MEI

اليوم التالي في غزة... يبدأ الآن

ديسمبر 01, 2023

جوفري آرونسون


مشاركة

يصبّ المجتمع الدولي تركيزه على "اليوم التالي" في غزّة، بناءً على افتراض مُطمئن، لكنّه واهِم، بأنّ هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر لم تحدُث قطّ. غير أنّ إسرائيل و"حماس"، وبالرغم من الاختلافات الكثيرة بينهما، منخرطتان في مواجهة سيكون أحد طرفيها كاسبًا والطرف الآخر خاسرًا لبناء نظام جديد للقطاع الساحلي المُحاصَر بالدم والنار.

عند النظر إلى الخيارات المُحتَمَلة في غزّة، يبدو أنّ نقطة الانطلاق الأنجع هي اليوم السابق – أي مسار تطوُّر سياسات الاحتلال الإسرائيلي خلال فترة النصف قرن منذ حرب حزيران/ يونيو 1967.

قامت حملة إسحق رابين الرابحة عام 1992 بشكل أساسي على وعدٍ بـ"إخراج غزّة من تل أبيب" – أي إبقاء سكّان غزّة، الذين هُم لاجئون بمعظمهم، خارج إسرائيل وشوارع تل أبيب ويافا، سواء بصفتهم عمّالًا أو إرهابيّين.

أظهر هذا المطلب الشعبي بشكل عام أنّ النظام الذي أقامته إسرائيل لحكم غزّة في أعقاب حرب حزيران/ يونيو 1967 لم يعُد صالحًا لسكّان غزّة، البالغ عددهم مليونَيْ فلسطينيّ، ولا لإسرائيل، وهو الاعتبار الأهمّ من وجهة نظر الأخيرة.

ارتكز نظام ما بعد حرب 1967 على بناء مستوطنات مدنيّة إسرائيلية في مواقع استراتيجيّة في غزّة، بهدف تقسيم المناطق الفلسطينيّة بطريقة أشبه بنموذج البلقان ومنع نشوء إقليم فلسطيني متماسك. كذلك، فإنّ بناء مستوطنات مدنيّة إسرائيلية أعطى مبرّرًا لتمركُز قوّات إسرائيلية بشكل دائم خارج حدود إسرائيل، أي في غزّة نفسها. وعليه، بَنَتْ إسرائيل سياسات "الاحتلال الليبرالي" الخاصة بها على الاستيطان، والأمن، والحدود المفتوحة، إلى جانب الدعم الذي قدّمته إسرائيل إلى عناصر محلّية لا ترتبط بمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي مقدّمتها رئيس بلدية غزّة رشاد الشوّا.

لكنّ هذا النظام تداعى في نهاية المطاف، وخُلعِ الشوا عام 1981، ثم اندلعت الانتفاضة الأولى في كانون الأول/ ديسمبر 1987. 

لم يفتقر رابين للمخيّلة السياسية. فبحثه عن هيكلية للحُكم والأمن لتوطيد السيطرة الإسرائيلية على غزّة، بما في ذلك بناء المستوطنات، تمحور حول فكرة جديدة تقضي بإقامة شراكة مع منظمة التحرير الفلسطينية الممقوتة سابقًا.

وقد شعر القادة الإسرائيليون بالتفاؤل تجاه نجاح هذا التعاون.

غير أنّ المحضر الذي نُشر مؤخرًا لاجتماع مجلس الوزراء المعقود لمناقشة إعلان المبادئ الذي وافقت عليه إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية أظهر عدم التفاؤل بهذا المشروع.

فقد حذّر وزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز قائلًا: "من المحتَمَل أن تتداعى الصفقة مع منظمة التحرير الفلسطينية بالكامل، وسنواجه حالة إيرانية أشبه بحماس. علينا أيضًا توخّي الحذر. فمن غير المؤكّد أنّ هذه الصفقة ستستمرّ في ظلّ كلّ الثورات والمطالبات والضغوط وغيرها. إنه وضع خطير للغاية. لا أرى بديلًا [عن منظمة التحرير الفلسطينية] في الشارع العربي".

أظهرت اتفاقية أوسلو أنّ إسرائيل كانت مستعدّة لاعتماد نهجٍ جديد لترسيخ سيطرتها على غزّة (والضفّة الغربية أيضًا) يقوم على التعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية، ونشر الجيش الإسرائيلي، وبناء المستوطنات.

إلا أنّ ياسر عرفات لم يلتزم بالشروط الأمنية التي طالبت بها إسرائيل. في الواقع، اعتبر خلفاء رابين، وخصوصًا أرييل شارون، أنّ الانتفاضة الثانية شكّلت دليلًا على أنّ منظمة التحرير الفلسطينية ليست شريكًا متعاونًا ولا حتى صعب المراس، بل عدوًّا لا يمكن الوثوق به إطلاقًا لتلبية شروط إسرائيل الأمنية في الضفّة الغربية أو غزة.

وأثبت شارون، شأنه شأن رابين، أنّ سياسة إسرائيل تجاه غزة لا تخلو من الخيال التكتيكي، مع أنّها متّسقة على المستوى الاستراتيجي. فقد حطّم انسحاب شارون من غزّة كلّ المحرّمات؛ إذ أزال المستوطنات الإسرائيلية من القطاع وأخرجَ قاطنيها البالغ عددهم 7,000، وجرّد بالتالي الجيش الإسرائيلي من حجّة مقبولة سياسيًّا لانتشاره في غزة.

في الحقيقة، أراد شارون إزاحة بعض المسؤوليات عن كاهل إسرائيل بصفتها القوّة المحتلّة في قطاع غزة، بحيث لا تعود مسؤولة عن سلامة سكّانه.

وسعى شارون إلى تحويل غزة إلى بلد أجنبي لا تمتلك إسرائيل أيّ مصلحة ولا تتحمّل أيّ مسؤوليات فيه – رغم أنّ وزارة الخارجية في حكومة شارون نفسها عارضت وجهة النظر هذه. فقد اعتبرت أنّ إسرائيل لا تستطيع الادعاء بأنها لم تعُد القوّة المحتلّة طالما أنها "تسيطر عمليًّا" على غلاف غزّة.

ولكن عندما فشل هذا النظام في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، خاضت إسرائيل حربًا ضدّ غزّة لا كقوّة محتلّة، بل كدولة ذات سيادة تدافع عن نفسها وفقًا لقواعد الحرب.

وفيما يبحث المجتمع الدولي عن الطريقة الفضلى لإعادة الحوار السياسي بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، تكرِّس إسرائيل واقعًا مغايرًا تمامًا على الأرض.

فترسم إسرائيل اليوم خارطة جديدة لقطاع غزة، وكما درجت العادة، يلهث المجتمع الدولي، ومن ضمنه الولايات المتّحدة الأميركية، للّحاق بركب التطوّرات الجديدة التي يفرضها الجيش الإسرائيلي حاليًا في غزة.

ويعود هذا الشرخ بين النوايا الإسرائيلية والتمنّيات الدولية –فيما يتعلّق بالمعاملة التاريخية للاجئين وبناء المستوطنات في الضفة الغربية مثلًا– إلى بدايات إسرائيل نفسها.

ولكن علامَ سينطوي الواقع الجديد في غزّة؟

تعتزم حكومة بنيامين نتنياهو، بدعم شعبي واسع النطاق، أن تُكبّد غزّة ثمن الخسائر التي مُنيَت بها إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وصحيح أنّ الثأر دافعٌ غير مُجدٍ للسياسيّين ومن يخوضون الحرب، لكنّه يبقى التفسير الوحيد للخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات التي تتكبّدها غزة.

ويبدو أنّ هدف إسرائيل السياسي، لا بل العسكري أيضًا، هو جعل غزة، أو على الأقل مناطقها الشمالية حتى الآن، غير صالحة للسكن.

تتماشى هذه الحملة مع القاعدة الصارِمة الثانية في النهج الذي تتّبعه إسرائيل منذ عقود تجاه غزّة: أي الاستيلاء على أراضٍ مقابل كلّ محاولة فلسطينية لتغيير الوضع الراهن ميدانيًّا. لا شكّ في أنّ "حماس" ستُعاقَب على أفعالها، لكنّ الفلسطينيّين سيُعاقَبون معها، وسيفقدون السيطرة على جزء ممّا تبقى من أراضيهم الوطنية، إلى جانب تحمُّلهم سلسلةً من التداعيات الأخرى.

فستعمَد إسرائيل إلى بناء منطقة عازلة ضمن قطاع غزّة، على طول الحدود الشمالية والشرقية للقطاع مع إسرائيل. وسيتحمّل كلّ الأشخاص الذين تقع أراضيهم أو سُبُل عيشهم أو منازلهم ضمن هذه المنطقة العازلة تبعات المطالب الأمنية الإسرائيلية الجديدة.

ولن يحكم الجيش الإسرائيلي غزّة بشكل غير مباشر بعد الآن، كما فعل منذ انسحابه في أيلول/سبتمبر 2005، بل بعد السابع مع تشرين الأول/أكتوبر سوف تسيطر القوات العسكرية الإسرائيلية على غزّة من داخلها، على نحو شبيه بما كان الوضع عليه من عام 1967 وحتى عام 2005.

وقد بدأت إسرائيل بوضع أُسُس هذا النظام الجديد، إذ أُقيمت حواجز جديدة تفصل شمال غزّة عن جنوبها وتمنع اللاجئين من العودة إلى منازلهم. ولا شكّ في أنّ إسرائيل ستُعيد بناء القواعد العسكرية، على الأرجح ضمن الأراضي التي سبق أن انتشر الجيش الإسرائيلي فيها قبل عام 2005، في كتلة غوش قطيف وغيرها.

تتمثل إحدى تداعيات السعي الإسرائيلي إلى بسط سيطرة أمنية كاملة على قطاع غزّة من شماله إلى جنوبه في ضرورة شنّ حملة دائمة للقضاء على مؤسّسات "حماس" الوطنية والأمنية.

حتى الآن، ما من شريك فلسطيني مستعدّ لتأييد نظام أمني "صُنِع في إسرائيل"، يجعل قطاع غزّة بأكمله بحسب أحد المسؤولين الفلسطينيّين الرفيعي المستوى في الضفة الغربية "منطقة ب" – وهي عبارة عن تصنيف لأراضٍ في الضفة الغربية تخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة بموجب اتفاقية أوسلو.

لا مصلحة لإسرائيل في تمكين منظمة التحرير الفلسطينية في غزّة سوى من أداء بعض المهام الإدارية والشُّرَطية المحدودة. ولا تزال شعبية منظمة "فتح" متدنية للغاية، فيما يشير المراقبون العرب إلى أنّ "حماس" تحظى بتأييد واسع. وكما في عقود الاحتلال الأولى، سوف تسعى إسرائيل إلى دعم العائلات المحلّية القوية والمؤسّسات الدولية لإدارة الشؤون اليومية، بالتوازي مع تصميمها المستمرّ على فرض "حمية غذائية" على غزّة – وهو تعبير أطلقه دوف ويسغلاس، أحد أبرز مستشاري إيهود أولمرت.

وكما هي حال كلّ الحلول السابقة التي فرضتها إسرائيل على غزّة، سيدوم هذا النموذج لفترة معيّنة قبل أن يتداعى بدوره. وستتلقى "حماس" ضربات موجعة لكنّها لن تُمحَى من الوجود، وستسعى للنهوض مجددًا من تحت الرماد والركام.

جوفري أرونسون هو باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط.

 

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.

متعلق بالمنطقة

البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك