MEI

تأييد فرنسا لخطَّةِ الحكم الذاتيِّ المغربية يدلُّ على تحوُّلٍ أوسع في النزاع بشأن الصحراء الغربية

أغسطس 08, 2024

انتصار فقير


مشاركة

كشفت رسالة التهنئة التي وجّهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى العاهل المغربي محمّد السادس بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لاعتلائه العرش عن تحوُّلٍ كبير في السياسة العامّة حيال النزاع بشأن الصحراء الغربية. فقد أعلنَ ماكرون أنَّ فرنسا تنظر إلى اقتراح الحكم الذاتي المغربي باعتباره حلًّا قابلًا للتطبيق، لا بل الحلّ الأكثر قابليةً للتطبيق لمعالجة النزاع. ويُشكِّل هذا التحوُّل في الخطاب تغييرًا كبيرًا في السياسة الخارجية الفرنسية، وقد أتى في أعقابِ تحوُّلٍ مماثلٍ في موقف إسبانيا، وبالتالي قد يدفع بلدانًا أوروبية أخرى إلى القيام بالمِثل. وعلى نطاقٍ أوسع، تحمل هذه الخطوة أيضًا انعكاساتٍ على الديناميات الإقليمية، وهي ستقتضي في نهاية المطاف إعادةَ النظر في عملية حلِّ النزاع التي تقودها الأمم المتَّحدة.

بعدَ عقودٍ من التفاوض تحت رعاية الأمم المتّحدة حول مجموعةٍ من الحلول الممكنة للنزاع الإقليمي -الذي يضع المغرب في مواجهة جبهة "البوليساريو" (الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب)، وهي حركة تحرير تدعمها الجزائر- بدأ المغرب بالدفع باتّجاه النتيجة المُفضَّلة لديه. برزت خطَّةُ الرباط للحكم الذاتيِّ تحت السيادة المغربية في عام 2007، وفي غياب السُّبُل الأخرى القابلة للتطبيق لضمان تقرير المصير، حظيت خطَّةُ الحكم الذاتي بدعم الولايات المتّحدة وأوروبا، ولكن من دون تأييدٍ صريحٍ من جانبهما. وحاولَ المغرب أن يجعل هذه الخطَّةَ الأساسَ الوحيد للتفاوض بشأن الحلِّ، في حين سعت الأمم المتَّحدةُ (والكثير من المبعوثين الشخصيِّين) إلى توسيع نطاق البحث وضمان النظر في جميع النتائج المُحتمَلة في المفاوضات. ومنذ مطلع العقد الأوَّل من القرن الحادي والعشرين، رفضَ المغرب المفاوضات المُحتمَلة التي تفضي إلى الاستقلال (من خلال استفتاء لتقرير المصير)، بينما أصرَّت جبهة "البوليساريو"، على أساس الحقِّ المُعترَف به دوليًّا في تقرير المصير، على أن تتضمَّن المفاوضات مسارًا ممكنًا لاستفتاءٍ يُقدِّم ثلاثة خياراتٍ: الحكم الذاتي، والاستقلال، والدمج الكامل. لكنَّ القيادة المغربية عملت جاهدةً لسنواتٍ على التقليل من احتمالات حدوث هذه النتيجة، عن طريق ترسيخ سيطرتها الفعلية على معظم الأراضي من خلال العوامل الديموغرافية والاستثمار والتنمية الاقتصادية، ما أدَّى بالتالي إلى استحداثِ واقعٍ يكاد يستحيل تغييره. ولم ينجح المُفاوِضون المتعاقبون في تعديل موقف الرباط بشأن هذه القضية، وهي نتيجة غير مُفاجِئةٍ نظرًا إلى الدعم الذي يحظى به موقف المغرب من جانب الولايات المتّحدة وفرنسا في مجلس الأمن.

 الجهات الدولية ومصالحها المُتضارِبة

تُضطَرُّ الولايات المتَّحدة وفرنسا وإسبانيا (وهي الجهات الأكثر ضلوعًا بشكلٍ مباشرٍ في النزاع) إلى إدارة الكثير من المصالح والمبادئ المُتضارِبة بشأن هذه القضية، في مثالٍ مُبكرٍ عن الطريقة التي ساهمَ بها كلٌّ من القانون الدولي وعمليات حلّ النزاعات الدولية في عرقلة السياسة الخارجية والأولويات الوطنية. ومن مُنطلَق تردُّدها في الضغط على شريكٍ ثابتٍ لحثِّه على قبولِ حلٍّ قد يُضعِفه، لجأت هذه الدولُ إلى تحصين المغرب كي لا يُضطَرُّ إلى القبول بتسويةٍ. وكانَ على إسبانيا أيضًا، وهي السلطة الاستعمارية والمسؤولة السابقة عن الصحراء الغربية، أن تُعالِج التصوّرات المحلّية بشأن هذه القضية. وتَعيَّنَ على كلٍّ من إسبانيا وفرنسا أن تُوازِنا بين شراكتهما مع المغرب وشراكتهما مع الجزائر، علمًا أنَّ الأخيرة هي الداعمُ الرئيسيُّ لجبهة "البوليساريو" فضلًا عن كونها لاعبًا إقليميًّا مهمًّا ومُصدِّرًا للطاقة إلى الأسواق الأوروبية، وخصوصًا في ظلِّ التأثير الذي أحدثه الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022 على إمدادات الغاز إلى أوروبا. 

نتيجةً لذلك، تبنَّى هؤلاء الشركاء موقفًا مراوِغًا، بحيث تعاملوا مع الحكم الذاتي باعتباره واحدًا من عدَّة أُسُس ممكنة للمفاوضات، لكنّهم في الوقت نفسه حموا المغرب من أيِّ ضغوطٍ كبيرةٍ على طاولة المفاوضات. ربَّما يهدف هذا التكتيك إلى استرضاء جبهة "البوليساريو" والجزائر، لكنَّه أصبحَ مصدرَ استياءٍ وعاملًا، في نظر الأخيرتَيْن، ينزعُ الشرعية عن عملية التفاوض الدولية، ما ساهمَ في انسحاب البوليساريو في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 من اتّفاق وقف إطلاق النار الذي توسّطت فيه الأمم المتّحدة عام 1991. تعرَّضت الجبهةُ للضغط من اللاجئين المستائين في مُخيَّمات تندوف لاتّخاذ إجراءاتٍ حاسمةٍ ضدّ المغرب والدعم الدبلوماسي المتزايد لموقف المملكة. في المقابل، خابَ أمل المغرب من دعم شركائه الضمنيِّ، ولكنْ ليسَ العلنيَّ أو الرسميَّ، للقرار الذي يُفضِّله، إلّا أنَّه نجحَ في كسب التأييد لخطَّة الحكم الذاتيّ، وحتّى الاعتراف الصريح من عدّة شركاء أفارقة وعرب بمُطالَباته بالسيادة. وشهدَ العام 2020 سلسلةً من الاعترافات بالسيادة، أبرزها من الإمارات العربية المتّحدة والبحرين والأردن.

 تغيير الولايات المتّحدة لمسارها يزيد الضغوط على الشركاء الأوروبيّين

مع التحوُّل الجذري الذي جلبته إدارة ترامب إلى هذا النزاع في كانون الأوّل/ديسمبر 2020 لناحية قبول السيادة المغربية على المنطقة، تَراجَعَ دور الأمم المتّحدة والنقاش حول سيناريوهات الحلّ المختلفة. بعد ذلك، وجدت إدارةُ بايدن نفسها أمام مهمَّةٍ صعبةٍ تتمثّل في السعي إلى التأكيد على أهمية القانون الدولي وعملية الأمم المتّحدة التفاوضية للتوصُّل إلى حلٍّ دائمٍ، بالتزامن مع دعم السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة، التي سيكون التراجع عنها مثيرًا للجدل وقد يُحدِث أزمة في العلاقات بين الولايات المتّحدة والمغرب. كذلك، تعرّضت إدارة بايدن لضغطٍ كبيرٍ من مؤيّدي جبهة "البوليساريو" والحريصين على تقدُّم العملية الدولية من دون عوائق لإبطال التغيير. ولكنْ، فيما بقي الاعتراف قائمًا، عادَ خطابُ إدارة بايدن إلى الموقف الأمريكي ما قبل إدارة ترامب، المتمثّل في الحفاظ على خيار الحكم الذاتي. ومع أنّ المغرب شعرَ ضمنيًّا بالخيبة إزاء هذا التراجُع، إلا أنّه حقَّقَ نصرًا. بالإضافة إلى ذلك، يأمل المغرب بأن تكرَّ السبحةَ بعد موقف الولايات المتّحدة.

فتُشجِّع الرباط الشركاء الدوليّين وتُقنِعهم وتضغط عليهم لإبداء دعمٍ أقوى لخيارها المفضَّل بالحدِّ الأدنى، لا بل تحثُّهم على اتِّباع خطى واشنطن بالضبط. وبدأ الضغط يتزايد مع أقرب شركاء المغرب الأوروبيّين، أي إسبانيا وفرنسا، بعد أن صمدت الأخيرة لعدّة سنوات. وبينما كانت فرنسا تُدير مَطالِب المغرب المتزايدة بتعزيز الدعم المُقدَّم له، ادّعت أنَّها قادرة على مساعدة المملكة بشكل أفضل عن طريق الإبقاء على حيادها بشأن خطّة الحكم الذاتي. ولكنَّ ذلك لم يردع المغرب، الذي كانَ يطمح إلى جلب الاستثمار الأجنبي المباشر الدولي (والفرنسي ضمنًا) إلى المنطقة الخاضعة لسيطرته، فسعى إلى اكتساب دعم دبلوماسي أوسع من جميع شركائه. وبادرت إسبانيا، كونها الأقرب جغرافيًّا وتجمعها بالرباط علاقةُ تعاونٍ كبيرٍ في قضايا الهجرة والأمن، إلى مكافأة المغرب بتغيير سياستها العامّة في عام 2022، وهي خطوة استدعت ردًّا قويًّا من الجزائر في محاولةٍ لتجنُّب حدوث تغييرٍ أوسع في السياسة الخارجية للاتِّحاد الأوروبيِّ. 

النتائج المُحتمَلة والآثار الإقليمية لتحوُّل السياسة الفرنسية

جاءَ التحوُّلُ الفرنسيُّ بعدَ سنواتٍ عدّة من التوتُّرات الثنائية حول قضايا تعود إلى ما قبل إدارة ماكرون -بدءًا بالخلاف الدبلوماسي ووصولًا إلى مزاعم التجسُّس ومبادرات فرنسا تجاه الجزائر- وربَّما اعتبر ماكرون أنَّ هذا التحوُّل يشكِّل خطوةً ضروريةً للدفع باتّجاه إعادة صياغة العلاقة. وفي حين يُشكِّل ذلك مؤشِّرًا إيجابيًّا لناحية تحسُّن العلاقات مع الرباط، تُواجِه فرنسا حاليًا شبح الضغوط والتوتّرات الإضافية في علاقةٍ مُعقَّدةٍ أساسًا مع الجزائر. وقد ردَّت الجزائرُ على رسالة ماكرون بسحب سفيرها من باريس، وتستطيع فرنسا أن تنظر إلى تجربة إسبانيا كسابقة. ففي حزيران/يونيو 2022، قطعت الجزائر علاقاتها مع إسبانيا وعلَّقت التجارة في جميع القطاعات باستثناء الطاقة، وذلك بعد قرار مدريد بدعم خطّة الحكم الذاتي، وبدأت العلاقة للتوِّ بالتعافي. تلتزم السياسة الجزائرية بدعم جبهة "البوليساريو" كمبدأ ثابت، وهي تعكس المخاوف من طموحات المغرب التوسُّعية والتزام الجزائر التاريخي بإنهاء الاستعمار وبالأُممية الثورية. ولكنَّ جهود الجزائر للحدِّ من تقدُّم المغرب في هذا الصدد تقتصر على ردود الفعل. فالجزائر تنظر إلى المغرب باعتباره تهديدًا للأمن القومي بالمعنى الواسع والغامض، وبالتالي تفتقر إلى توجُّهٍ استراتيجيٍّ واضحٍ. ويكمُن نهج القيادة الجزائرية في إفساد تقدُّم المغرب وإبطاء زخمه، بدلًا من استباق الأحداث وتحديد وجهتها. في هذه اللعبة، لطالما كانَ المغرب مُتقدِّمًا بخطوةٍ، فيشقُّ طريقه نحو النتيجة التي يُريدها من خلال سياسة القوّة وتجنُّب النظام الدولي، في حين تبني الجزائر احتجاجاتها على أساس القانون الدولي.

مع ذلك، وإذ يسعى المغرب إلى تحقيق هذه المكاسب في النزاع، يبدو أنَّ قيادته لا تكترث لمجموعة العواقب الجانبية الناجمة عن أفعالها. فقد تؤدِّي خطوة فرنسا، كما حصلَ في الاعترافات السابقة، إلى تعزيز قُوَّة المتشدِّدين الجزائريّين، ما قد يزيد التوتّرات الثنائية. وجاءَ أحدثُ انقطاعٍ دبلوماسيٍّ بين البلدَيْن، في آب/أغسطس 2021، في أعقاب اعتراف الولايات المتَّحدة بالسيادة المغربية والعلاقات المتنامية بين المغرب وإسرائيل. وكانَ التحوُّل في سياسة الولايات المتّحدة قد أدَّى سابقًا إلى تعقيد إمكانية وقف إطلاق النار بين جبهة "البوليساريو" والمغرب. وكون المغرب يحتلُّ موقعَ القوَّة في هذه القضية، لا يوجد لديه حافزٌ لتقديم أيِّ تنازلاتٍ. والحقيقة المرَّة هي أنَّه مع كلِّ اعترافٍ جديدٍ، يقع العبء على عاتق جبهة "البوليساريو" والجزائر لتسوية هذه المسألة، ويجب عليهما القيام بذلك بسرعة، قبل أن يفقدا المزيد من نفوذهما. فكلُّ اعترافٍ جديدٍ يُجرِّد جبهةَ "البوليساريو" من الفُرَص، الضئيلة أساسًا، لمعالجة القضية في إطار الأمم المتّحدة الحالي. 

إنَّ العودة إلى النزاع النشِط لم تُحقِّق النتائج التي سعت إليها جبهة "البوليساريو"؛ فهي لم تجذب المزيد من الاهتمام الدولي بالنزاع، ولم تُفضِ إلى أيِّ إدانةٍ للمغرب، ولم تُسفِر عن أيّ خسائر مادّيةٍ قد تُجبِر المغربَ على تقديم التنازلات. بالإضافة إلى ذلك، ليس من مصلحة جبهة "البوليساريو" الإقدام على أيِّ تصعيدٍ، لأنَّ المجتمع الدولي سيسارع على الأرجح للوقوف إلى جانب المغرب لمنع أيّ زعزعةٍ مُحتمَلةٍ للاستقرار في المنطقة. ونظرًا إلى أنّ التغيُّر في سياسات الولايات المتّحدة وإسبانيا وفرنسا حوَّل ديناميات النزاع، من مسؤولية هذه الدول الثلاث أن تدعو جميع الأطراف إلى طاولة المفاوضات لمنع المزيد من التصعيد وتخفيف التوتّرات السياسية المتفاقمة مع الجزائر. 

انتصار فقير، زميلة أولى ومديرة برنامج شمال أفريقيا والساحل في معهد الشرق الأوسط.

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.

متعلق بالمنطقة

البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك