حرب إسرائيل-حماس: سيناريوهات النزاع، الدبلوماسية الأميركية، وتعزيز الاستقرار الإقليمي
أكتوبر 16, 2023بول سالم
بول سالم
بعد مرور تسعة أيّام على هجوم حركة "حماس" داخل إسرائيل، يحشد الجيش الإسرائيلي قوّاته تحضيرًا لتوغّل برّي واسع النطاق في قطاع غزّة، في حين لم تتّضح تمامًا الخطوط العريضة والهدف النهائي للتحرُّك العسكري الإسرائيلي. بالتوازي مع ذلك، يزداد التصعيد على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، فيما يجول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على دول الشرق الأوسط موجّهًا رسائل ردعيّة ودبلوماسية في نفس الوقت.
سيناريوهات الحرب
يمكن تصوُّر سيناريوهَيْن لاجتياح إسرائيل لقطاع غزّة. في السيناريو الأوّل، تسعى إسرائيل إلى تنفيذ نيّتها المُعلَنة بالقضاء على حركة "حماس". يستلزم هذا السيناريو اجتياحًا برّيًا واسعَ النطاق واحتلال قطاع غزّة بأكمله في محاولة لاجتثاث "حماس". غير أنّ اجتياحًا من هذا النوع ليس بالأمر السهل. فلا شكّ في أنّ "حماس" وداعميها في "حزب الله" وإيران كانوا يتوقّعون غزوًا برّيًا شاملًا ردًّا على هجوم "حماس" داخل الأراضي الإسرائيلية، كما أنّ "حزب الله" بأقلّ تقدير أطلَع "حماس" على الدروس التي استخلصها من مواجهة الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 2006 ودرئه. بعبارة أخرى، "حماس" جاهزة لاحتمال الغزو البرّي لغزّة. وفي حين لا تتوفّر أماكن كثيرة يمكن للمدنيّين اللجوء إليها للاحتماء، لدى مقاتلي "حماس" شبكة من الأنفاق وطُرُق الهروب الجاهزة.
كذلك، من المرجّح أن يؤدّي اجتياحٌ واسعٌ من هذا النوع إلى خسائر كبيرة في صفوف الإسرائيليين وإلى عدد كبير جدًا من الضحايا المدنيّين الفلسطينيّين. ولا بدّ من الأخذ في الحسبان أيضًا الرأي العام الإسرائيلي وتقييمه لجدوى خسارة المزيد من الأرواح الإسرائيلية، كما والضغوط التي ستمارسها دول العالم والرأي العام في المنطقة تجاه إسرائيل للحدّ من الخسائر في صفوف الفلسطينيّين. وحتى في حال أتمّت إسرائيل الاجتياح بنجاح، يبقى السؤال الأساسي: ماذا نفعل الآن؟ فكما تبيّن لكلّ من الولايات المتّحدة وإسرائيل في السابق، الاحتلال المطوَّل لأراضٍ معادية ليس حلًّا مُستدامًا. ومن غير المنطقي أن توافق السلطة الفلسطينية، أو أيّ جهة ثالثة، على بسط سيطرتها على قطاع غزّة في أعقاب اجتياح إسرائيلي.
أمّا السيناريو الثاني فهو أشبه بالاجتياحات الإسرائيلية السابقة لغزّة، ولكن على نطاق أوسع من ذي قبل. في هذه الحالة، سيستمرّ القصف وستنفّذ إسرائيل خطة الغزو البرّي. ولكن مع ارتفاع الخسائر البشريّة وإقامة إسرائيل "منطقة عازلة" ضمن قطاع غزّة، وفي حال شعر الإسرائيليون بأنّهم قوّضوا قدرات "حماس" وعاقبوها "بما يكفي"، قد يبدأ السعي إلى التوافق على وقف لإطلاق النار والتفاوض. ويُمكن أن تستنتِج إسرائيل أنّ اجتثاث حركة "حماس" بالكامل وبصورة دائمة ليس هدفًا واقعيًا أو قابلًا للتحقيق، أو أنّ كلفته مرتفعة للغاية. كذلك، يجب على إسرائيل – والولايات المتّحدة أيضًا – ألا تنسيا أنّ "حماس" تحتجز قرابة 200 رهينة لا بدّ من استعادتهم.
تصعيد على جبهات أخرى
في أيّ من هذين السيناريوهَيْن، ستكون الكلفة البشريّة هائلة، كما سيبقى الوضع في نهاية المطاف غيرَ مستقرّ ومحفوفًا بالمخاطر، ناهيك عن الاحتمال الجدّي بتوسّع الحرب إلى ساحات أخرى. فقد اتّسعت رقعة التوتّرات والنزاع إلى أجزاء من الضفّة الغربية، حيث أدّت أعمال العنف بين المستوطنين الإسرائيليّين والفلسطينيّين إلى قتل أكثر من 50 فلسطينيًا. وتتفاقم التوتّرات في المناطق المختلطة في إسرائيل نفسها أيضًا.
غير أنّ الخطر الحقيقي يتمثّل في حثّ إيران لـ"حزب الله" على إشعال جبهة ثانية على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية والسورية-الإسرائيلية. في الواقع، لم تشهد الحدود اللبنانية-الإسرائيلية تبادلًا لإطلاق النار بهذه الحدّة منذ حرب العام 2006. فما تخشاه إيران و"حزب الله" هو خسارة "حماس" كلاعِب استراتيجي. لهذا السبب، رفع "حزب الله" من مستوى التوتّر على طول الحدود، في محاولة لتشتيت انتباه الإسرائيليين وإجبارهم على تركيز بعض مواردهم العسكرية بعيدًا عن جبهة غزّة. كما سبق أن ذكرنا، لا شكّ في أنّ "محور المقاومة" توقّع ردًّا إسرائيليًا واسعَ النطاق على هجمات "حماس". لذا، في حال تمكّنت "حماس" من الصمود في وجه الهجوم الإسرائيلي وربما إغراق القوات الإسرائيلية في قتال دموي يوقِف تقدّمها في وسط غزّة، قد لا يصعّد "حزب الله" تدخّله عبر إشعال جبهة ثانية بالكامل. ولكنّ، إذا شعرت إيران و"حزب الله" أنّ إسرائيل تُحقِّق تقدّمًا سريعًا وأنّ صفوف "حماس" توشِك على الانهيار، قد لا يجدان مفرًّا من فتح جبهة كبرى ثانية.
رسائل بلينكن الردعية والدبلوماسية
يواجه وزير الخارجية الأميركي تحدّيًا معقّدًا يسعى إلى معالجته خلال جولاته على دول المنطقة. فيمثّل تحريك حاملتَيْ طائرات مع مجموعتيهما القتاليّتَيْن إلى شرق المتوسّط رسالة دعم قوية لإسرائيل، ورسالة ردع مباشرة لإيران و"حزب الله". ويكمن التحدّي في إبلاغ المعنيّين بأنّ الولايات المتّحدة مستعدّة لتنفيذ تهديداتها. تُدرِك إيران جيّدًا قدرات الولايات المتّحدة العسكرية، غير أنّ واشنطن كانت منكفئة عن شؤون المنطقة في المرحلة الأخيرة، وقد يراهن المراقبون في طهران أنّ الرئيس جو بايدن لن يورِّط الولايات المتّحدة في حرب أخرى في الشرق الأوسط قُبيل سنة الانتخابات. وعليه، يعمل بلينكن على توضيح "الخطوط الحمراء" التي وضعتها الولايات المتّحدة في هذه الأزمة، والتدابير التي قدّ تتّخذها بالفعل في حال تجاوزها.
بالإضافة إلى ذلك، يواجه بلينكن مهمّة شبه مستحيلة أخرى، تتمثل في التعبير عن تأييد بلاده للردّ الإسرائيلي القوي على هجمات "حماس"، وفي الوقت نفسه مراعاة الكلفة الإنسانية للحرب في غزّة، وانتهاكات القانون الدولي التي تُرتكَب على الأرجح، وضرورة مساعدة أكثر من مليونَيْ مدني مُحتجَزين في قطاع غزّة المُحاصَر من دون إمدادات وقود أو أدوية. وقد تكون زيارة بلينكن إلى القاهرة والتقدُّم المُحرَز في المفاوضات مع المصريّين بشأن فتح ممرّ للمساعدات الإنسانية إحدى نتائج هذه الجهود.
ومن المرجّح أنّ زيارة بلينكن إلى قطر تهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف: إبلاغ إيران بالخطوط الحمراء وبعث رسالة ردع إليها عن طريق الدوحة؛ وفتح خطّ تواصل مع "حماس" بواسطة القطريّين للبحث في إمكانية الإفراج عن الرهائن والتحضير للمفاوضات المحتملة حول الوضع النهائي؛ وحثّ القطريّين على أداء دور محوري في المساعدات الإنسانية خلال الأزمة والمشاركة في إعادة الإعمار بعد انتهاء هذه الجولة من النزاع.
ويُحتمَل أنّ زيارة وزير الخارجية الأميركية إلى المملكة العربية السعودية تهدف في جانب منها إلى تمرير رسالة للإيرانيين، بعد فتح قنوات التواصل المباشرة بين وليّ العهد السعودي والرئيس الإيراني. لكنّ بلينكن يريد أيضًا الحفاظ على مسار السلام، وقد يسعى إلى إعادة إحياء محادثات السلام بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل بعد انتهاء المواجهة الحاليّة، وإلى إيجاد صيغة لإشراك السلطة الفلسطينية في هذه العملية.
يحاول بلينكن أيضًا موضعة الولايات المتّحدة بشكل يتيح لها أداء دور محوري عندما يحين وقت التفاوض على كيفية وضع حدّ للنزاع – وستدقّ ساعة المفاوضات عاجلًا أم آجلًا مهما كانت نتيجة المواجهة العسكرية. ومن المؤشرات المشجِّعة أنّ بلينكن يُدرِك أنّ الاستجابة لهذه الجولة الأخيرة من سفك الدماء تتطلّب في أحد جوانبها مضاعفة الجهود لاستعادة الأمل بمسار إسرائيلي-فلسطيني، على الأقل من خلال السلطة الفلسطينية والضفّة الغربية، بعيدًا عن النزاع المتجدّد والاحتلال إلى أجل غير مُسمّى. ففقدان الأمل بمسار سياسي إيجابي للفلسطينيّين هو ما يُفاقِم مشاعر اليأس والإحباط والعنف.
الأولويات، والبُعد الإيراني
في المستقبل القريب، ينبغي التركيز على حماية المدنيّين في غزّة قدر الإمكان خلال المرحلة التالية من الحرب بين إسرائيل و"حماس"، التي تشمل استمرار عمليات القصف الواسعة النطاق والغزو البرّي. وعلى المدى المتوسّط، ينبغي أن تساهم دول المنطقة والمجتمع الدولي في تحديد الوضع الجديد في غزّة وكيفية استعادة الاستقرار والأمن وإعادة الحياة إلى القطاع وقاطنيه الذين يبلغ عددهم مليونَيْ نسمة. أما على المدى البعيد، فلابدّ من مضاعفة الجهود، كما ذكرنا أعلاه، لإعادة إحياء عملية دبلوماسية واقعيّة بين الإسرائيليّين – ربما من خلال حكومة إسرائيلية جديدة بعد هذه الحرب – والسلطة الفلسطينية. ومن المفترض أنّ السياق الإقليمي يدعم مثل هذا المسعى، نظرًا إلى أنّ معظم الدول العربية الكبرى أبرمت أو تعتزم إبرام اتفاقيات سلام مع إسرائيل.
نصل أخيرًا إلى دور إيران في النزاع الدائر حاليًا. فمع أُفول البُعد "العربي-الإسرائيلي" للنزاع في السنوات الأخيرة، يبرز البُعد الإيراني-الإسرائيلي أكثر فأكثر. خاضت إسرائيل حربها الكبرى السابقة ضدّ "حزب الله"، وهي تخوض حربها الحالية ضدّ "حماس"، وكلاهما باتا يشكّلان جزءًا أساسيًا من "محور المقاومة" الذي تقوده إيران. في الواقع، يشكّل كلّ من "حزب الله" و"حماس" جزءًا من استراتيجية "الدفاع المتقدِّم" التي تنتهجها إيران لردع إسرائيل – ومن خلفها الولايات المتّحدة الداعمة لها – وثنيها عن شنّ أيّ هجوم مباشر أو واسع النطاق ضدّ إيران. كذلك، يسمح "حزب الله" و"حماس" لإيران بأن تفرض على إسرائيل ثمنًا لقاء ما تعتبره طهران تهديدًا لأمنها من جانب إسرائيل: فالأخيرة حاضرة في أذربيجان على حدود إيران، وسبق أن نفّذت عمليّات سرّية في عمق الأراضي الإيرانية على مدى سنوات. وبالتالي، من الضروري بذل جهود لخفض التصعيد بين إسرائيل وإيران كجزء من أيّ مسعى أوسع نطاقًا لاستعادة الاستقرار في الشرق الأوسط. وفي حين أنّ الولايات المتّحدة ليست في موقع يخوّلها الاضطلاع بهذه المهمّة، يمكن لعواصم إقليمية أخرى و/أو الصين المساهمة في التوصّل إلى هذه النتيجة. فالتوتّرات بين إيران وإسرائيل تفاقِم النزاع الدائر حاليًا، وهي قد تودّي إلى اشتعال عددٍ من الجبهات الأخرى في حال عدم معالجتها.
بول سالم هو رئيس معهد الشرق الأوسط ومديره التنفيذي. تتناول أبحاثه ومنشوراته مسائل التغيير السياسي، وانتقال السلطة، والنزاع، والعلاقات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط.
حقوق الصورة: مصطفى حسونة / وكالة الأناضول بواسطة صور "غيتي"
معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.