور فوتو" بواسطة صور "غيتي"

 

 

 

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.
البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك