MEI

تقييم خطط "اليوم التالي"

يونيو 12, 2024


مشاركة

لاري غاربر

لا يزال البحث العسير عن وقف إطلاق النار في غزَّة يشغل الرئيس جو بايدن وغيره من القادة حول العالم، في حين يستمرُّ النزاع العنيف مع عواقبه الحتمية من وفياتٍ لا تُحصى ودمار وتشريد. ولكنْ، في خضمِّ الفظائع التي تُعرَض يوميًّا عبر شاشات التلفزيون في جميع أنحاء العالم، تدور النقاشات حول "اليوم التالي".

أصدرت بعض المراكز البحثية المرموقة خططًا مُفصَّلة حول "اليوم التالي"، بما فيها المجلس الأطلسي و"بورتلاند ترست" ومنظَّمات أخرى. تعكس خطط كثيرة تجاربَ أشخاص خاضوا عمليات ما بعد النزاع في البوسنة وكوسوفو والعراق وأفغانستان وأماكن أخرى، غير أنَّها تُقِرّ بأنَّ الوضع في غزّة مختلف تمامًا: فستبقى إسرائيل لاعبًا رئيسًا حتّى بعد توقُّف القتال، وقد تكون لها خطَّتها الخاصَّة، في حين يشهد قطاع غزَّة الصغير، الذي يؤوي 2.2 مليون فلسطيني، دمارًا غير مسبوق.

ولمساعدة صانعي السياسات الحكوميّين في التمييز بين الكمِّ الهائل من خطط اليوم التالي المطروحة أمامهم، أقترحُ النظر في العوامل التالية:

أوّلاً، ما هي الرؤية المُقترَحة؟ تُركِّز خطط كثيرة على إعادة بناء الاقتصاد حصرًا، من دون أن تتطرّق إلى الوضع النهائي المنشود. وهي تمتنعُ عن ذلك تجنُّبًا للاعتراضات الإسرائيلية على افتراض وجود نتيجة محدَّدة مسبقًا لصالح إقامة دولة فلسطينية. في المقابل، أعلنت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة، اللتان من المتوقَّع أن تُشارِكا في تمويل أجزاء كبيرة من الخطط، بشكل قاطع أنَّ استعدادهما لتخصيص الموارد مرهونٌ بتحديد جدول زمني واضح لإقامة دولة فلسطينية مستقلّة وذات سيادة.

ثانيًا، هل تُعبِّر الخطة عن آراء الفلسطينيين بشكل صريح؟ وُضِعَت معظم الخطط على يد أمريكيّين وأوروبيّين وإسرائيليّين (معظمهم رجال)، على الرغم من أنَّها تُشير بشكل عام إلى "مشاورات واسعة النطاق" أُجرِيَت مع فلسطينيين لم تُذكَر أسماؤهم. لكنَّ الخطَّة الفعَّالة ستتطلَّب الحصول على تأييد مختلف شرائح المجتمع الفلسطيني، بما في ذلك قادة المجتمعات الجغرافية القائمة مسبقًا، وممثِّلي منظَّمات المجتمع المدني والجمعيات المهنية، والنساء، والأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و35 عامًا والذين يُشكِّلون حاليًا نسبة كبيرة من السكّان. ونظرًا إلى التنوُّع الكبير في وجهات النظر بين سكّان الضفّة الغربية وغزّة والمغتربين، سيكون من الصعب التوصُّل إلى إجماع.

ثالثًا، هل تنصُّ الخطة على مشاريع ملموسة وواقعية سياسيًّا بشأن الحوكمة والأمن في غزّة خلال مرحلة ما بعد النزاع مباشرةً؟ إنّ العائق الأكبر بالتأكيد هو حركة "حماس"، التي ستحتفظ على الأرجح ببعض النفوذ في قطاع غزَّة لاحقًا. تقترح عدَّة خطط إنشاء هياكل الأمن والحوكمة المتعدِّدة الجنسيات لفترة مؤقَّتة، وهي تفترض أنَّ بعض البلدان الرئيسية، مثل مصر والمغرب وعدد من الدول الخليجية، ستتولَّى هذه المسؤولية، وأنَّ إسرائيل ستُوافِق على هذه الترتيبات. ولم تذكر تلك الخطط أنواع الحوافز المالية والدبلوماسية اللازمة لإقناع هذه البلدان بالقيام بالمهمَّة الشاقَّة المتمثِّلة في ضبط الأمن والحوكمة في بيئةٍ ربَّما لم يتمَّ فيها القضاء على كوادر "حماس" بالكامل.

رابعًا، كيف تعالج الخطة الهواجس الأمنية المشروعة لإسرائيل؟ حتَّى هذه اللحظة، لم تُجرَ حتى الآن تحليلات كثيرة للمرحلة السابقة لمعرفة كيف تمكَّنت "حماس" من بناء مخزون من الصواريخ والأسلحة الأخرى، على الرغم من الحصار الذي فرضته عليها إسرائيل ومصر طوال 17 عامًا. يمكن للتقنيات الحديثة أن تسدَّ الثغرات الحالية، إنَّما لا بدَّ من إقناع الجمهور الإسرائيلي المُحبَط بفعالية تلك التدابير قبل أن تسمح إسرائيل باستيراد الآلات والمواد اللازمة لإعادة الإعمار على نطاقٍ واسع.

خامسًا، ما هي المسؤوليات التي توكلها الخطة إلى السلطة الفلسطينية ووكالة الأمم المتَّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)؟ تُحاوِل بعض الخطط أن تتجنَّب الاعتماد على السلطة الفلسطينية وتكليفها بممارسة دور الحوكمة في غزَّة، أقلَّه حتَّى تُثبِت أنَّها "خضعت للإصلاح"، أو "أُعيد تفعيلها" بحسب مصطلحات صانعي السياسات الأمريكيين. والافتراض السائد حيال "الأونروا"، على الأقلِّ في واشنطن، هو أنَّها تتَّصف بطابعٍ سياسي إلى حدٍّ يجعلها عاجزة عن القيام بدور بنَّاء في إعادة إعمار غزّة، إلّا إذا شهدت إصلاحات جذرية هي الأخرى.

سادسًا، هل تقتصر الخطة على التعافي وإعادة الإعمار في غزّة، أم أنها تُشير إلى الاحتياجات المماثلة في الضفّة الغربية وتدعو إلى تعزيز الروابط السياسية والاقتصادية؟ لا شكَّ في أنَّ الأولوية العاجلة تتمثّل في ضمان تلبية الاحتياجات الأساسية لسكّان غزّة. ومع تقدُّم الجدول الزمني والانتقال من مشاريع التعافي المبكرة إلى أنشطة إعادة الإعمار والتنمية على المدى البعيد، يجب أن يتحوّل التركيز عندئذٍ من اهتمامٍ حصري بغزّة إلى مشروع متكامل يُسهم في تحقيق الرؤية المنشودة المتمثّلة في إقامة دولةٍ فلسطينية مستقلّة.

سابعًا، ما هي الآليات التي تنصُّ عليها الخطة لناحية ضبط الجهات المُعطِّلة أو ردعها؟ يجب أن تتّخذ إسرائيل الخطوات اللازمة لوقف أعمال العنف والتخريب التي ترتكبها العناصرُ الأكثر تطرُّفًا في المجتمع الإسرائيلي في الضفّة الغربية، وبموافقة الجيش في معظم الأحيان. أمَّا الفلسطينيون فيتعيَّن عليهم، وبمساعدة المجتمع الدولي، أن يأتوا بصيغةٍ تمنع الجماعات والأفراد من استخدام العنف لعرقلة التسوية السلمية مع إسرائيل. كذلك، لا بدّ من ردع الجهات المُعطِّلة المُحتمَلة في الخارج، على غرار إيران و"حزب الله"، لمنعها من القيام بأيّ أعمال قد تُثني الإسرائيليّين والفلسطينيّين عن المضي في التزاماتهم.

ثامنًا، ما هي الهياكل المُقترَحة لتيسير الحوار البنّاء بين الجهات الفاعلة الإقليمية والبلدان المانحة الأخرى؟ اتّسمت الفترة التي أعقبت اتّفاقاتأوسلو بمجموعة من الترتيبات الرسمية وغير الرسمية المُحكَمة لإدارة الأبعاد السياسية والاقتصادية المرتبطة ببناء الدولة الفلسطينية. وعلى الرغم من أنَّها نجحت جزئيًا في تنسيق برامج المساعدة، غير أنَّها أثبتت عدم قدرتها على منع أعمال العنف المتكرّرة وتأسيس اقتصاد وطني فلسطيني مستدام لا يعتمد على التحويلات المالية الطائلة من الجهات المانحة الخارجية. بالتالي، ينبغي أن تطرح الخطط مجموعة جديدة من الترتيبات الملائمة التي تتماشى مع الديناميات الحالية على المستويَيْن الإقليمي والعالمي.

تاسعًا، ما هو مقدار الموارد الذي يُعَدّ ضروريًّا لتنفيذ الخطّة، وهل ثمّة نهج واقعي محدَّد لتأمين المبالغ المطلوبة؟ وفقًا لتقييمٍ أوَّلي للاحتياجاتأجراه البنك الدولي بالتعاون مع الأمم المتَّحدة في كانون الثاني/يناير، يُقدَّر أنَّ الأضرار التي لحقت بغزّة تصل قيمتها إلى 18 مليار دولار. وقد تضاعفَ هذا الرقم بالتأكيد في الأشهر الخمسة الماضية. اقتُرِحَت آليات تمويل مبتكرة، غير أنَّه يجب التحقّق من جدواها عمليًّا في ضوء المَطالِب العالمية المتضاربة. وبالنظر إلى التجارب السابقة، يجب إقناع الجهات المانحة التي تُفضِّل تجنُّب المجازفة بأنَّ الاستثمارات في الضفّة الغربية وغزّة قادرة على تحقيق النتائج المنشودة.

أما السؤال الأخير وربَّما الأهمّ في بعض النواحي فهو: هل الخطة قابلة للتطبيق في ظلّ القيادات الحالية في إسرائيل وفلسطين، أم أنَّها تقتضي تغييرًا سياسيًّا جذريًّا لدى الطرفَيْن؟ وفي هذه الحالة، هل يجب وقف تنفيذ الخطة ريثما يتحقَّق هذا التغيير، وهل يستطيع المجتمع الدولي تشجيع هذا التغيير من دون أن يُعتبَر ذلك تدخُّلًا في السياسة المحلّية؟

إنَّ مختلف خطط اليوم التالي المطروحة حتّى الآن تُثير حتمًا أسئلةً كثيرة في ضوء حالة انعدام اليقين القائمة حاليًا. ولكنْ، ينبغي ألّا نُقنِع أنفسنا بأنَّ الخطابات الرنّانة والمشاريع الرامية إلى تغيير قواعد اللعبة يمكن أن تُغني عن الإرادة السياسية التي يجب أن تُبديها جميع الأطراف المعنيّة لكي لا تبقى عمليات التخطيط تلك مجرّد تأمّلات أكاديمية. 

لاري غاربر مسؤول رفيع سابق لشؤون السياسات لدى وكالة التنمية الدولية التابعة للولايات المتّحدة في عهدَيْ الرئيسَيْن كلينتون وأوباما، وقد شغلَ منصب مدير بعثة الوكالة في الضفّة الغربية وغزّة كما عملَ كمُراقِب للانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية الفلسطينية.

 

 

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.
البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك