MEI

حسابات إيران في الحرب بين إسرائيل وحماس

أكتوبر 19, 2023

ألكس فاتانكا


مشاركة

في خضمّ الحرب المستَعِرة بين إسرائيل وحركة "حماس" في قطاع غزة، ستستمرُّ إيران في أداء دورٍ محوريٍّ. فليست طهران العدوَّ الإقليميَّ الأول لإسرائيل فحسب، بل هي أيضًا الجهة الرئيسة التي تمدُّ حركة "حماس" بالمساعدات والتدريبات العسكريَّة. ونظرًا لدور إيران المركزي في هذه الجولة الجديدة من الحرب في الشرق الأوسط، ما الهدف النهائي الذي تسعى إلى تحقيقه؟ استنادًا إلى تصريحات المسؤولين الإيرانيّين منذ الهجوم الدامي الذي شنّته حركة "حماس" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، يبدو أنّ طهران تُبقي احتمالاتها مفتوحةً، فهي تعدّل حساباتها على هوى تطوّر الواقع الميداني في غزة، شأنها شأن كل الأطراف الأخرى المعنيّة بهذه الحرب.

ولكن، ثمة حقيقتان واضحتان تمامًا: لا نيّة لدى إيران بالانخراط العسكري المباشر في مواجهة إسرائيل أو الولايات المتحدة، في حال قررت واشنطن التدخُّل عسكريًّا. فيشكّل تدخُّلٌ كهذا مخاطرةً كبيرةً بالنسبة إلى كلٍّ من الجمهورية الإسلاميَّة الإيرانيَّة والمرشد الأعلى للثورة الإسلاميَّة آية الله علي خامنئي البالغ من العمر 84 عامًا، والذي واجه نظامُه تحدّياتٍ بنيويّةً خلال السنوات الأخيرة ولا يزال. في المقابل، ترى إيران في هذه التطوّرات فرصةً ذهبيَّةً لإثبات صوابيّة رؤيتها للمنطقة، التي تقوم على مفهوم "محور المقاومة". يشكل ذلك بدوره رفضًا صريحًا لاتفاقيات إبراهيم ولفكرة دمج إسرائيل في نسيج الشرق الأوسط.

في الوقت نفسه، قد تساهم الولايات المتحدة والغرب عمومًا في تعزيز أجندة إيران عن غير قصد بأشكال عدّة، خصوصًا إذا فشلا في التوسط لتسوية النزاع بين إسرائيل و"حماس" مع أخذ مطالب الشعوب العربية والإسلامية في الاعتبار. يمكن القول، في أقلّ تقدير، إنّ الحرب الأخيرة وضعت مفهوم اتفاقيات إبراهيم على المحك، وما من أحد يتمنى زوال هذه الاتفاقيات أكثر من الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

 هدف إيران الذي تعجز عن تحقيقه

في 17 تشرين الأول/أكتوبر، اعتلى علي خامنئي المنبر معلِّقًا على الحرب، وكانت تظهر خلفه ملصقاتٌ تحمل صور سبعة علماء نوويين إيرانيين طالتهم يدُ الاغتيال منذ العام 2010. لم تتوانَ إيران عن اتهام إسرائيل بعمليَّات الاغتيال هذه وبأعمال تخريبية أخرى على الأراضي الإيرانية، وبالتالي لم تكن تلك الملصقات محضَ صدفة؛ فقد حملت رسالة خامنئي في فحواها، أقلّه للشعب الإيراني، أن إيران ردَّت الصاع لإسرائيل من خلال دعمها لحركة "حماس" على مرِّ السنين. وبذلك، تكون إيران قد أكَّدت أنَّها أخذت بثأر علمائها، وذكَّرت -في الوقت نفسه- إسرائيلَ بأنّها قادرةٌ على الردِّ بالمِثل.

هل أراد خامنئي إبلاغ إسرائيل بهذه الطريقة بأن على الدولتَيْن العدوَّتَيْن إعادة النظر في ضوابط حرب الظل المستمرة بينهما منذ عقد؟ وبأن عليهما تحديد خطوط حمراء جديدة؟ ربما هذا ما قصده خامنئي، لكنَّ الأخير بذل أيضًا جهودًا كبيرةً منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر لينفي مرارًا وتكرارًا أيَّ دور مباشرٍ لإيران في هجوم "حماس". قد يعتقد خامنئي أنَّ الحسابات الأمريكية المتعلقة بالشرق الأوسط خاطئة، وقد يشكّك في استعداد واشنطن للقتال في حرب غزة، ولكنه لا يستخفُّ إطلاقًا بقوة الجيش الأمريكي في حال باشر مهماته العسكرية.

هل يريد خامنئي أن يرى الولايات المتحدة تنجرُّ إلى حرب جديدة ومفتوحة ومكلِّفة في المنطقة؟ هذا احتمال وارِد، ويعكس على الأرجح رغبةً مشتركةً بينه وبين روسيا والصين وخصوم الولايات المتحدة الآخرين. لكنَّ أيًّا من تلك الدول لا تمتلك علاقة وثيقة بحركة "حماس" مِثل إيران. لذا، نظرًا إلى الهامش الضيّق المُتاح للجمهورية الإسلاميَّة لإنكار دورها، فمن غير المرجَّح أن تكون مستعدَّةً للمخاطرة باستمراريَّتها ووجودها السياسيَّيْن لمجرَّد تقديم العون إلى حركة "حماس" في حرب موسَّعة تشارك فيها الولايات المتحدة. ففي نهاية المطاف، إنّ الاستثمارات التي تقوم بها إيران فيما يُسمى "محور المقاومة"، والعقيدة العسكرية القائمة على "الدفاع المُتقدِّم"، ترتكز برمَّتها على فكرة بسيطة، وهي أن إيران تفضِّل مقارعة خصومها خارج حدودها، من خلال مجموعات عسكرية تعمل لصالحها بالوكالة، بدلًا من خوض الحروب على أرضها.

لكنَّ استعداد إيران للمخاطرة بمحور المقاومة هو أيضًا محلُّ شكٍّ. فهي تبدو غير راغبة في دخول الحرب، كما أنها غير مستعدة للمخاطرة بمستقبل "حزب الله" الذي يشكِّل القوة الأبرز بين الجماعات العربية العامِلة لصالحها بالوكالة. وليس ذلك مُستغربًا، إذ إنّ استراتيجية إيران لمواجهة إسرائيل هي طويلة الأمد، وترمي إلى إضعاف إسرائيل عسكريًّا ودبلوماسيًّا ونفسيًّا على مر السنين أو حتى العقود المقبلة.

عام 2015، توقع خامنئي "زوال إسرائيل بعد 25 عامًا". لن يكون خامنئي على قيد الحياة سنة 2040 ليرى إن تحقَّقت نبوءتُه، ولكن ما من مؤشرات تدلُّ على استعداده للمخاطرة بنظامه –وبمشروع الخلافة الذي طال انتظاره في طهران– عبر توريط إيران في نزاع عسكري مباشر من شأنه أن يولِّد مفاجآت مستمرة لن تكون بلاده قادرةً للتصدي لها، سواء في الداخل أو على المستوى الإقليمي. بدلًا من ذلك، يمكن لخامنئي ببساطة الادعاء بأن هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر هو إنجاز استراتيجي ضد إسرائيل، وهو اللحظة التي بلغت فيها المنطقة منعطفًا جديدًا.

 ماذا في التطوّرات المقبلة؟

من المرجح أن يُقدِم حلفاء إيران، العاملون لصالحها بالوكالة، على مهاجمة إسرائيل والقوّات الأمريكية من لبنان أو سوريا أو العراق، لكنّ طهران ستمتنع عن المخاطرة بمستقبل "محور المقاومة"، بما في ذلك ترسانة "حزب الله" المُعلَن عنها والتي تضم 150 ألفَ صاروخ وقذيفة موجَّهة، مصوَّبة في اتجاه إسرائيل. ولن تُعطي إيران الضوء الأخضر الكامل للقوات العاملة لصالحها بالوكالة إلا في حال إقدام الولايات المتحدة على مهاجمة الداخل الإيراني، وهو أمر مُستبعَد حاليًا. في الواقع، جلّ ما ستفعله إيران في المرحلة الراهنة هو محاولة تعديل حسابات إسرائيل وإقناعها بعدم اتخاذ إجراءات للقضاء على حركة "حماس"، وذلك من خلال ضربات "حزب الله" المحدودة على شمال إسرائيل.

على المدى الطويل، تسعى إيران إلى إبقاء حركة "حماس" في غزة ضمن استراتيجيّتها لتطويق إسرائيل، ولكن إذا فُرض عليها أن تختار، فسترضى بالقضاء على حركة "حماس" للحفاظ على "حزب الله" بكامل قوّته. ونعيد التأكيد على أنّ مردّ ذلك هو حاجة طهران إلى الإبقاء على "حزب الله" كقوّة ردع استراتيجية لها في وجه إسرائيل والولايات المتحدة على المدى البعيد.

واستكمالًا لمساعيها الحالية، ستنشَط طهران بكل طاقتها على الساحة الدبلوماسيَّة إقليميًّا ودوليًّا، وسيستخدم الإيرانيون الحرب في غزة لا لإعادة الزخم إلى مفهوم "محور المقاومة" فحسب، بل أيضًا للضغط على الدول العربية التي طبَّعت أو تسعى إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وتحرص طهران بشدّة على تحقيق هذا الهدف، لدرجة أنّ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي اتّخذ خطوة غير اعتيادية الأسبوع الماضي، إذ أجرى اتصالًا هاتفيًّا بوليِّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وعليه، يمكن ملاحظة المصالِح المُتضاربة بوضوح: فالمخطّط الإيراني يقضي بإبعاد الدول العربية المعتدلة عن كلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل، فيما يسعى الأمريكيون إلى تحقيق العكس تمامًا، على الرغم من أن النتائج في أحسن الأحوال تبدو مختلطة حتى الآن.

ختامًا، وبحسب ما نقلته مصادر إيرانية، حذّر الأمريكيّون إيران من القيام بحسابات خاطئة عبر فتح جبهتين، ما قد يؤدي إلى تدخُّل عسكري أمريكي. يقع على عاتق إيران أولًا تفادي إرسال أي مساعدات عسكرية مباشرة لحركة "حماس" في هذه الحرب، وثانيًا، عدم اعتبار الحرب غطاءً للتوسع في برنامجها النووي، وخصوصًا فيما تُبدي إدارةُ بايدن حساسيةً شديدة حيال اتهامها بأنها كانت متساهلة مع إيران. سيحدد هذا الواقع سياسة الرئيس جو بايدن تجاه إيران في الأسابيع والأشهر المقبلة، فيما ستحرص طهران على عدم دفع بايدن إلى اتّخاذ موقف أكثر حزمًا حيال الجمهورية الإسلامية.

على المستوى الدولي، تأتي الحرب في غزة تزامنًا مع سعي روسيا والصين إلى إزاحة الولايات المتحدة من موقعها كقوة مهيمنة في الشرق الأوسط. وبالتعاون مع إيران وحلفائها، ستضع روسيا والصين قيد المساءلة مصداقيةَ واشنطن وكفاءتها كقوة مؤثرة وكوسيط للتسوية. فسيُشار إلى تصوير الولايات المتحدة على أنّها السبب الرئيسي لعدم الاستقرار، في حين ستسوِّق روسيا والصين لنفسيهما كحكمَين محايدَين، في ظل سعي دول الشرق الأوسط إلى إيجاد حلٍّ سياسي للحرب الدائرة هذه، والتي علّق وزير الخارجية الصينية وانغ يي عليها قائلًا إنّ "عدم تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني هو السبب الأساسي لهذا النزاع".

منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، اتخذت موسكو وبكين، اللتان تتمتّعان بروابط وثيقة مع إسرائيل، قرار ملازمة الصمت عمومًا، أو الإدلاء بتصريحات مؤيّدة للفلسطينيّين. ولا يعكس ذلك موقفًا مناهِضًا لإسرائيل بالضرورة، بل هو ببساطة خطوة انتهازية من جانب روسيا والصين لاستغلال هذه اللحظة من أجل إظهار فشل السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط. لكنّ القاسم المشترك الذي تتفق عليه كل الأطراف الثلاثة المعنية –أي إيران، والولايات المتحدة، والأوروبيون، وروسيا والصين– هو أن هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر على الداخل الإسرائيلي قلبت الوضع الراهن وبدَّلت قواعد الاشتباك القائمة منذ عقود.

منذ تأسيسها عام 1987، خاضت حركة "حماس" ثماني حروب ضدّ إسرائيل، من دون أن تتَّسع رقعةُ أيٍّ منها لتشمل دولًا أخرى في المنطقة. واليوم، لا تريد أي قوة إقليمية، بما في ذلك إيران، أن تتوسع الحرب في الشرق الأوسط. أما التحدّي الذي تواجهه واشنطن فهو إدارة هذه الحرب عبر القنوات السياسية في الداخل، وبالطرق الدبلوماسية على النطاق الدولي. فتحتاج الولايات المتحدة إلى إيجاد طُرُق مبتكرة لطمأنة كلٍّ من إسرائيل والدول الإسلامية بأن في استطاعتها أن تؤدي دور الوسيط المحايد في هذا النزاع. وإذا لم تُقدِم الولايات المتّحدة على هذه الخطوة، فستسنح الفرصة أمام روسيا والصين للتدخُّل، وسيساعد ذلك إيران في بناء حجّتها القائلة إنّ محور المقاومة والنزاع المسلّح هما السبيل الوحيد المُتاح أمام الفلسطينيين.

ألكس فانتاكا هو مدير برنامج إيران في معهد الشرق الأوسط.

حقوق الصورة: المكتب الإعلامي لآية الله العظمى الخامنئي / وكالة الأناضول بواسطة صور "غيتي"

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.

متعلق بالمنطقة

البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك