بحثًا عن الوطن: ما سبب مِحَن المشرق، وهل من حلّ لها؟
سبتمبر 05, 2024بول سالم
بول سالم
العودة
بعد 11 عامًا أمضيتها في الولايات المتّحدة، ها أنا في طريقي إلى وطني الأم. الزحمة والفوضى في مطار بيروت كما اعتدتهما، لكنّني اجتزتُ، أنا وغيري من المسافرين، نقاط التحقّق من جوازات السفر واستلام الأمتعة بسرعة لافتة. ما إن خرجتُ من مبنى المسافرين حتى استنشقت الهواء الحار والرطِب، الممزوج بعبَق البحر الأبيض المتوسّط. توقّعتُ أن أرى وجوهًا حزينة، لكنّني فوجئت بزفّة على وقع الطبل والناي لشاب إما عائد من رحلة الحج أو يستعدّ للزواج - لم أعرف حقًا السبب.
ثم بدأتُ أستعدّ نفسيًّا لرحلة "طريق المطار" بالسيارة: فبالإضافة إلى الزحمة الخانقة والدراجات النارية التي تمرّ من كلّ حدبٍ وصوب، ذكّرتني الصور العملاقة لشهداء "حزب الله" وقادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالبلد الممزَّق الذي أعود إليه. وسرعان ما انتابني الكرب إذ رحتُ أتأمّل في انحدار لبنان إلى القعر، بعد أن كان واحةً من الازدهار والسلم والتنوّع؛ أمّا الآن، فأصبح عبارة عن دولة منهارة تمامًا، ذات اقتصاد مُدمَّر ونظام مصرفي مُفلِس، تهيمن على مشهدها السياسي جماعة مسلّحة قويّة – مدعومة من إيران – وتتربّع فيها طبقة سياسية فاسدة على عرش الخراب، فيما يقبع البلد على شفير حرب كبرى جديدة مع إسرائيل الواقعة على حدوده الجنوبية. لكنّ فكري ذهب إلى ما هو أبعد من لبنان، إلى المشرق ككُل، إلى سوريا والعراق، وبالطبع فلسطين. هذا المشرق، الذي بدا منذ سبعة أو ثمانية عقود ليس إلا أنّه على وشك أن يشهد نهضةً تدوم حتى أواخر القرن العشرين أو ما بعد ذلك، يغرق اليوم في الدمار والفوضى. ثم رحتُ أتساءل ما سبب كلّ هذه المِحَن التي يشهدها المشرق، وهل من حلّ لها؟ بالطبع، الحلول ممكنة على المدى البعيد؛ ولكن على المدى القريب، يبدو الطريق إلى الأمام مسدودًا ومحفوفًا بالمخاطر.
الإرث الثقيل للمشرق
في معرِض بحثي عن إجابات، عدتُ بدايةً إلى حقبة الحُكم العثماني التأسيسيّة. فبخلاف الوضع في مصر أو المغرب، لم تتمتّع المقاطعات الخاضعة للحكم العثماني، التي تشكّل اليوم معظم دول المشرق، بهامش كبير من الاستقلاليّة أو الحكم الذاتي. بل مارس الحكّام العثمانيّون الأتراك سلطتهم في معظم هذه المقاطعات مباشرةً وعن طريق القوّة، ولجؤوا بشكل أساسي إلى البطش أو التهديد به، كما أداروا الشؤون السياسية بواسطة نفوذهم على الوجهاء والقادة الدينيّين وملّاك الأراضي المحلّيين. وقد عاد هذا النمط من الحكم السياسي القائم على القوّة إلى الواجهة وبأشكال أشدّ في السنوات الأخيرة والشرسة من حكم نظام حزب البعث بقيادة صدام حسين في العراق، وحافظ ثم بشار الأسد في سوريا. لكنّ لبنان، أو جبل لبنان كما عُرِف في الحقبة العثمانية، بقيَ الاستثناء الوحيد عن نمط الحكم المباشر هذا، إذ تمكَّن من الحصول على هامش من الاستقلالية في المناطق الجبليّة؛ وبالتالي، نشأت ديناميّات سياسية خاصة تقوم على تقاسم السلطة والمحاصصة والمقايضات بين الطوائف والأُسر شبه الإقطاعية في جبل لبنان، التي لجأت إلى عددٍ كبير من الدول الخارجية أيضًا في محاولة لزيادة نفوذها الداخلي – وهو نمطٌ لا يزال مستمرًّا حتى يومنا هذا للأسف الشديد.
تميّزت السلطنة العثمانية بتقبُّلها للتنوّع. فبالرغم من الهيمنة السنّية على النظام العثماني، أعطى الأخير شرعيّة للجماعات المسيحيّة واليهوديّة المقيمة على أراضي السلطنة. وفيما شكّل هذا التنوّع إحدى ميّزات الحكم العثماني، ساهم أيضًا في إدامة الهويّات الطائفيّة القويّة. صحيح أنّ الكثير من دول المشرق – باستثناء لبنان – حاولت تجاوز الانقسامات الطائفية لصالح هويّة قوميّة جامِعة وبرنامج طموح لبناء الدولة، ونجحت مؤقتًا إلى حدّ ما في هذا المسعى، عادت الهويّات الطائفية بقوّة في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين وساهمت في تمزيق تلك المجتمعات.
إذًا، تمكّنت الدولة العثمانية من الحفاظ على الاستقرار وعلى نظام اجتماعي تعدّدي ومتنوّع إلى حدٍّ ما وشبكات اقتصادية واسعة طوال قرونٍ من الزمن، غير أنّ تلك المقاطعات العربيّة لم تطوِّر ممارسات أو مؤسّسات تمكّنها من ممارسة الاستقلالية أو الحكم الذاتي؛ بدلًا من ذلك، خضعت تلك المقاطعات لحكم الولاة بشكل أساسي. كذلك، أدّى تسامح الدولة العثمانية مع التنوّع، الذي يشيد به كثيرون، إلى الحفاظ على أنماط الهويّة الطائفية التي عادت لاحقًا لتعيث فسادًا في المجتمعات.
الولادة الأليمة لدول المشرق
أدّى تراجع السلطنة العثمانية وانهيارها إلى آمالٍ وطموحاتٍ كبيرة لدى سكان المقاطعات العربية الشرقية النشطين سياسيًا. لكنّ التسويات التي عُقِدَت بعد الحرب العالمية الأولى وفرض الانتداب البريطاني والفرنسي قضيا على تلك الطموحات. كذلك، تخلّى البريطانيون عن الوعد الذي أطلقوه أثناء الحرب بإنشاء دولة عربيّة موحّدة، على الأقلّ في المقاطعات العربية الشرقية، وعمدوا إلى تقسيم المنطقة إلى دويلات بطريقة اعتباطيّة تحت الحكم البريطاني أو الفرنسي. وفي العام 1917، وعدت المملكة المتّحدة أيضًا الحركة الصهيونية بتأسيس وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وهو وعدٌ أدّى إلى قرنٍ – حتى الآن – من النزاع، تشهد المنطقة أحدث فصوله منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
إنّ الحدود الاعتباطيّة التي وُضِعَت لبلدان ما بعد الحرب العالميّة الثانية عبارة عن عيبٍ خُلُقي، إذ ينبغي أن تقوم الدولة القوميّة الحديثة على هويّة وطنيّة واضحة نسبيًا، ومنظومة حُكم متجانسة معها. إلا أنّ مسألة الهويّة الوطنيّة أجّجَت نزاعات سياسيّة ومسلّحة على مرّ العقود – بين القوميّين العرب الذين يطالبون بوحدة شاملة ودُعاة القوميّات المحلّية؛ وبين الإسلاميّين الذين يعارضون حدود الدول العلمانية الاصطناعية ويطالبون بدولة إسلامية أوسع نطاقًا، بما في ذلك الحروب الأخيرة ضدّ الدولة الإسلامية في العراق وسوريا ("داعش")؛ وبين الجماعات دون الوطنية، مثل الأكراد في العراق وسوريا أو المسيحيّين خلال فصول الحرب الأهلية اللبنانية، التي تطالب بالانفصال وبدول أصغر تكون متجانسة إثنيًا. كذلك، مارست سلطات الانتداب نمطًا من الحكم قائمًا على القوّة بشكل أساسي، وفرضَت النظام وحافظت عليه عن طريق الإكراه غالبًا، كما عمدَت إلى تمكين الأقليّات لمساعدتها في احتواء الأغلبية السنّية الكبيرة والمعادية لها إلى حدّ كبير في المنطقة وإيجاد قوىً مضادة لها. وعليه، بقيَت الحروب الأهلية، وهي الإرث الأساسي لهذا النهج، تندلع عبر السنوات – كما في سوريا، حيث دمَّر النظام العلوي بمعظمه البلد للبقاء في السلطة، وفي لبنان، حيث جعلت هيمنة الموارنة البلد غير قابل للحكم عمليًا، وفي فلسطين، حيث أشعلت الهيمنة اليهودية نزاعًا دام لقرنٍ من الزمن ولا يزال مستمرًّا حتى يومنا هذا.
في المقابل، جلبت سلطات الانتداب معها مؤسّسات الديمقراطية الليبرالية، ونماذج الحكم التمثيلية، ومبادئ مثل فصل السلطات وسيادة القانون وغيرهما. فشملت المهام التي أوكلتها عصبة الأمم لسلطات الانتداب تحضير هذه الدول الجديدة لنيل استقلالها وللحكم الذاتي. في سوريا ولبنان، اتّخذ الحكم الديمقراطي الحديث الولادة شكلًا جمهوريًا، فيما اتّخذ الحكم في العراق والأردن شكل الملكيّة الدستورية. ومن اللافت أنّ هذا النمط الحديث من السياسة الليبرالية التنافسيّة والتعدّدية الحزبيّة طغى على الحياة السياسية في تلك البلدان، وحتى في مصر بين الحربَيْن العالميّتَيْن، ولفترة وجيزة بعد الاستقلال.
الاستقلال والحرب الباردة
أنهت الحرب العالميّة الثانية النظام الاستعماري ومنحت تلك الدول الجديدة استقلالها. وأحدث هذا التطوّر موجة من التفاؤل، إذ أمسكت النُخَب الوطنية بمفاصل الحكم الديمقراطي وحاولت العمل بموجبها – لفترة قصيرة في سوريا والعراق، ولفترة أطول في لبنان. غير أنّ الحرب العالمية الثانية أدّت أيضًا إلى المحرقة اليهودية في أوروبا، وجدّدت الشعور بضرورة إقامة وطنٍ قومي وملاذٍ آمن لليهود في فلسطين. وسرعان ما أشعل ذلك نزاعًا مسلّحًا في فلسطين، شاركت فيه الدول العربية المجاورة وانتهى بانتصار الجماعات المسلّحة الصهيونية وإنشاء دولة إسرائيل. كذلك، شكّل نزوح اللاجئين الفلسطينيّين إلى الدول المجاورة والمشاعر الشديدة التي أثارها هذا النزاع عاملًا مؤثّرًا أساسيًا في السياسة الإقليمية، يعلو صوته حينًا ويخفت حينًا آخر، لكنّ صداه ما زال يتردّد في المنطقة كلّها كما نرى اليوم، بعد 76 عامًا. وشهدت مصر وسوريا والعراق على التوالي انقلابات قوميّة، ما أدّى إلى إبطال تجربتها شبه الديمقراطية، والقضاء على الحرّيات المدنية والسياسية، وتأميم الجزء الأكبر من اقتصادها، وإنشاء أنظمة ديكتاتوريّة عسكريّة أو يحكمها حزب واحد ذات سجلّ طويل من القمع الوحشي. أمّا لبنان فحافظ على نموذجه الديمقراطي التعدّدي إلى أن اندلعت الحرب الأهلية في العام 1975، فيما أبقى الأردن على نظامه الملكي وتمكّن من إحباط المحاولات الانقلابية. وكما هو متوقّع، أنتجَ الفلسطينيّون أنماطًا عدّة من المقاومة المسلّحة في نهاية المطاف.
وقد رسّخت الحرب الباردة هذه الانقسامات، حيث دعمَ الغرب إسرائيل وكذلك الأردن ولبنان اللذين بقيا على الحياد، فيما دعمَ الاتّحاد السوفياتي سوريا والعراق ومصر بعد الانقلابات. وعزّزت الحرب الباردة أيضًا النمط السابق من الاتّكال على الدعم الخارجي، وأعطت النخب الحاكمة المحلّية محفّزًا لمقاومة التغيير السياسي الداخلي. إلا أنّ الاهتمام الأمريكي والسوفياتي بالمنطقة أدّى أيضًا إلى دعم خارجي للتنمية المحلّية، سواء على صعيد بناء الدولة أو التنمية الاجتماعية-الاقتصادية؛ وأحرزت تلك الدول تقدُّمًا في مستويات التعليم والإسكان والرعاية الصحيّة ونمو الناتج المحلّي الإجمالي. كذلك، حقّق النظام الثنائي القطب الراسخ مستوى معيّنًا من الاستقرار والقدرة على إدارة الشرق الأوسط، الذي خلا من أيّ هيكلية أو تنظيم في السابق.
صدمات العام 1979
أصابت صدمة كبرى هذا النظام في العام 1979، مع الإطاحة بالشاه في إيران وتأسيس الجمهورية الإسلامية، التي لم تنتمِ إلى نظام الشرق مقابل الغرب، ولا إلى الكتلة العلمانية الاشتراكية السوفياتيّة أو الغرب الليبرالي العلماني الديمقراطي، بل قدّمت خيارًا ثالثًا، إسلاميًّ الهويّة. وما عزّز هذا التوجّه هو المقاومة الإسلامية القويّة للاجتياح السوفياتي لأفغانستان عام 1979، التي نجحت في نهاية المطاف، والانعطافة الإسلامية في المملكة العربية السعودية بعد الهجوم على المسجد الحرام في مكّة المكرّمة عام 1979 أيضًا. وكانت القومية العربية العلمانيّة قد تعرّضت لضربة قاضية عام 1967 مع الهزيمة المدمّرة التي مُنيت بها مصر بقيادة جمال عبد الناصر والدول المتحالفة معها في مواجهة القوّات الإسرائيلية. إذًا، شجّعت هذه الديناميات مختلف الحركات الإسلامية، السنّية والشيعية على حدّ سواء، في المشرق العربي، بعد أن كانت الحركات القومية العلمانية واليساريّة قد طغت عليها إلى حدّ كبير خلال العقود السابقة.
وبطبيعة الحال، جاهرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعدائها للولايات المتّحدة وإسرائيل، وهو أمر كفيل بزيادة التوتّرات في المشرق بمفرده، كما أعلنت عن طموحها بتصدير الثورة الإسلامية إلى الخارج، بما في ذلك إلى الخليج والمشرق العربيَّيْن. وعليه، شنّ العراق بقيادة صدام حسين، بدعم من دول الخليج، حربًا على إيران استمرّت لعقدٍ من الزمن تقريبًا. ونتيجة لذلك، ابتعد العراق عن مسار التنمية الذي كان قد شرع فيه، وعانى من القرارات المتهوّرة الأخرى التي اتّخذها صدام حسين، مثل غزو الكويت لاحقًا والحرب مع الولايات المتّحدة. أما في إيران، فقد ازداد النظام تشدُّدًا بعد الحرب، ونما لديه شعور بالارتياب، وانكبَّ على إيجاد وبناء الجماعات المسلّحة الحليفة له في الدول العربية. ورسّخ ذلك تحالف النظام الإيراني مع سوريا، والتزامه بدعم "حزب الله" في لبنان، كما أدّى في نهاية المطاف إلى تشكيل وكلاء شبيهين بـ"حزب الله" في العراق واليمن وسوريا.
الفرص والمخاطر التي انطوى عليها النظام العالمي بعد الحرب الباردة
حملت نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتّحاد السوفياتي فرصًا عدّة، وكذلك أشكالًا جديدة من عدم الاستقرار، أهمّها قدرة الولايات المتّحدة على التصرُّف من دون رادع. وقد أدّى ذلك إلى التدخّل العسكري الأمريكي الكبير الأوّل في الشرق الأوسط، الذي تمثّل في الحرب التي قادتها الولايات المتّحدة لإخراج العراق من الكويت. وفيما دعمت معظم الدول في المنطقة وحول العالم هذه الحرب، ما كانت الولايات لتُقدِم على تدخّل مباشر من هذا النوع في حقبة الحرب الباردة. شكّل نجاح حرب الخليج الأولى سابقة، وأنتج توقّعًا بنجاح الخطوات المشابهة، ولكن تلت تلك الحرب مبادرتان عسكريّتان بقيادة الولايات المتّحدة انتهتا بشكل كارثي: وهما الحرب الهادفة إلى إسقاط طالبان في أفغانستان، وغزو العراق واحتلاله. يمكن المحاججة بأنّ حرب الخليج الأولى كانت عملية تهدف إلى إعادة الاستقرار والنظام في المنطقة بعد الغزو العراقي، حتى إنّ سوريا نفسها دعمتها؛ أما الحرب الثانية في المشرق – أي اجتياح العراق – فزعزعت الاستقرار بأشكالٍ عدّة: إذ إنّها أحدثت فراغًا في السلطة في العراق، وزادت من قوّة إيران، وعزّزت تنظيم "القاعدة" وغيره من الجماعات المتطرّفة المشابهة، التي تحوّلت لاحقًا إلى تنظيم "داعش".
ازدادت قوّة "القاعدة" والجماعات المتطرّفة الأخرى بعد هزيمة الاتّحاد السوفيتي في أفغانستان، واستفادت من ذلك الزخم لشنّ حرب ضدّ الولايات المتّحدة. كذلك، استفاد تنظيم "داعش" من هذا الزخم لمحاولة السيطرة على المشرق وإقامة دولة إسلامية بدلًا من الدول الهشّة القائمة.
الثورات العربية
في العقد الثاني من القرن الحالي، اندلعت الثورات في العالم العربي نتيجة عوامل محلّية بمعظمها كانت آخذة في التفاقم طوال السنوات السابقة، ولكنْ يمكن القول أيضًا إنّ المحتجّين استلهموا من الثورات الناجحة قبل عقدَيْن في أوروبا الوسطى والشرقية وسقوط الأنظمة الشمولية التي حكمت تلك الدول لفترات طويلة. في المشرق العربي، شهدت سوريا أعنف تلك الثورات. فالنظام الديكتاتوري في العراق أُسقِط قبل عقدٍ من الزمن تقريبًا، وكان العراق يعاني من سلسلة طويلة من الانقسامات الداخلية والنزاعات والفساد والاحتلال والمشاكل الأمنية، ولكن في سياق من الانتخابات، والحكومات القائمة على تقاسم السلطة، ونظام دستوري هشّ. وفيما لم يكن في لبنان من نظام ديكتاتوري لإسقاطه، رزح البلد تحت وطأة القوة المتزايدة لميليشيا "حزب الله" والطبقة الأوليغارشية الطائفية الفاسدة العصيّة عن الإسقاط بالرغم من الانتخابات المنتظمة. من جهته، تعرّض الأردن لضغوط شديدة، ولكنْ، كما في حالة النظامَيْن الملكيَّيْن في المغرب والكويت، تمكّنت المملكة الأردنية الهاشمية من خلق توازن بين تلبية بعض المطالب وممارسة القمع، وهو توزان تعجز الجمهوريات الأوتوقراطية العلمانية مثل سوريا عن تحقيقه. فيمكن للملوك الموافقة على إجراء انتخابات وتقاسُم السلطة مع مسؤولين مُنتخَبين، نظرًا إلى أنّ منصبهم كحاكمين لا يعتمد على الانتخابات وبالتالي لا يمكن الطعن في شرعيّتهم على هذا الأساس؛ لكنّ هذا الخيار غير مُتاح للرؤساء العلمانيّين. كذلك، تعلّم الرئيس السوري من تجربة رؤساء تونس ومصر وليبيا واليمن، وأدرك أنّ تلبية مطالب المحتجّين بتقاسُم السلطة مسألة خطرة قد تؤدّي إلى الإطاحة بالرئيس أو إلى مصير أسوأ بكثير. وفهِم الرئيس السوري أنّ المواجهة مصيريّة ووجوديّة، وواجه ثورة شعبه على هذا الأساس. وقد أدّت هذه المواجهة إلى تدمير سوريا – التي يمكن اعتبارها الدولة المركزيّة في المشرق – والقضاء على أيّ مسار واضح لإعادة تكوينها وتعافيها في المستقبل المنظور.
ثلاث عقبات رئيسية تعيق التقدُّم
هذا هو المشهد الذي واجهتُه إبّان عودتي إلى المشرق. لبنان يرزح تحت هيمنة ميليشيا مدعومة من إيران، وطبقة أوليغارشية طائفية فاسدة، ودولة منهارة بالكامل تقريبًا، ونظام مصرفي مُفلِس، واقتصاد مُعتلّ بشدّة. سوريا ممزّقة ومُنهكة، وتفتقر إلى مسار للمضيّ قدمًا. العراق يحاول التقدُّم، لكنّه يعاني هو الآخر من الميليشيات المتعدّدة المدعومة من إيران، والفساد المستشري، والانقسامات الداخلية المستمرّة. فلسطين عالقة في نزاع مع إسرائيل القويّة، بلا أُفق فعلي لحلّ في المدى المنظور. والأردن يقف بمفرده في المشرق، يجاهد للحفاظ على كيان دولته وسيادته، لكنّه يعتمد إلى حدّ كبير على الدعم الخارجي.
هل من حلّ لهذا المشرق الممزّق؟ طبعًا، على المدى البعيد. ولكن في المستقبل المنظور، من الصعب إيجاد حلّ سريع للمضيّ قدمًا. فهناك ثلاث عقبات رئيسية تقف حجر عثرة. الأولى هي الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني العصيّ على المعالجة حتى الآن، وغياب أيّ مسار لتطبيق حلّ الدولتَيْن، الذي من شأنه أن يضع حدًّا لهذا النزاع المستمرّ منذ قرنٍ من الزمن بطريقة مستدامة ومقبولة. إنّ عدم حلّ هذا النزاع لا يؤثّر في حياة الفلسطينيّين والإسرائيليّين فحسب، بل يؤجِّج التطرُّف وعدم الاستقرار في المنطقة ككُل. العقبة الثانية هي الوضعيّة التي استثمرت فيها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي تقوم على الحضور العسكري الدائم في ثلاثٍ من دول المشرق (لبنان وسوريا والعراق) من خلال ميليشيات حليفة/تابعة تموّلها إيران وتسلّحها وتشرف على نشاطها، ورفضها إعادة النظر في جوهر هذه الاستراتيجية. وما يزيد الطين بلّة هو أنّ إيران تُعلن أنّها في نزاع دائم مع إسرائيل والولايات المتّحدة – وتستخدم دولًا عربية لخوض هذا النزاع. أما العقبة الثالثة فتتمثّل في انسداد الأفق في سوريا ورفض نظام الأسد لأيّ مفاوضات أو إصلاحات تساهم في إعادة بناء البلد الممزّق.
يبدو أنّ التقدُّم في ملفّ إسرائيل-فلسطين بات أصعب من أيّ وقتٍ مضى بعد هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر والحرب العنيفة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزّة إثر ذلك. لكنّ حلّ الدولتَيْن لا يزال الخيار الوحيد القابل للتطبيق على المدى البعيد. في حال برزت قيادة جديدة في إسرائيل وفلسطين، وعادت الولايات المتّحدة لتلعب دورًا قياديًا أكثر فعالية وتبنّت السعودية موقفًا أكثر شجاعة، يمكن التوصّل إلى حلّ الدولتَيْن في نهاية المطاف. وسيتطلّب ذلك تحوّلًا عميقًا مثل ذلك الذي أجرته فرنسا وألمانيا بعد أن قرّرتا تجاوز مرحلة الحربَيْن العالميّتَيْن وتعزيز الاستقرار في أوروبا.
في حالة إيران، لا أحد يشكّ في أنّ طهران ستبقى جهة فاعلة رئيسية في الشرق الأوسط، ولكنْ هل في مقدورها التخلّي يومًا ما عن سياسة ضمان أمنها عبر زعزعة أمن جيرانها في المشرق العربي وانتهاك سيادتهم؟ ليس ذلك مستحيلًا. فبالرغم من صعوبة الحصول على استطلاعات دقيقة للآراء العامة في إيران، أشار الشباب الإيرانيّون بغالبيّتهم مرّة تلو الأخرى إلى أنهم يعطون الأولوية للاحتياجات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية المحلّية. لذا، فالتغيير مُمكن في إيران، إما عبر بروز قيادة وسياسة جديدتَيْن في الجمهورية الإسلامية أو عبر تغيير جوهري أوسع.
في الوقت الحالي، يمكن التوصّل إلى شكل من أشكال خفض التصعيد والتخفيف من حدّة النزاع، كما أظهر الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية الصين في آذار/مارس 2023. ولكن لا شكّ في أنّ إيران قادرة على إحداث أثر إيجابي كبير في المشرق في حال غيّرت وجهتها وباتت مستعدّة وراغبة في أن تصبح شريكةً في إعادة بناء سيادة الدول المدمّرة وتفكيك الميليشيات والسعي إلى إيجاد حلول للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وغيره من النزاعات في المنطقة.
في سوريا، من غير الواقعي التطلُّع إلى تغيير من جانب نظام الأسد. ففيما نجا الأخير من الهجمة الأولى على وجوده – بفضل الدعم الحيوي الحاسم من إيران وروسيا – وبقيَ على قيد الحياة، إلا أنه ضعُف للغاية، ومن غير الواضح ما إذا كان في مقدوره تحمّل هجمة أخرى. بهذا المعنى، يمكن القول إنّ مصير هذا النظام هو الزوال. فحتى لو استعاد نظام الأسد السيطرة الميدانية على أجزاء إضافية من أراضيه بعد انسحاب أمريكي و/أو تركي، سيبقى مفتقرًا إلى عقدٍ سياسي فعال أو شرعية دائمة لدى القسم الأكبر من شعبه، كما وإلى مسار للتعافي والتجديد السياسي والاجتماعي والاقتصادي. لذا، يتطلّب التغيير الفعلي في سوريا إما قيادة جديدة في دمشق أو تغييرًا إقليميًا جوهريًا، مثل تحوّل في السياسة الإيرانية.
بالرغم من استمرار المشاكل الهيكليّة في لبنان والعراق – وخصوصًا غياب السيادة – يمكن للبلدَيْن إحراز بعض التقدُّم المحدود لجهة تعزيز مؤسّسات الدولة وهياكل الحكم، حتى إن لم يتمكّنا من انتزاع السيادة الكاملة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. لكنّ التحسينات الكبرى تتطلّب معالجة إحدى العقبات الثلاث التي أشرتُ إليها أعلاه على الأقل. مع ذلك، من الأفضل إحراز بعض التقدُّم والاستعداد للاستفادة من الفرص الكبرى عندما تسنح، بدلًا من الاستمرار في التراجع.
خاتمة
لديّ قناعة بأنّ المشرق العربي على موعدٍ مع نهضةٍ جديدة على المدى البعيد، بفضل مواهب شعبه وحيويّته، لكنّ السنوات المقبلة مليئة بالعقبات الجوهرية والطُرُق المسدودة. وأنا في طريقي من المطار إلى الطرقات المتعرّجة في جبال لبنان القديمة، رحتُ أفكّر في سكان القرى والبلدات التي تمتدّ على مئات الكيلومترات من حولي، الذين يواجهون الظروف الصعبة آملين بحياة أفضل ومستقبل مختلف. ووجدتُ نفسي أتأرجح بين مشاعر متناقضة – سعادتي لرجوعي إلى وطني، واليأس من الأوضاع في لبنان والبلدان المجاورة، والأمل بأنّ التقدُّم ممكن، والالتزام ببذل ما في وسعنا من جهود لتحقيق هذا التقدُّم.
بول سالم هو نائب رئيس معهد الشرق الأوسط لشؤون العلاقات والمشاركة الدولية. يهتمّ بقضايا التغيير السياسي والانتقال والنزاع، وكذلك بالعلاقات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط.