بين الصورة المُشرِقة التي ترسمها الحكومة المصرية والضائقة الاقتصادية التي تطال الملايين.. فجوة كبيرة
يوليو 17, 2024
خالد داود
كان من المفترَض أن يحتفل المسؤولون في مصر في شهر حزيران/يونيو نظرًا للنجاحات الاقتصادية الظاهريّة التي سجّلتها الحكومة، لكنّ أيًّا من تلك النجاحات لم يجلب الطمأنينة الفعلية للمواطن المصري العادي الذي ما زالَ يُواجِه مشاكل من قبيل شحّ العملة، وانقطاع التيّار الكهربائي، ومخاوف من عودة ارتفاع معدّلات التضخّم.
من ناحية، وصلَ صافي احتياطي العملات الأجنبية إلى مستوى قياسي بلغَ 46.1 مليار دولار في نهاية شهر أيّار/مايو، أي أنّه ارتفعَ بأكثر من 5 مليارات دولار مقارنةً بالمعدّل المُسجَّل في نيسان/أبريل الذي لم يتجاوز 41.1 مليار دولار. وبحسب البنك المركزي المصري، فإنَّ الاحتياطي حقَّقَ أعلى مستوياته منذ أن بلغَ 45.5 مليار دولار في شباط/فبراير 2020 تزامنًا مع بداية جائحة كوفيد-19. وذكرَ موقع بلومبرغ أنَّ مبلغ 46.1 مليار دولار هو الأعلى على الإطلاق بناءً على البيانات المتوفّرة.
في المقابل، بلغَ معدّل التضخّم الإجمالي في المناطق الحضرية 28.1٪ في أيّار/مايو، مقارنةً بـ 32.5٪ في الشهر السابق. وفي حزيران/يونيو، عادَ فانخفضَ مجدّدًا بشكلٍ طفيف للشهر الرابع على التوالي لِيَصِل إلى 27.5٪. وسَجَّلَ التضخّم الأساسي السنوي 26.6٪ في حزيران/يونيو، حيث تراجعَ بعد أن وصل إلى 27.1٪ في أيّار/مايو و31.8٪ في نيسان/أبريل. وجاءَ هذا الانخفاض في معدّل التضخّم بعد أشهر من ارتفاعه بدون توقُّف، وذلك نتيجة تدهور قيمة العملة المحلّية مقابل الدولار الأمريكي والنقص الشديد في الإيرادات بالعملات الأجنبية.
بالإضافة إلى ذلك، في أواخر حزيران/يونيو، أعلنَ البنك الدولي عن تقديم مبلغ 700 مليون دولار كتمويلٍ للسياسات الإنمائية للحكومة المصرية بهدف دعم جهود مصر لتعزيز مشاركة القطاع الخاصّ، وتحسين مرونة الاقتصاد الكلّي والمالية العامّة، والنهوض بمسار النموّ بشكلٍ أكثر مراعاةً للبيئة. وجاءَ هذا الإعلان تتويجًا لاتّفاقٍ أُبرِمَ مع صندوق النقد الدولي للإفراج عن الشريحة الثالثة التي تُقدَّر قيمتُها بـ820 مليون دولار، من ضمن برنامج يبلغ مجموعه 8 مليارات دولار. وأعلنَ صندوق النقد الدولي أنَّ مجلسه سيجتمع في 27 تمّوز/يوليو للموافقة على الشريحة الثالثة. وكانَ من المفترَض صدور هذا القرار قبل أسابيع، لكنَّه تأجَّلَ، بحسب ما أوردته وسائل الإعلام المحلّية، إلى حين موافقة الحكومة على زيادة أخرى في أسعار الكهرباء والمحروقات. وأفادت التقارير الإعلامية أـنَّ الحكومة أرجأت هذه القرارات خشيةً من ردٍّ شعبيّ عنيف في أعقاب الموجة الأخيرة من انقطاع التيّار الكهربائي وارتفاع أسعار الخبز المدعوم.
الإمارات العربية المتّحدة وصندوق النقد الدولي إلى النجدة
منذ شهر آذار/مارس، بعد أن بادرَ كلٌّ من الإمارات العربية المتّحدة وصندوق النقد الدولي إلى إنقاذ الاقتصاد المصري من الإفلاس في ظلّ استمرار الحرب بين إسرائيل و"حماس" في قطاع غزّة المُجاوِر، تمّ التعهُّد بتقديم ما يزيد عن 57 مليار دولار لمساعدة مصر على الصمود اقتصاديًا في خضمّ الأوضاع المحلّية والإقليمية الصعبة للغاية. وأتى الدعم الأكثر سخاءً من الحليف الإقليمي الأقرب إلى الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، أي الرئيس الإماراتي محمّد بن زايد الذي قطعَ وعدًا بتقديم مبلغ 35 مليار دولار لتطوير وجهة سياحيّة في رأس الحكمة عند الساحل الشمالي المطلّ على البحر الأبيض المتوسّط. وشكَّلَ المبلغ النقدي غير المسبوق الذي دُفِعَ مسبقًا دلالةً على أنَّ قرار الإمارات بتوفير الدعم لمصر لم يكن لأسباب تجارية حصرًا، بل اتّخذَ أيضًا بُعدًا سياسيًا لإنقاذ حليفٍ مُقرَّب من إعلان تخلّفه عن السداد.
ما من أخبار سارّة حتّى الآن للمصريين المتضرّرين بشدّة
على الرغم من كلّ هذه الأخبار السارّة، ما زالَ الشعب المصري يرزح بغالبيته تحت وطأة ارتفاع الأسعار، والأسوأ من ذلك أنَّه متخوّفٌ من عودة الوضع إلى نقطة الإفلاس الوشيك على الرغم من تدفق الأموال الجديدة، الأمر الذي شَكَّلَ مصدرَ قلقٍ جدّيًا قبل الدعم الحيوي من الإمارات العربية المتّحدة وصندوق النقد الدولي.
السبب الرئيسي لهذه النظرة التشاؤمية هو ارتفاع الدَّيْن الخارجي الذي وصلَ إلى 168 مليار دولار في كانون الأوّل/ديسمبر 2023، حيث ارتفعَ من 164.5 مليار دولار في أيلول/سبتمبر. ولا يشمل هذا الرقم ما يُسمّى بـ"الديون الخفية" غير المعروفة التي وقّعتها كيانات مدعومة من الحكومة مع دائنين أجانب من "خارج الميزانية" لتمويل مشاريع البنى التحتية الباهظة التي أصبحت علامةً لحُكم السيسي في العقد الماضي.
بعد تسديد 29.23 مليار دولار من خدمة الدَّيْن الخارجي في عام 2024، منها 14.59 مليار دولار مستحقّة في النصف الأوّل من السنة و14.63 مليار دولار في النصف الثاني – بالإضافة إلى المتأخّرات لشركات النفط الأجنبية والمبالغ المتراكمة للإفراج عن البضائع المُحتجَزة في الموانئ لعدّة أشهر بسبب نقص العملة الصعبة، من المنطقي التخوُّف من نفاد مبلغ الـ57 مليار دولار المتوقّع دخوله إلى الخزينة المصرية قبل نهاية هذا العام. وقد تترتّب على ذلك ضغوط إضافية على الاقتصاد الهشّ، ما سيؤدّي إلى مزيدٍ من التدهور في قيمة العملة المحلّية وكذلك إلى البحث عن قروض جديدة.
ألحقت الأوضاع الإقليمية غير المستقرّة – ولا سيّما الحرب في غزّة خلال الأشهر التسعة الماضية – أضرارًا كبيرة بالاقتصاد المصري، وأسفرت عن تراجع السياحة في البلد، لا بل عن انخفاض إيرادات قناة السويس بشكلٍ حادّ (إلى حدّ 64.3٪) بسبب هجمات الحوثيين اليمنيّين على السفن في البحر الأحمر. ومن المرجّح أن تستمرّ تداعيات الحرب الدائرة في غزّة لفترة طويلة، إلى جانب الحرب الأهلية في السودان التي دفعت مئات آلاف اللاجئين السودانيين للفرار شمالًا نحو مصر.
الكهرباء مقطوعة بالرغم من تدفّق الأموال الجديدة
بقدر ما حملَ شهر حزيران/يونيو "أخبارًا سارّة" للمسؤولين الحكوميّين، إلّا أنَّه برَّرَ أيضًا مخاوف معظم المصريين من أنَّ التدفّقات النقدية المستمرّة - بما فيها 20 مليار دولار ممّا يُسمَى بـ"الأموال الجديدة" التي عادت إلى البلد بعد انخفاض قيمة العملة المحلّية وارتفاع أسعار الفائدة بمقدار 600 نقطة في آذار/مارس – لن تضع حدًّا بالضرورة للمعاناة التي يعيشونها منذ أربع سنوات.
وبسبب الخشية من أنَّ الأموال التي تمّ التعهُّد بها في الآونة الأخيرة لن تكون كافية لتغطية الاحتياجات العاجلة لعامٍ أو عامَيْن، شهدَ الشارع المصري موجة سخط إثر إعلان الحكومة المفاجئ في 25 حزيران/يونيو عن تمديد فترات انقطاع الكهرباء اليومية في جميع أنحاء البلد من ساعتَيْن إلى أربع ساعات. وفي أعقاب الاستنكار الشعبي، سارعَ رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إلى الإعلان عن تقليص فترة انقطاع الكهرباء إلى ثلاث ساعات فقط. وخلال مؤتمر صحافي عُقِدَ في 26 حزيران/يونيو، تعهَّدَ أيضًا بأنَّ الأزمة برمّتها ستنتهي بحلول الأسبوع الثالث من تمّوز/يوليو، بعد أن تمكَّنَ من توفير مليار دولار لشحنات الغاز الطبيعي الطارئة من أجل تغذية محطّات توليد الكهرباء. ووعدَت الحكومة بإعادة إمدادات الغاز إلى عدد من شركات الأسمدة الكبرى التي اضطرّت إلى وقف الإنتاج لعدّة أيّام نتيجة انقطاع التيّار الكهربائي.
من الواضح أنَّ الحكومة لم تمتلك السيولة اللازمة لاستيراد الغاز والمنتجات البترولية المطلوبة من أجل تزويد محطّات الطاقة بالمحروقات وتخفيف معاناة السكّان في موسم الصيف الحارّ بشكل استثنائي الذي بدأ للتوّ. بالنسبة للمصريّين، تتمثّل المفارقة الأكبر في أنَّ أزمة الكهرباء جاءت بعد دعاية واسعة النطاق روّجت لها الحكومة في السنوات الأخيرة، مستعرضةً "إنجازاتها الضخمة" في إنتاج الغاز والكهرباء. وقد زعمت السلطات بأنَّ هذه التطوُّرات ستجعل من مصر مركزًا للغاز الطبيعي ومُصدِّرًا صافيًا للغاز والكهرباء.
لم تتحقّق هذه التوقّعات، بل أصبحت مصر مُستورِدًا صافيًا للغاز من إسرائيل بشكل رئيسي. وتحدَّثَ مدبولي في مؤتمره الصحفي في 26 حزيران/يونيو عن الانخفاض الحادّ في الإنتاج المحلّي للكهرباء، مُشيرًا إلى "مشكلة تقنية في أحد حقول الغاز التابعة لدولة مجاورة" تُصدِّر الغاز إلى مصر. وكانَ مدبولي يقصد إسرائيل في عبارته تلك، لكنَّه تجنَّبَ ذِكر اسمها خوفًا من تأجيج الغضب الشعبي حيال الحرب الإسرائيلية المستمرّة ضدّ الفلسطينيين في غزّة.
التوقيت الأسوأ على الإطلاق
أتت أزمة انقطاع الكهرباء في التوقيت الأسوأ بالنسبة إلى الحكومة المصرية، إذ تزامنَت مع الامتحانات النهائية للثانوية العامّة. وتُحدِّد النسب المئوية التي يُحصّلها الطلّاب المصريون في هذه الامتحانات إلى حدٍّ كبير مسار حياتهم المهنية المستقبلية والاختصاصات الجامعية التي سيتمكّنون من الالتحاق بها.
وقد أعلنت المساجد والكنائس والمكتبات العامّة عن فتح أبوابها أمام الطلّاب الذين يريدون الدراسة لامتحاناتهم النهائية أثناء فترات انقطاع التيّار الكهربائي الطويلة، ولا سيّما خارج القاهرة. فسكّان العاصمة قادرون على استرعاء انتباه السلطات إلى قضاياهم من خلال التعبير عن استيائهم، غير أنَّ سكّان الأرياف ومنطقة الصعيد لا يُتاح لهم هامشٌ كافٍ للتعبير عن مظالمهم. وأشارت الأخبار المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى أنَّ انقطاع التيّار الكهربائي في الأرياف ومنطقة الصعيد يتجاوز الثلاث أو الأربع ساعات المعروفة في العاصمة، حتّى إنَّه قد يَصِل إلى ستّ أو عشر ساعات متتالية.
وفي حديث مع كاتب المقالة، صرّحَ مسؤولٌ اقتصادي سابق في الحكومة المصرية طلبَ عدم الكشف عن هويته بما يلي: "لا شكَّ في أنَّ الأموال التي جاءت خلال الأشهر الثلاثة الماضية شكَّلت حبلَ نجاة". لكنَّه عادَ وأكَّدَ أنَّ هذه الأموال "لا تكفي بالتأكيد لتهدئة المخاوف بشأن مستقبل الاقتصاد أو لمنحنا شعورًا بأنَّنا نخوضُ بدايةً جديدة"، في إشارةٍ إلى المشكلات المزمنة، مثل الاعتماد على استيراد العديد من السلع الأساسية، كالقمح والآلات، وقد أُضيفت إليها الآن منتجات الغاز والنفط.
من غير المُرجَّح أن يستمرّ انخفاض التضخّم
في مقابل ذلك، وعلى الرغم من أرقام الحكومة التي تُظهِر انخفاض معدّل التضخّم في الأشهر الأخيرة، تتعدّد الأسباب التي تُنبئ بارتفاعه الوشيك ما إن تُقرِّر السلطات رفع أسعار الكهرباء والمحروقات مجددًا.
تُبرِّر الحكومة هذه الزيادات المتكرّرة في أسعار المحروقات بارتفاع كلفة الواردات إثر تدهور قيمة العملة المحلّية. وبينما كانَ الدولار الواحد يُساوي 15.7 جنيهًا مصريًا في شهر آذار/مارس 2022، ارتفعَ سعر الصرف إلى 30 جنيهًا للدولار الواحد بعد الجولة الأولى من تخفيض قيمة العملة في مصر تزامنًا مع إبرام اتّفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار. وعندما ازدادَ الوضع سوءًا في أعقاب اندلاع الحرب في غزّة، توصّلت الحكومة إلى اتّفاقٍ جديد مع صندوق النقد الدولي لزيادة القرض إلى 8 مليارات دولار والموافقة على جولة ثانية من تخفيض قيمة العملة، فأصبحَ الدولار الواحد يُوازي 47-50 جنيهًا مصريًا.
أدّت هذه الضربات التي تكبّدتها العملة المحلّية إلى زيادة فاتورة الواردات لدى الحكومة المصرية، كما ساهمت في تفاقم الوضع الاقتصادي المتعثّر أساسًا لأكثر من 100 مليون مصري. ولا يمكن للزيادات الضئيلة في رواتبهم المتدنّية أن تُعوِّض الارتفاعات الحادّة في الأسعار الناجمة عن انخفاض قيمة الجنيه.
وقالَ المسؤول الحكومي السابق المذكور آنفًا: "إنَّ المبالغ المالية الكبيرة التي تلقّيناها تبدو بالتأكيد جيّدة ظاهريًا، وربّما تُقنِع الوكالات المالية الدولية بتحسين تصنيفاتنا [الائتمانية]"، مضيفًا: "لكنَّها بالتأكيد لا تعني الكثير بالنسبة للمواطنين العاديين الذين ما زالوا يعانون نتيجة انخفاض القوّة الشرائية لمداخيلهم يومًا بعد يوم في ظلّ ارتفاع الأسعار".
خالد داود نائب رئيس تحرير "الأهرام ويكلي" والرئيس السابق لحزب الدستور الليبرالي-الاجتماعي.
معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.