تصعيد تركي شمال شرق سوريا وتغيُّر في الاستراتيجية العسكرية
أكتوبر 11, 2023,
,
يأتي هذا التصعيدُ على خلفية التفجير الذي شهدته العاصمةُ التركيَّة أنقرة، صباح الأحد الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الحاليّ، والذي استهدف مبنى وزارة الداخليَّة. حيث كشفت الحكومةُ التركيَّة أنَّ المنفِّذين عناصر من حزب العمال الكردستاني والذين قدموا من سوريا، وأعلن الحزبُ أن المنفِّذين من "كتيبة الخالدين" التابعة له وأحدهما فجر نفسه.
كتيبة الخالدين التي نفَّذت العملية، وفق تصريحات "الكردستاني"، لم يسبق أن سُجِّلت لها عمليَّات مُسلَّحة داخل تركيا، وهي عبارة عن خلايا نائمة تابعة للحزب الكردي وموضوعة كقوى احتياطيَّة، وفق تصريحات سابقة لمسؤولين في الحزب. وسبق أن كشف عنها القيادي في الحزب مراد قره يلان في عام 2016 خلال لقاء صحافي، وقال إنها "كتيبة مستعدَّة وجاهزة للقيام بعمليَّات فدائيَّة عند الضرورة".
عمليَّة أنقرة تُعتَبَر أول عمليَّة لحزب العمال الكردستانيّ بعد إعلانه في حزيران/ يونيو الماضي، انتهاء وقف إطلاق النار داخل تركيا من جانبه، والذي صدر في ٦ شباط/ فبراير بعد الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا.
بعد تفجير أنقرة بساعات تصاعدت التصريحاتُ التركيَّةُ المهدِّدة بالانتقام واستهداف مواقع حزب العمال في سوريا والعراق، وبالفعل شُنَّت 20 غارة جويَّة على مناطق وجود الحزب في شمال العراق، تبعها تصريحٌ ملفتٌ لوزير الخارجيَّة التركيّ حقان فيدان قال فيها "إن بلاده ستستهدفُ البنية التحتية لحزب العمال في كلٍّ من سوريا والعراق".
بعد تصريحات فيدان، بدأت أولى عمليات الاستهداف في مدينة الحسكة السورية؛ حيث أعلنت الاستخبارات التركية تفجير سيارة قياديٍّ يُدعَى "مظلوم عفرين" كان من المُخطِّطين لتفجير حيّ تقسيم في إسطنبول العام الماضي، بعدها بساعات استُهدِف مقرٌّ عسكريٌّ يتبع لقسد في معمل القرميد في قرية صفية على مشارف مدينة الحسكة عبر طائرة مُسيَّرة تركية.
في صباح الخميس الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، كثَّفت تركيا من عمليات القصف الجوي، واستهدفت عدة مناطق في شمال وشمال شرق سوريا، من خلال الطيران المُسيَّر، الذي أكدت مصادرنا في القامشلي والحسكة "أن الأجواء كانت تشهد تحليق عدة طائرات بنفس اللحظة دون فاصلٍ زمنيٍّ"، وقالت وزارة الدفاع التركية إنها شنت غارات جوية على أكثر من ١٤٥ موقع من مواقع "قسد" في سوريا حتى الآن.
الغارات التركية استهدفت عددًا كبيرًا من المقرات العسكريَّة والمنشآت الحيويَّة في محافظَتَي الحسكة وريف حلب الشرقي والرقة الشمالي، ومن الأهداف التي قصفَتها: معمل القرميد في الحسكة، ومقرات "قسد" في القامشلي، إضافةً لحقل عودة النفطي في القحطانية ومصافي النفط في قرية كرداهول. وفي حلب شنت طائرات حربية تركية ضربات جوية استهدفت بلدة تل رفعت ومطار منغ العسكري، إضافة لقصف جوي استهدف مقرات "قسد" في بلدة عين عيسى بريف الرقة.
العملية العسكرية التركيَّة تتشابه مع سابقاتها في أنها ردةُ فعلٍ لكنها تحمل تغيرات في الاستراتيجية العسكرية والعملياتية عبر عدة نقاط:
أول هذه النقاط هي النطاقُ الجغرافيُّ؛ فالعمليات العسكرية التركية خلال السنوات الماضية كانت عمليات استهداف دقيقة ومُحدَّدة لتحرُّكات قيادات فاعلة في "قسد" على ارتباط مع حزب العمال الكردستاني، ضمن نطاق جغرافي محدد لا يبعد عن الحدود أكثر من 10كم، بالتنسيق مع كلٍّ من التحالف الدولي وروسيا؛ حيث ترتبط تركيا مع القوتين باتفاقات تنسيق وتعاون في سوريا منذ آخر عملية شنتها في سوريا "نبع السلام" أكتوبر 2019.
لكن هذه المرة كانت العملية مختلفةً من حيث نوعيَّة الأهداف والنطاق الجغرافي؛ إذ سُجِّلت عدة غارات قرب مدينة الحسكة تبعد عن الحدود التركية نحو 70 كم، إضافةً إلى توسيع منطقة الاستهداف لتشمل مناطق الحسكة وحلب والرقة، الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتيَّة، فيما أظهر فيديو بثته وزارة الدفاع التركية مشاركة طائرات حربية مقاتلة بغارات ليلية على مواقع "قسد" في الحسكة.
نقطة التحوُّل الثانية في العمليات العسكرية التركية، أن هذه العمليات لم تَعُد تستهدف فقط قياداتٍ مرتبطةً بحزب العمال الكردستاني أو مُقرَّبين منه داخل قوات قسد، بل كشفت هذه العمليَّةُ أن إستراتيجية أنقرة القادمة هي ضرب المنشآت النفطيَّة من حقولٍ ومصافٍ، إضافة لمحطات توليد الكهرباء، ومستودعات السلاح، ومعسكرات ومقرات تضم مكاتب إدارية ومالية، بهدف محاولة تجفيف مصادر التمويل التي يستفيد منها الحزب في سوريا عبر "قسد".
النقطة الثالثة للتحوُّل هي محاولة تركيا فرض قواعد جديدة للصراع غير مُتَّفق عليها مع القوى المتواجدة في المنطقة، خاصةً الولايات المتحدة الأمريكية؛ فالطائرات التركية شنت غارات على مواقع قريبة من قاعدة التحالف الدولي في تل بيدر، لكنْ أسقطتها طائرة أمريكية من طراز إف ١٦، وهذا كشف لتركيا حدود المسموح به لعمليَّاتها التي يمكن أن تشمل كل شيء باستثناء المواقع التي تتواجد بها قوات التحالف الدوليّ.
العمليَّةُ التركية تأتي في ظروفٍ صعبة تشهدها الإدارة الذاتية وجناحها العسكري "قوات سوريا الديمقراطية"، التي تعاني مناطقها في دير الزور من هجمات مستمرة من مقاتلي العشائر على خلفيَّة الأحداث الأخيرة المرتبطة بمطالب العشائر بإدارة المنطقة ووجود استقلاليَّة في القرار وطرد كوادر حزب العمال الكردستاني من المحافظة. هذه الظروف أيضًا تجعل ردَّها على العملية خجولًا؛ فلم تتحرك إلا في ريف حلب الشرقي، حيث استهدفت قاعدة تركية قرب بلدة دابق، ما تسبب بجرح جنود أتراك نتيجة قصف القاعدة.
الشارع المحلي -حتى الكردي منه- بات متململًا من سياسات الإدارة الذاتية، خاصةً علاقتها مع حزب العمال الكردستاني. ويرى الكثيرون أن الإصرار على الحل الأمني في دير الزور وعملية أنقرة هي بقرار من كوادر قنديل التابعة للحزب، والتي يوجد عدد منها في سوريا، وهذه السياسات لا تخدم المنطقة أو حتى مشروع الإدارة الذاتيَّة، إنما تشكِّل مبررًا للعمليات العسكرية التركية داخل سوريا، إضافةً لحالة احتقان مع المكون العربي العشائري في دير الزور.
ما حصل خلال الفترة الماضية في دير الزور، ويحصل حاليًا عقب هجوم أنقرة، يحتِّم على الإدارة الذاتيَّة إعلانَ موقف صريح من حزب العمال الكردستاني، وفك الارتباط به، إضافةً لوجود موقف فعلي من القوى الفاعلة في الشرق السوري -وخاصة التحالف الدولي- لوضع حدٍّ حاسمٍ لتصرفاتِ حزب العمال الكردستاني، سواء تعامله مع المدنيين، أو تسببه بجعل المنطقة ساحة حرب مع تركيا، من أجل ضمان الاستقرار في المنطقة التي يتواجد بها قرابة ٣ مليون مدني.
بعد عدَّة أشهر من الهدوء على الحدود التركية السورية، كانت تتخلَّلُها عمليَّاتُ اغتيالٍ تركيَّةٌ لقياداتٍ من وحدات حماية الشعب على ارتباط بحزب العمال الكردستانيِّ، عاد التصعيد بزخمٍ عالٍ خلال الأيام الماضية، من خلال تكثيف الاستهدافات التركية لمواقع قوات سوريا الديمقراطيَّة في شمال شرق سوريا ومخابئ حزب العمال الكردستاني على الحدود التركيَّة العراقيَّة. معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.