MEI

آراء الخبراء: الخطوات اللازمة لوضع حدٍّ للحرب في غزَّة

أبريل 04, 2024

براين كاتوليس, بول سالم, خالد الجندي, نمرود غورين


مشاركة

آراء الخبراء: الخطوات اللازمة لوضع حدٍّ للحرب في غزَّة

مقدِّمة 

 

مرَّت ستَّة أشهر منذ أن شنَّت حركة "حماس" هجومها على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، الذي أدَّى إلى اندلاع الحرب في غزَّة، إلا أنَّ هذا النزاع العنيف والمدمِّر لا يبدو قريبًا من خواتيمه، بل إنَّ خطر امتداد الأعمال القتالية إلى ساحات أخرى في المنطقة يزداد يومًا بعد يومٍ. في نهاية شهر آذار/مارس، فشلت مبادرة دولية جديدة في التوصُّل إلى وقفٍ مؤقَّت لإطلاق النار ومبادلة السجناء بالأسرى، إذ رفضت حركة "حماس" الصفقة وسحبت إسرائيل مفاوضيها من قطر. وهذا الأسبوع، أعدَّ المفاوضون صيغةً جديدةً، ولكن ليس من الواضح ما إذا سيتم الاتفاق عليها؛ إذ لا يُبدي أيُّ طرفٍ استعدادًا للقبول بتسوية أو للتراجع عن أهدافه من الحرب.

أما زال من الممكن التوافق على وقفٍ مؤقَّت لإطلاق النار كخطوةٍ أولى نحو تحقيق وقف دائم للعدوان وإعادة إطلاق عملية حلِّ النزاع؟ ما هي المحفِّزات والعوائق التي يمكن أن يواجهها الطرفان الرئيسان في النزاع -أي إسرائيل وحركة "حماس"- في إطار السعي إلى تحقيق هذه الأهداف؟ هذا بعضٌ من الأسئلة التي طرحها معهد الشرق الأوسط على مجموعة من الخبراء في المنطقة والولايات المتحدة. 

وجهات النظر 


بول سالم

سلسلة المخاطر الناجمة عن حربٍ مطوَّلةٍ، وضرورة وقفها

نشب النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي منذ عقود، وها هو لهيبه الأخير يتَّقد للشهر السادس على التوالي، ولا بدَّ من إخماده في أسرع وقتٍ ممكن. كان هجومُ حركة "حماس" على إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الهجومَ الأعنف ضد مدنيِّين في تاريخ إسرائيل المعاصر، والتهديدَ الأشدَّ لأمنها القومي منذ عام 1973. أمَّا الفلسطينيُّون فيواجهون هجومًا إسرائيليًّا مضادًّا مدمِّرًا، والكارثة الأكبر منذ نكبة 1948 ونكسة 1967. وفيما أضعفَ الردُّ الإسرائيليُّ الفتَّاك حركة "حماس" إلى حدٍّ كبير، أنتجَ أيضًا تعقيداتٍ إضافيةً في معضلة إسرائيل السياسية الاستراتيجية على المدى البعيد.

على مستوى الشرق الأوسط عمومًا، عكسَ النزاعُ التوجُّهَ الإقليميَّ نحو التهدئة والتطبيع، الذي سبق السابع من تشرين الأول/أكتوبر. كذلك، امتدَّ النزاع إلى ساحات أخرى أو فاقم التوتُّرات القائمة أساسًا في بلدان مثل لبنان واليمن والبحر الأحمر والعراق وسوريا، كما أدَّى إلى تأجيج الرأي العام في العالمَيْن العربيِّ والإسلاميِّ. ونرى من جديد إيران ووكلاءَها في المنطقة يستغلُّون المشاعر الشعبية المؤيِّدة لفلسطين والمناهضة لإسرائيل، في حين يكتسب تنظيما "الدولة الإسلامية" و"القاعدة" والمجموعات المتطرفة السُّنِّيَّة الأخرى مادةً جديدةً لتجنيد الأتباع على مدى سنواتٍ وسنواتٍ. بالتوازي مع ذلك، بلغت المشاعر المناهضة للولايات المتّحدة مستوياتٍ قُصوَى، علمًا أنَّ القوات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط تخضع لضغوط الهجمات المتقطعة ضدها. والخطير في هذا الأمر أنّ الولايات المتحدة تبدو ضعيفةً أمام شركائها وخصومها على حدٍّ سواء، لأنها غير قادرة على التأثير على حليفها الإقليمي الأول -أي إسرائيل- كما تعجز أيضًا عن تشكيل رادع دائم لخصمها الإقليمي الأول، أي إيران ووكلائها.

عاثت الحرب المستمرَّة دمارًا وهلاكًا في المنطقة، من الهجوم الأوَّلي الذي شنته حركة "حماس" على الإسرائيليّين، إلى التدمير المتواصل الذي يفتك بغزة منذ ذلك الحين، فضلًا عن التداعيات الإقليمية المذكورة أعلاه. في حال طال أمد الحرب، فستُهرَق عشرات الآلاف من الأرواح أو تُدمَّر في غزة، وقد يخرج خطر التصعيد الإقليمي عن السيطرة. كذلك، فإنَّ استمرار الحرب قد يؤدِّي إلى تصعيد على مستويَيْن آخرَيْن: أ) امتداد الاضطرابات البحرية إلى منطقة الخليج، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة ويخلِّف تداعيات اقتصادية عالمية؛ و/أو ب) وقوع حادث كبير في المسجد الأقصى في القدس أو محيطه، وهو ما قد يغيِّر طابع النزاع من صراع إسرائيلي-فلسطيني إلى صراع بين إسرائيل والعالم الإسلامي الأوسع– مصحوبًا بتبعات خطيرة للغاية.

بالإضافة إلى ذلك، لن تكتسب إسرائيلُ أيَّ منافع استراتيجية بارزة من استمرار الحرب؛ فقد تراجعت قوّة حركة "حماس" تراجعًا كبيرًا؛ وعلى غرار "حزب الله" بعد عام 2006، وعلى الرغم من التهديدات الكثيرة، لن تتمتَّع حركة "حماس" ولسنواتٍ طويلةٍ بالقدرة السياسية أو العسكرية على جرِّ سكان قطاع غزة إلى حربٍ أخرى مع إسرائيل. وسواء استولت إسرائيل على رفح أم لا، فستبقى المعضلة الاستراتيجية الطويلة الأمد للدولة اليهودية هي نفسها إلى حدٍّ كبير، في حين أنَّ احتمالات تحرير بقية الرهائن الإسرائيليين المُحتَجَزين في غزة بشكل آمن قد تتضاءل أكثر فأكثر. ستظل حركة "حماس" قائمة وبوسعها أن تشنَّ تمرُّدًا طويل الأمد إذا كانت إسرائيل تخطط للإبقاء على احتلالها الكامل لغزة في المستقبل المنظور، أو يمكنها أن تسعى إلى إعادة تسليح أفرادها وإعادة رصِّ صفوفها مع مرور الوقت. بالتالي، للمضيّ قدمًا، لا بدَّ من اعتماد مسار سياسي يشمل السلطة الفلسطينية، والدول العربية، والولايات المتحدة، والمجتمع الدولي. بيد أنَّ هذه المساعي كلها ستزداد صعوبة إذا ما قُتل عشرات الآلاف الإضافيِّين من الفلسطينيين في النزاع أو قضوا نتيجة المجاعة والمرض، أو إذا شهد أحد مسارات الصراع الإقليمي المذكورة أعلاه تصعيدًا إضافيًّا وخرج عن السيطرة.

بالنسبة إلى الطرفَيْن -الإسرائيلي والفلسطيني- فإنَّ ترتيبات إعادة إرساء الأمن البشري تعتمد على الرؤية والجهود الدبلوماسية التي تبدأ يوم انتهاء القتال، وليس على المعارك المتبقية من الحرب القائمة. لذلك، من الضروري لجميع الأطراف الإقليمية وللولايات المتحدة أن تدأب على بلوغ هذا اليوم في أقرب وقت ممكن. 

بول سالم هو رئيس معهد الشرق الأوسط ومديره التنفيذي. يهتمُّ بقضايا التغيير السياسي والانتقال والنزاع، وكذلك بالعلاقات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط.

براين كاتوليس

الحلقة الضائعة: الدبلوماسية الاستراتيجية الأمريكية

ردًّا على الهجوم الذي شنَّته حركة "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر على إسرائيل، والذي أطلق شرارة الحرب الدائرة حاليًا، عزَّزت إدارة "بايدن" جهودها الدبلوماسية في الشرق الأوسط. إلا أنَّ الولايات المتَّحدة واجهت تحدياتٍ بارزةً في إعادة توجيه تركيزها وانتباهها نحو المنطقة، كون الإدارة الأمريكية أمضت سنتين ونصف من ولايتها ملتزمةً بمقاربةٍ حَذِرةٍ تجاه المنطقة، فوضعتها في أسفل سُلَّم أولوياتها في مجال السياسة الخارجية بعد الصين والحرب الروسية على أوكرانيا والتغيُّر المناخي وغيرها من الملفات.

في هذه المرحلة، من يدير التطورات في الشرق الأوسط هُم الطرفان المتنازعان الرئيسان في الحرب الدائرة -أي إسرائيل وحركة "حماس"- إلى جانب عددٍ من الأطراف الأخرى، ولا سيما تلك التي تدعمها إيران، بما في ذلك جماعة الحوثي في اليمن و"حزب الله" في لبنان، فضلًا عن عددٍ من الميليشيات في العراق وسوريا. سرعان ما فهمت إدارة "بايدن" أنَّ مبدأ "الدبلوماسية أولًا" لا يعني بالضرورة "الدبلوماسية حصرًا"، وعزَّزت بسرعة قوَّاتها العسكرية في المنطقة لردع عددٍ من المجموعات التي تهدِّد الحضور العسكري الأمريكي وتقوِّض أمن إسرائيل وغيرها من الشركاء الإقليميِّين.

كذلك، كثَّف فريق "بايدن" المساعي الدبلوماسية المباشرة على جبهات متعدِّدة، غير أنَّ تلك الجهود تركَّزت حتى الآن حول الاستجابة للأزمة وإدارتها. فعيَّنت الولايات المتحدة مبعوثًا خاصًّا للشؤون الإنسانية وأرسلت عددًا من مسؤولي الأمن القومي رفيعي الشأن في رحلاتٍ متتاليةٍ للمشاركة مباشرةً في محادثات وقف إطلاق النار والمفاوضات لإطلاق الأسرى، والتي بلغت شهرها الرابع منذ فشل الوقف المؤقت للقتال في أوائل شهر كانون الأول/ديسمبر. كذلك، سافر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ستَّ مرَّاتٍ إلى المنطقة منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي وحتَّى آذار/مارس من هذا العام، ولا شكَّ في أنَّ الدبلوماسي الأمريكي سيعود قريبًا إلى المنطقة.

وفي سياق حديثهم عن كيفية إنهاء الحرب في غزة، يناقش الأمريكيون الأساليب المُمكنة لاستخدام نفوذهم لتوجيه الحملة العسكرية الإسرائيلية بما يقضي على التهديد الذي تطرحه حركة "حماس". ويجري التركيز في الأسابيع الأخيرة على استخدام أشكال النفوذ الحازمة، مثل وقف شحنات الأسلحة المُقدَّمة إلى إسرائيل. إلَّا أنَّ هذا المسار لا يفسِّر كيف يمكن للولايات المتحدة أن تتَّخذ هذه الخطوات وتنجح في الوقت نفسه في تحقيق أهدافها الأساسية المُعلَنة، بما فيها القضاء على تهديد "حماس" وإطلاق سراح الأسرى الذين يضمُّون مواطنين أمريكيِّين، والحدُّ من خطر اندلاع حرب إقليمية، وإحراز تقدُّم نحو تنفيذ حلِّ الدولتين. وعليه، تبدو المناقشات الأمريكية حول الحرب في غزَّة عالقةً في المتاهات التكتيكية، فتعكس واقع السياسة الراهنة وطريقة تنفيذها.

في سبيل الربط بين وقفٍ مؤقَّتٍ آخر لإطلاق النار والدبلوماسية الإقليمية الأوسع نطاقًا، لا بدَّ للإدارة الأمريكية من أن تنكبَّ على الدبلوماسية الاستراتيجية النشطة التي لا تزال غائبةً منذ تعزيز الجهود الدبلوماسية في تشرين الأول/أكتوبر.

أما الحلقة الضائعة في هذه المعادلة فهي إنشاء مجموعة تواصل إقليمية من شأنها أن تنسِّق الأعمال لمعالجة المسائل القصيرة الأمد مثل الأزمة الإنسانية، فضلًا عن وضع إطار عملٍ طويل الأمد يرعى الجهود الإقليمية المُشتَرَكة لإعادة الإعمار بعد النزاع، في مسعى لتمهيد الطريق أمام حلِّ الدولتين، واتخاذ خطواتٍ ملموسةٍ لتحقيق التكامل الإقليمي على نطاق واسع. وفي الواقع، قد يساعد الزخم الإيجابي الذي أنتجته بعض الجهود الدبلوماسية الأساسية قبل أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، مثل الاتفاق المحتمل لتطبيع العلاقات السعودية-الإسرائيلية وأفكار مثل الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، الذي أُعلِن في قمَّة مجموعة الدول العشرين في العام الماضي، في تعزيز إمكانية التوصُّل إلى تسوية إسرائيليَّةٍ-فلسطينيَّةٍ دائمةٍ.

يمكن أن تضمَّ مجموعة التواصل الإقليمية فريقًا مختارًا من شركاء الولايات المتَّحدة الذين سبق أن شاركوا في جهود دبلوماسية مهمة، حتى ولو كانت متفرِّقةً وترمي إلى تحقيق أغراضٍ محدَّدةٍ نتيجة غياب هيكليَّةٍ شاملةٍ ومتكاملةٍ. وبالإضافة إلى الشركاء العرب -مثل مصر والأردن والسلطة الفلسطينية ودول خليجية بارزة- يمكن إشراك الدول الأوروبية والآسيوية المهتمة. ولا بدَّ لإدارة بايدن من تعيين مبعوثٍ خاصٍّ تابع لوزارة الخارجية لإدارة أنشطة المجموعة. على غرار التحالف الذي أنشأته الولايات المتحدة مع شركاء في المنطقة والعالم للاستجابة لنشوء تنظيم "الدولة الإسلامية" في عام 2014، يركِّز هذا التحالف الإقليمي على تنسيق العمل المشترك والجهود الأساسية المرتبطة بالنزاع الراهن والتخطيط الاستراتيجي لمرحلة ما بعد النزاع.

بيد أنَّ نجاح مثل هذه المبادرة يتطلَّب تعزيز المشاركة الأمريكية في الشرق الأوسط عوضًا عن الانكفاء أو ممارسة سياسة الموازنة عن طريق قوى إقليمية (offshore balancing)، كما أنَّه يستوجب تركيزًا طويل الأمد يصعب تحقيقه خلال عام انتخابي في الولايات المتحدة. 

براين كاتوليس هو زميل أوَّل في السياسة الخارجية الأمريكية ومستشار أوَّل لرئيس معهد الشرق الأوسط.

نمرود غورين

إسرائيل بحاجة لتعزيز أمنها ولقيادة جديدة للانتقال نحو السلام

يبحث المجتمع الدولي عن حلٍّ سريع لإنهاء الحرب في غزة. ويدعو عددٌ متزايدٌ من البلدان لوقفٍ فوريٍّ ودائمٍ لإطلاق النار، إلى جانب اتخاذ خطوات من شأنها أن تفرض حلَّ الدولتين بحكم الأمر الواقع.

تريد الأطراف الإسرائيلية التي تسعى إلى تحقيق السلام مع الفلسطينيِّين إحراز تقدُّمٍ سريعٍ نحو وضع حدٍّ للنزاع، غير أنَّ الواقع الميداني والتحرُّكات الدولية الراهنة تشير إلى وجهةٍ مغايرةٍ.

يتطلب الانتقال من الحرب إلى صنع السلام طريقًا طويلةً وصعبةً، تتطلَّب اعتماد نهجٍ متدرِّجٍ وإجراء تغييراتٍ سياسيةٍ وممارسة الدبلوماسية الماهرة. من الجانب الإسرائيلي، لا بدَّ أن تمرَّ هذه الطريق أولًا بتعزيز الأمن، وهو حاجة مركزية للمجتمع الإسرائيلي منذ فترةٍ طويلةٍ، ازدادت أهميتها في أعقاب السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وثانيًا بصناديق الاقتراع.

يُفترَض أن تكون نقطة الانطلاق نجاح المحادثات المستمرة حول وقف القتال لمدَّة ستَّة أسابيع، ما يسمح بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، ويساهم ذلك في عكس اتجاهات التصعيد الراهنة وإتاحة فرص جديدة للمساعي الدبلوماسية. فبدون هذه الخطوات، قد تأخذ الأحداث منحنى سلبيًّا في غزة وعلى الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، ولا سيما في ظلِّ احتمال ردودٍ إيرانية ثأرًا لغارة إسرائيل الأخيرة في دمشق. في هذا السياق، تبذل الدبلوماسية الأمريكية جهودًا حثيثةً لإحراز تقدُّم نحو اتفاق حول وقف إطلاق النار، إلا أنها لم تؤتِ ثمارها بعد. ومن الضروري وضع هذه الجهود في صدارة الأولويات.

يشكّل وقف القتال في غزة شرطًا أساسيًّا لتقدُّم المعادلة الدبلوماسية الذي صاغها المبعوث الأمريكي الخاص عاموس هوكستاين لنزع فتيل التصعيد بين إسرائيل و"حزب الله". وتقدِّم هذه الصيغة الخيار الأفضل لأنها تسمح لعشرات الآلاف من الإسرائيليين بالعودة إلى منازلهم في الشمال بعد أن تمَّ إجلاؤهم منها، كما أنها تمنع أيَّ تصعيدٍ إضافيٍّ بين إسرائيل و"حزب الله".

يساعد وقف القتال أيضًا إسرائيل والولايات المتحدة في كسب الوقت اللازم للتلاقي حول كيفية تحقيق انتصار إسرائيل على "حماس"، وهو هدف تدعمه الولايات المتحدة، وطريقة ترجمته على الأرض. في الوقت الراهن، تتباين الآراء بين الدولتين حول هذا الموضوع؛ إذ تخشى الولايات المتحدة الأثر المُحتَمَل لعملية إسرائيلية ميدانية كبيرة في جنوب غزة، في حين يعتبرها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطوةً ضروريةً للقضاء على قوَّة "حماس" والتقدُّم نحو إعادة تأهيل المجتمعات المحاذية لقطاع غزة.

يريد الإسرائيليُّون ضمانات بأنَّ الولايات المتحدة تراعي احتياجاتهم الأمنية وتلتزم بتأمين الدعم العسكري للعمليات في غزة. ولكنْ، يعتمد مستوى الدعم الأمريكي على طريقة تعامل إسرائيل مع المسألة الإنسانية. وعليه، قد يشكِّل الممرُّ البحري بين قبرص وغزة وإنشاء المرفأ الأمريكي، وهما خطوتان توافق عليهما إسرائيل، تطوُّرَيْن إيجابيَّيْن في هذا المجال، يُفضِيان إلى نتيجة رابحة للجميع. لكي تنجح هذه المبادرات، وبعد تفجير موكب المطبخ المركزي العالمي، يجب على إسرائيل اتخاذ تدابير إضافية لضمان سلامة العاملين في المجال الإنساني.

لا يرى معظم الإسرائيليِّين بديلًا عن التواجد العسكري في قطاع غزة لضمان أمنهم. ويدعو الخيار المفضَّل في الوضع الراهن لبقاء الجيش الإسرائيلي في غزة. أمَّا على المدى البعيد، فيمكن استبداله بقوات لحفظ السلام بقيادة بلدان موثوقة. بالتوازي مع ذلك، تبرز رغبة في انخراط دولي أكبر في الإدارة المدنية لقطاع غزة. وفي حين أنَّ غالبية الإسرائيليِّين لا يدركون أهمِّيَّة إصلاح السلطة الفلسطينية وتمكينها من تولي إدارة قطاع غزة، بإمكان الولايات المتحدة لا بل عليها المساعدة في ذلك.

كذلك، من الضروري بروز قيادةٍ إسرائيليةٍ جديدةٍ من أجل تعزيز شعور إسرائيل بالأمن لإحراز التقدُّم نحو السلام. فالائتلاف الحالي، بأيديولوجيته العدائية وأعضائه اليمينيّين المتطرِّفين، يسعى إلى فرض سيطرةٍ عسكريةٍ طويلة الأمد على قطاع غزة، وإلى إحباط أيِّ آفاقٍ مُحتَمَلة لحلِّ الدولتين. ويطالب معظم الإسرائيليين بانتخاباتٍ مبكرةٍ، وقد زادوا وتيرة احتجاجاتهم المطالبة بذلك. كما تتردَّد أصداء هذه المطالبات بشكلٍ متزايدٍ ضمن المنظومة السياسية.

وبحسب استطلاعاتٍ حديثة للرأي، من شأن هذه الانتخابات أن تفضي إلى تشكيل حكومةٍ أكثر براغماتيةً واعتدالًا، على غرار ائتلاف بينيت-لابيد الذي تميَّز بأيديولوجياته المتنوعة والذي تولَّى الحكم بين العامَيْن 2021 و2022. ومن المُتوقَّع أن تلقى هذه الحكومة ترحيبًا جديدًا في المنطقة والعالم الغربي، ما يسمح بإعادة إرساء العلاقات الدبلوماسية، شرط أن تحرص الولايات المتحدة، في سيناريو كهذا، على دعم الخطوات المُتَّخذة في سبيل تعزيز التعاون الإقليمي والتطبيع من خلال إحراز تقدُّم في تنفيذ حلِّ الدولتين.

إلَّا أنَّ تأييد الرأي العام الإسرائيلي لحلِّ الدولتين شهد تراجعًا ملحوظًا منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر. ولعلَّ تغيير هذا الواقع سيحتاج إلى بعض الوقت، علمًا أن الولايات المتحدة قادرة على دعم إرساء علاقاتٍ إيجابيةٍ بين الإسرائيليِّين والفلسطينيِّين، وذلك على مستوى المجتمع المدني والأعمال التجارية والسياسة. كما أنَّ الولايات المتَّحِدة تستطيع أيضًا مساعدة إسرائيل على إصلاح علاقاتها القائمة مع الدول العربية والإسلامية عقب تحسُّن الظروف الجيوسياسية.

بدأت الأطراف الدولية بتعزيز السردية الإسرائيلية الداعية إلى انتخاباتٍ مبكرةٍ، وذلك من خلال انتقاد سياسات نتنياهو. وتستطيع الولايات المتحدة، بعد تحديد موعد للانتخابات، تحقيق أثر مضاعف عبر تقديم عرض تاريخي للرأي العام الإسرائيلي يقضي بإقامة واقعٍ إقليميٍّ جديدٍ، بما في ذلك تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية، شرط اتِّخاذ خطواتٍ ملموسةٍ تصبُّ في صالح الفلسطينيين، لا يمكن إلا لقيادة إسرائيلية مختلفة أن تتخذها.

د. نمرود غورين زميل أوَّل مختصٌّ بالشؤون الإسرائيلية في معهد الشرق الأوسط ورئيس المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية "ميتفيم"، وأحد مؤسِّسي مجلس دبلوماسية البحر الأبيض المتوسط Diplomeds.

خالد الجندي

الفلسطينيُّون يطالبون بوضع حدٍّ لسفك الدماء في غزة ومعالجة الأسباب الجذرية للنزاع

بالنسبة للفلسطينيِّين، لا بدَّ من تحقيق بعض الشروط الرئيسية من أجل إحلال السلام المستدام، يشكِّل الوقفُ الفوري لإطلاق النار أكثرها أولويةً وإلحاحًا، مصحوبًا بالتدفُّق المُكثَّف والمُستَدَام للمساعدات الإنسانية برًّا وبحرًا وجوًّا إلى جميع أنحاء غزة، ولا سيَّما شمال القطاع. وإلى جانب الوقف الكامل للأعمال العدائية، ينبغي التركيز على تحقيق وقفٍ مؤقَّتٍ لإطلاق النار يمهِّد الطريق لآخر أكثر استدامةً، وذلك بما يتوافق مع قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2728.

نظرًا إلى أسلوب حكومة نتنياهو في التجاهل التام للمطالب الأمريكية والدولية طوال الأشهر الستة الماضية، والدعم الشرس لاستمرار الحرب ضمن الائتلاف الحاكم والرأي العام الإسرائيلي، سيحتاج تغيير سلوك إسرائيل في غزة إلى تحوُّلٍ جذريٍّ في نهج إدارة الرئيس بايدن– من الانتقاد اللطيف والترغيب، إلى استعدادٍ أكبر لانتقاد انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي والأمريكي علنًا. كذلك، لا بدَّ من ممارسة ضغوط جدِّية على إسرائيل، مثل احتمال وقف المساعدات العسكرية إلى حين امتثال إسرائيل لموجباتها وفق القانون الدولي، بما في ذلك التدابير المؤقتة التي حدَّدتها محكمة العدل الدولية. ويلي ذلك عقد مؤتمر دولي للجهات المانحة يركز على احتياجات إعادة إعمار قطاع غزَّة على الأمدين المتوسط والطويل، والتي من المتوقع أن تبلغ قيمتها مئات مليارات الدولارات، على أن تتحمل الدول التي ساهمت في تمويل وتسهيل تدمير إسرائيل لقطاع غزة حصة الأسد من العبء المالي، وذلك بما يتناسب مع الدور الذي لعبته خلال الحرب.

هذا ولا تقلُّ ضرورة ترتيب الفلسطينيين لشؤونهم السياسية أهمِّية عمَّا سبق. فإلى جانب ردم الشرخ بين حركتي "حماس" و"فتح" الذي أنهكهما وزعزع الاستقرار طوال سنوات، يتعيَّن على الأطراف السياسية الفلسطينية وممثلي المجتمع المدني الفلسطيني العمل على إرساء قيادةٍ سياسيةٍ متماسكةٍ وموحَّدةٍ تتمتع بالشرعية والقدرة على: أ) الإشراف على إعادة الإعمار والتأهيل في غزة، ب) وتمثيل احتياجات وتطلعات الشعب الفلسطيني في الساحة الدولية بفاعلية، بما يشمل أي عملياتٍ دبلوماسية في المستقبل. وقد تكون هذه القيادة بمثابة نسخةٍ محدَّثةٍ وموسَّعة عن منظمة التحرير الفلسطينية.

أمَّا على المستوى الدبلوماسي، فينبغي التركيز على تغيير الديناميات التي تؤجِّج العنف على الأرض. وبالتالي، عوضًا عن تسليح وتيسير سفك الدماء المستمر في غزة، ينبغي على الأطراف الثلاثة المسؤولة أن تشدِّد بوضوح على استحالة حلِّ النزاع عسكريًّا. كذلك، عوضًا عن الدفع باتجاه جولةٍ جديدةٍ من المفاوضات العقيمة، يتوجَّب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية، وغيرها من الجهات الدولية صاحبة المصلحة، الدعوة إلى إنهاء احتلال إسرائيل للضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع عزة الذي دام لستة وخمسين عامًا والتعهُّد بتحقيق هذا الهدف، وتحديد جدولٍ زمني ومعايير واضحة لذلك، بالإضافة إلى وقفٍ شامل لبناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

أخيرًا، نظرًا للصدمة الجماعية غير المسبوقة التي حلَّت بالطرفين، والحجم الهائل لأعمال القتل والتدمير في قطاع غزة، تبرز الحاجة إلى المساءلة من أجل درء النزاع في المستقبل والحدِّ من عدم التوازن الهائل في القوى بين الإسرائيليِّين والفلسطينيِّين في الوقت الحالي (أقلّه جزئيًّا). على الأمد القصير، ينبغي على المجتمع الدولي دعم مشاورات محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات إسرائيل لاتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، فضلًا عن تحقيق المحكمة المستمر في احتمال ارتكاب جرائم حرب وانتهاكاتٍ أخرى للقانون الدولي الإنساني من جانب الطرفين. علاوةً على ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي النظر جديًّا في نماذج العدالة الانتقالية والإصلاحية، من خلال استحداث لجنةٍ للحقيقة والمصالحة على سبيل المثال، كوسيلةٍ لمعالجة المظالم السابقة بما فيها مسألة اللجوء التي لطالما تمَّ تجاهلها. كما وينبغي عليهم دعم المصالحة الفعلية بين طرفَيْ هذا النزاع، الذي لا يزال يتسبَّب بمعاناةٍ شديدةٍ على الرغم من مرور أكثر من قرنٍ على اندلاعه.

خالد الجندي زميل أوَّل في معهد الشرق الأوسط، حيث يُدير أيضًا برنامج فلسطين والقضايا الإسرائيلية-الفلسطينية. وهو مؤلّف الكتاب الذي صدر في العام 2019 بعنوان "القطبة المخفيَّة: أمريكا والفلسطينيون، من بلفور إلى ترامب".

 

 

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.
البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك