MEI

تبايُن مواقف الفصائل السورية المسلحة من مسار التطبيع التركي مع الأسد

يوليو 12, 2024


مشاركة

بلال سمير

شهدت مناطق النفوذ التركي خلال الأيام الأخيرة احتجاجاتٍ واسعةً شملت معظم مدن وبلدات ريف حلب الشمالي وبعض بلدات ريف إدلب. تحول بعضها إلى موجات عنف واشتباكات مسلحة بين مجموعات مسلحة والقوات التركية في المنطقة، مما تسبب بمقتل وجرح عدد من المحتجِّين والجنود الأتراك، وجاءت الاضطرابات في أعقاب هجمات عنصرية ضد السوريين بدأت في مدينة قيصري التركية في 30 يونيو/حزيران، مما أدى إلى تدمير العديد من ممتلكات السوريين.

ورغم مساهمتها في إطلاق شرارة احتجاجات الشمال السوري، لم تشكل الاعتداءات العنصرية دافعًا متفردًا، بل تأتي هذه الاحتجاجات كمحصلة للاستياء الشعبي العام المتصاعد أثر عودة الحديث عن إمكانية تطبيع العلاقات التركية مع نظام الأسد، إذ أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 28 حزيران/ يونيو 2024 عن استعداد بلاده لتطوير العلاقات  مع الأسد كما كانت في السابق، من جانبه، يعتزم رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل السفر إلى دمشق للقاء الأسد أيضًا.

 ترافقت التصريحات التركية مع ما اعتبره عدد كبير من الناشطين السوريين خطوات أولية وعملية في مسار التطبيع، منها افتتاح المجلس المحلي لمدينة الباب بريف حلب الشرقي، معبر أبو الزندين، الواصل بين مناطق النظام السوري في مدينة حلب ومناطق سيطرة المعارضة، بهدف تحويله إلى معبر رسمي ودائم، فضلًا عن تنفيذ إدارة الهجرة التركية خلال الفترة ذاتها حملة أمنية استهدفت ترحيل اللاجئين السوريين المخالفين في مدنيتي غازي عنتاب وكلس والتي أفضت إلى ترحيل المئات منهم بشكل قسري إلى الشمال السوري.

تنطوي الاحتجاجات -رغم طابعها الشعبي- على تباين واختلاف مواقف فصائل المعارضة ومدى التزامها بمقاربة مسار التطبيع التركي مع نظام الأسد، أو تشكيلها مقاربات مناهضة ومستقلة بمعزل عن هيمنة الدور التركي. تحاول هذه المقالة إيضاح موقف أهم الفصائل العسكرية في مناطق النفوذ التركي خلال الاحتجاجات ودرجة امتثالها للإرادة التركية.

معارضة مُنقمسة

تُظهِر خريطة النفوذ العسكري والأمني في الشمال السوري 6 فصائل رئيسة تابعة للجيش الوطني منتشرة في ريف حلب الشمالي، مقابل هيمنة هيئة تحرير الشام على إدلب، تتلاقى فصائل الجيش الوطني مع بعضها البعض أيديولوجيًّا وتختلف في بنيتها وأدوارها، وبالتالي مواقفها خلال حركة الاحتجاجات الأخيرة.

وفي هذا السياق يبرز فصيل حركة التحرير والبناء "الشرقية" بقيادة أبو حاتم شقرا، ويضم الفصيل مقاتلين معظمهم مهجَّرين من مناطق دير الزور شرق سورية، ويبسط نفوذه في جرابلس وبعض مناطق مدينة الباب، كأحد الفصائل المشاركة في الاحتجاجات؛ حيث اقتحم مقاتلو الفصيل مبنى إدارة معبر أبو الزندين ومنعوا عبور الشاحنات التجارية خلالها قبل أيام من انطلاق الاحتجاجات الشعبية، كما شاركت عناصر حركة التحرير والبناء بشكل مباشر في احتجاجات مدينة الباب وجرابلس، وقادوا حملة تخريب وعنف مسلح ضد مباني المؤسسات الحوكمية فيها، فضلًا عن منع الموظفين الأتراك في المنطقة من أداء عملهم والاعتداء على سائقي الشاحنات التركية وصولًا إلى إغلاق معبر جرابلس الحدودي مع تركيا.

من جهته ساهم فصيل الجبهة الشامية المنتشر في مدينة اعزاز بدرجة أقل حدة في دعم الاحتجاجات؛ إذ دفع الفصيل حاضنته الاجتماعية في مدينة اعزاز للانخراط في الاحتجاجات، دون مشاركة عناصره المسلحة بشكل مباشر، بل عمد إلى حماية مباني المؤسسات الحوكمية في المدينة عبر فرض طوق أمني حولها ومنع اقتحامها، بيد أنه لم يتمكن من ضبط الاحتجاجات بشكل كافٍ عند معبر باب السلامة؛ حيث اقتحم المحتجون مبنى المعبر، مما تسبب بسقوط ضحايا في صفوف المحتجين. وفي نهاية المطاف تمكن فصيل الجبهة الشامية من ضبط الاحتجاجات عقب دعوة السكان بتخفيض مستوى الاحتجاجات وتجنب العنف.

من جهة أخرى بدا موقف هيئة تحرير الشام التي تسيطر على منطقة إدلب وتستحوذ على نفوذ أمني كبير في عفرين أكثر غموضًا والتباسًا؛ إذ منعت تشكّل موجة احتجاج كبيرة في إدلب وحاول إعلامها الرديف وصف ما يجري في تركيا "بالفتنة"التي يفتعلها أصحاب النوايا السيئة. وعلى النقيض من ذلك، انخرط مسلحون ملثمون ترجح تبعيتهم لهيئة تحرير الشام في احتجاجات مدينة عفرين وبلدة جنديرس، وتمكنوا من حرف مسار الاحتجاجات نحو اشتباك مسلح مع القوات التركية في محيط مبنى السرايا في مدينة عفرين.

على النقيض من أدوار الفصائل السابقة برزت فصائل السلطان مراد بقيادة فهيم عيسى والحمزات بقيادة سيف أبو بكر والسلطان سلميان شاه بقيادة محمد الجاسم بوصفها فصائل محايدة وتسعى لاحتواء الاحتجاجات عبر الانتشار في محيط المباني الحوكمية في مناطق نفوذها وحمايتها والانخراط في عملية قمع المحتجين.

في الواقع لا تُعتَبَر المواقف المتباينة للفصائل العسكرية واختلاف درجة التزامها بالأوامر والتوجيهات التركية وليدة لحظة الاحتجاجات الأخيرة، حيث يشير مسار علاقتها خلال السنوات السابقة مع تركيا إلى رفض بعض التوجيهات، ومنها اقتحام مقاتلين من أبناء دير الزور، ويتبعون حاليًا لحركة التحرير والبناء، بلدة تادف التابعة لقوات نظام الأسد في عام 2018 رغم الرفض التركي للعملية، كما رفض فصيلا "حركة التحرير والبناء" و"الجبهة الشامية" إرسال مقاتلين إلى جبهات قتال خارجية في أذربيجان وليبيا والنيجر خلال السنوات السابقة وهو ما حرمهما من الدعم المالي التركي لفترات متفاوتة.

في المقابل يشير مسار علاقة فصائل السلطان مراد والحمزات والسلطان سليمان شاه مع تركيا إلى استعداد هذه الفصائل لتنفيذ معظم التوجيهات التركية، حيث ساهمت هذه الفصائل بإرسال مقاتلين إلى ليبيا وأذربيجان والنيجر تنفيذًا للرغبات التركية، كما منعت تركيا أكثر من مرةٍ محاولة تغيير قيادتهم أو إنهاء نفوذهم.

العوامل المسببة للاختلاف في النهج

يفسر تاريخ تأسيس هذه الفصائل وقيادتها والتركيبة الاجتماعية لعناصرها ومدى توافر حاضنة اجتماعية لها اختلاف مستوى وشكل استجابتها لمسار التطبيع التركي،  حيث تأسست فصائل السلطان مراد والسلطان سليمان شاه والحمزات بشكل فعلي بواسطة تركيا خلال عملياتها العسكرية "درع الفرات، غصن الزيتون"  بعد أن كانت بقايا كتائب صغيرة في الجيش السوري الحر، في المقابل لم تلعب تركيا دورًا في تأسيس فصائل الجبهة الشامية وحركة التحرير والبناء، إذ تُعَد هذه الفصائل وريثة فصائل كبيرة منها لواء التوحيد ولواء الفتح والقطاع الشرقية في حركة أحرار الشام وبعض فصائل الجيش السوري الحر التي تأسست في عام 2012.

علاوةً على ذلك، تلعب تركيبة عناصر الفصائل والخلفية القومية لقياداتها دورًا في تباين المواقف، إذ ينحدر فهيم عيسى قائد فصيل السلطان مراد من المكون التركماني وكذلك سيف أبو بكر قائد فصيل الحمزات، في حين ينتمي قادة الشامية وحركة التحرير والبناء إلى المكون العربي، وبالنظر إلى التركيبة الاجتماعية والقومية لهذه الفصائل يتضح التجانس  القومي والمناطقي لمقاتلي الشامية وحركة التحرير والبناء، الذين ينحدرون بشكل رئيس من ريف حلب الشمالي ودير الزور، بجانب حاضنة اجتماعية قوية مرتكزة على أسس مناطقية وعائلية وعشائرية، تجعل مواقف الفصيل أقرب لإرادة الحاضنة الاجتماعية والمجتمع المحلي.

بالمقابل يغيب التجانس القومي والمناطقي عن مقاتلي فصيل السلطان مراد والسلطان سليمان شاه والحمزات؛ حيث تضم مقاتلين من المكون التركماني والعربي ومقاتلين مهجرين من حمص وحماة وريف دمشق ومن مختلف المناطق السورية.  ونظرًا لغياب الحاضنة الاجتماعية تسود العوامل المادية والمالية في طريقة استقطاب المقاتلين، ويظهر ذلك بوضوح في مدى استجابة المقاتلين للمشاركة في عمليات قتالية خارجية. 

أما هيئة تحرير الشام -ورغم خلفيتها الجهادية- فقد كانت الجهة المنفِّذة للاتفاقيات الدولية السابقة التي عقدتها تركيا مع روسيا منذ عام 2017، والمتعلقة بمنطقة خفض التصعيد بريف إدلب، وينطوي موقفها الملتبس من الاحتجاجات على محاولة بسط نفوذها في مناطق سيطرة الجيش الوطني في ريف حلب الشمالي، والترويج لسردية كفاءتها في ضبط الأمن والاحتجاجات في المناطق التي تسيطر عليها، مقابل عدم إخفاق فصائل الجيش الوطني في احتواء الاحتجاجات وضبط السكان بريف حلب.  علاوةً على تضررها المباشر والمحتمل من أي مسار تقارب تركي مع نظام الأسد في ظل استمرار تواجد هيئة تحرير الشام على قوائم الإرهاب الدولية والتركية.

من المتوقَّع أن ينعكس مسار التطبيع التركي مع نظام الأسد على مستويات الاستقرار الأمني في شمال غرب سورية:

1.     مناطق عدم استقرار أمني مرتفع: قد تشهد مناطق سيطرة حركة التحرير والبناء في جرابلس ومناطق النفوذ الأمني لهيئة تحرير الشام في عفرين وجنديرس مستويات عالية من عدم الاستقرار الأمني، كما قد تشهد المنطقة عودة لعمليات نظام الأسد وقوات سوريا الديمقراطية. 

2.     مناطق عدم استقرار أمني متوسط: وتشمل اعزاز والباب ومدينة إدلب، حيث سيطرة الشامية وهيئة تحرير الشام، إذ من المتوقع أن تلجأ فيها هذه الفصائل لإحداث ردة الفعل الشعبية بدلًا من الفعل العسكري.

3.      مستوى منخفض من عدم الاستقرار: وتشمل مدينة الراعي والبلدات والقرى القريبة حيث سيطرة فصائل السلطان مراد والسلطان سليمان شاه والحمزات، مع تواجد المكون التركماني فيها.

في الختام، تُظهر احتجاجاتُ الشمال السوري التأثيرَ عبر الوطني للملف السوري وإمكانية انعكاس ما يجري في الداخل التركي على واقع الشمال السوري على المستوى السياسي والأمني وبالعكس،  وتشير  كذلك إلى استعداد سكان مناطق النفوذ التركي في الشمال السوري لخوض صراع وجودي إذا ما ذهبت أنقرة بعيدًا في مسار التطبيع، وتبين اختلاف وتباين مستويات امتثال الفصائل السورية المسلحة للإرادة التركية، مما يثير التساؤل حول قدرة أنقرة على ضبط فصائل المعارضة المسلحة في مواجهة أي استحقاق قادم، وحول إمكانية إعادة هيكلة الفصائل والتخلص من العناصر والقيادات غير المنضبطة.

بلال سمير باحث سوري يتابع عن كثب التطورات في شمال سوريا. يعمل حاليًا على درجة الماجستير في العلاقات الدولية.

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.
البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك