ثلاث سنوات على انفجار مرفأ بيروت: دعوة إلى المساءلة الدولية
أغسطس 04, 2023فادي نيكولاس نصّار, صالح المشنوق
فادي نيكولاس نصّار, صالح المشنوق
في 4 آب/أغسطس 2020، دوّى أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ في العاصمة اللبنانية بيروت، متسبّبًا بمقتل 200 شخص وجرح الآلاف وتشّريد قرابة 300 ألف شخص، بالإضافة إلى أضرار بمليارات الدولارات تكبّدها البلد المُفلِس. وبعد مرور ثلاث سنوات على الانفجار، تمكّن حزب الله، بدعم من النخب السياسية اللبنانية، من عرقلة التحقيق القضائي المحلّي، لا بل من شلّه تمامًا، مانِعًا بذلك محاسبة المسؤولين عن الانفجار وتحقيق العدالة لكلّ من الضحايا والبلد المُنهَك. فلا يزال السياسيّون والمسؤولون الأمنيّون الذين استدعاهم المحقّق العدلي فارّين من وجه العدالة، لا بل هُم مستمرّون في أداء وظائفهم العامة كالمعتاد. وإذ يشهد المسار القضائي المحلّي بشأن هذه القضية جمودًا، ينبغي على المجتمع الدولي تحمُّل مسؤولياته تجاه الشعب اللبناني عبر إرسال بعثة لتقصّي الحقائق تابعة للأمم المتّحدة للتحقيق في الانفجار، ومعاقبة المسؤولين عن عرقلة الإجراءات القضائية، وتركيز جهود الوساطة الدولية الرامية إلى معالجة الأزمة اللبنانية على وضع حدّ لظاهرة الإفلات من العقاب.
يشكّل انفجار مرفأ بيروت تجسيدًا لكلّ المشاكل التي يعانيها لبنان – مشاكل لم تؤدِّ إلى انهيار عام 2019 فحسب، بل لا تزال تعيق كلّ الحلول المُمكنة للأزمة منذ ذلك الحين، وهي تشمل حكم الميليشيات بلا حسيب ولا رقيب، والدعم العسكري للنظام السوري، والطبقة السياسية والبيروقراطية الفاسدة المدينة باستمراريتها لحزب الله، والسلطة القضائية العاجزة عن أداء أبسط مهامها. وعليه، إذا أراد المجتمع الدولي إثبات جدّيته في معالجة الأزمة اللبنانية، فالأجدى به إعطاء الأولوية القصوى لتحقيق العدالة والمساءلة في قضية الانفجار.
لا تقتصر تداعيات انفجار المرفأ على البُعد المحلّي فحسب. فقد كشف الانفجار أنّ مرفأ بيروت أصبح معبرًا خاليًا من الضوابط لأنشطة تهريب الأسلحة الدولية، حيث أشارت معلومات موثوقة إلى أنّ المواد المتفجّرة كانت متّجهة إلى نظام الأسد. يُعدّ مرفأ بيروت، الذي كان يزخر بالنشاط قبل الانفجار، مركزًا أساسيًا للتجارة والنقل الدوليَّيْن، وبالتالي فإنّ تخزين تلك الكمّية الخطيرة من المواد المتفجّرة يشكّل تهديدًا للسلام والأمن الدوليَّيْن.
يشكّل التحقيق المحلّي في الانفجار بقيادة القاضي طارق البيطار خطوة نادرة لكنّها بالغة الأهمية، كونها تُظهِر أنّ لبنان لا يخلو من أشخاص يتحلّون بالشجاعة ويسعون إلى استرجاع الدولة وترسيخ مبدأ النزاهة مجدّدًا داخل المؤسّسات العامة الأساسيّة. ولكنْ، كما ورد في البيان الأخير للبرلمان الأوروبي، استطاع حزب الله وحلفاؤه تقويض التحقيق المحلّي عبر رفع 21 دعوى بحقّ القاضي البيطار – في تجاوز واضح للقانون – وعبر اللجوء إلى العنف من خلال شنّ "هجوم منظّم" على تخوم المقرّ القضائي الذي يعمل فيه المحقّق العدلي. وترسم تلك الممارسات بوضوح حدود الجهود المحلّية، في غياب الدعم الدولي الفعّال لمواجهة القوّة غير المتناسبة للعنف السياسي الذي يتعارض مع المبادئ الليبرالية ويقمع العدالة وينزع أي مصداقية عن مقولة الدولة الديمقراطية الفاعلة.
حاول أهالي الضحايا وغيرهم من المطالبين بالعدالة، بما في ذلك 162 منظمة لبنانية ودولية تُعنى بحقوق الإنسان، معالجة هذا المأزق عبر حثّ مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة على إصدار قرار يقضي بفتح تحقيق مستقلّ ومحايد في الانفجار. ونظرًا إلى العقبات الكثيرة التي تقِف في وجه التحقيق المحلّي، قد تشكّل هذه البعثة الدولية لتقصّي الحقائق ممرًّا أساسيًا لكشف الحقيقة وتحديد المسؤوليات الفردية ومسؤولية الدولة عن الانفجار.
شكّلت التحقيقات الدولية، مثل المحكمة الخاصة بلبنان، التي تأخّر صدور حكمها بسبب الانفجار – علمًا بأنّ الحكم يشير إلى تورّط حزب الله في اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري – المرّة الوحيدة التي كُشِفَت فيها الحقيقة في تاريخ لبنان الطويل المليء بفصول العنف السياسي، وذلك بالرغم من محاولات العرقلة الكثيرة وحتى اغتيال وسام عيد، وهو مسؤول استخباراتي لبناني رفيع المستوى قدّم معلومات مهمّة للتحقيق. ومع أنّ الجهود الدبلوماسية الدولية كفّت منذ ذلك الحين عن المطالبة بمحاسبة الجناة سعيًا إلى تحقيق الاستقرار على المدى القريب وخفض التصعيد ظاهريًا، تشكّل الأدلّة التي جمعتها المحكمة الخاصة بلبنان الوسيلة الوحيدة لمكافحة المعلومات المضلّلة، كونها تُثبِت بوضوح وبلا أيّ لُبس مسؤولية حزب الله عن اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.
كذلك، تُظهِر تجربة المحكمة الخاصة بلبنان فعالية الآليات الدولية في إفشال أساليب التعطيل التي تعتمدها الجهات المُعرقِلة المحلية. ففي العام 2007، حين رفض رئيس مجلس النواب نبيه بري دعوة المجلس للانعقاد لتفادي المصادقة على اتفاق بين الأمم المتّحدة والحكومة اللبنانية لتشكيل محكمة خاصة بلبنان، تجاوز مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة الشلل السياسي المنظّم عبر إصدار القرار رقم 1757 وتنفيذ اتفاق بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتّحدة. يمكن للأمم المتّحدة اليوم تجاوز مساعي التعطيل مجددًا عبر إنشاء لجنة لتقصّي الحقائق بواسطة قرار صادر عن مجلس حقوق الإنسان من دون موافقة الحكومة اللبنانية، التي رفضت في عهد الرئيس ميشال عون الدعوات المُطالِبة بفتح تحقيق دولي.
بعد ثلاث سنوات على انفجار مرفأ بيروت، حان الوقت لكي تولي الجهات المُكلفة بالحفاظ على السلام والأمن الدوليَّيْن، الاهتمام اللازم لهذه القضية. ففي ظلّ التعطيل الموثَّق للتحقيق المحلّي وعجز الدولة اللبنانية عن العمل بمعزل عن الترهيب الذي تتعرّض له، ينبغي على المجتمع الدولي ضمان إنشاء بعثة محايدة لتقصّي الحقائق لكشف ملابسات الانفجار. كذلك، يتعيّن على المجتمع الدولي اللجوء إلى تدابير أكثر فعالية، من قبيل العقوبات المحدّدة الأهداف، لمنع الجهات المُعرقِلة من تعطيل الإجراءات القضائية، بدلًا من تمكينها. لقد أثبتت دروس السنوات الثلاث الماضية الكارثية بما لا يقبل الجدل أنّ الحلّ الوحيد لأزمات لبنان المتراكِمة لا يتمثّل في "التوافق" القبلي القسري أو المقايضات غير المستدامة – التي كانت سبب الكارثة أساسًا – بل في تكريس مبدأيْ المساءلة وسيادة القانون المحوريَّيْن. فمن بين كلّ المشاكل الملحّة التي يواجهها لبنان، لعلّ الوسيلة الأنجَع لوضع حدّ لظاهرة الإفلات من العقاب تكمُن في محاسبة المسؤولين عن انفجار مرفأ بيروت.
فادي نيكولاس نصّار هو أستاذ مساعِد في العلوم السياسية والشؤون الدولية في الجامعة اللبنانية الأميركية وزميل مختصّ بشؤون العلاقات الأميركية-اللبنانية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن العاصمة.
صالح المشنوق هو أستاذ مُحاضِر في العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف في بيروت وباحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط في واشنطن العاصمة.
معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.