الولايات المتّحدة تطوي صفحة سوريا وسياسة القضاء على "داعش"
مايو 05, 2023تشارلز ليستر
تشارلز ليستر
لا يمكن الاستهانة بتاتًا بالتداعيات المستمرة لسيطرة تنظيم "داعش" على مساحات هائلة من الأراضي في سوريا والعراق في العام 2014. فقد أدّى التمدُّد السريع للتنظيم الإرهابي إلى تصعيد النزاعات في ساحات عدّة حول العالم، وخاصة في إفريقيا، كما أنّ سلسلة الهجمات الإرهابية المروّعة التي نفّذها التنظيم في الغرب، وسط تدفقات جماعية للاجئين إلى أوروبا، أدت إلى ارتفاع كبير في السياسات الشعبوية التي أثارت انقسامات داخل أوروبا ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فضلاً عن خلافات حادّة حول السياسة الداخلية في دول عدّة. وقد سهّل الفشل الذريع للحكومة في العراق وغرق سوريا في حالة من الفوضى نشوءَ التنظيم الإرهابي الأكبر والأغنى والأشدّ فتكًا في التاريخ، الأمر الذي أحدث تحوّلات جذريّة في العالم بأكمله.
الدور الأساسي للولايات المتحدة في احتواء "داعش"
على الرغم من هزيمة "دولة" تنظيم "داعش" ميدانيًا بنجاح في سوريا منذ أربع سنوات، يواصل التنظيم تمرّده النشِط والخطير. ويعمل 900 جندي أميركي، بالتعاون مع شركائنا المحليّين، أي قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، على مواجهة هذا التحدّي الكبير والمستمر. وعن طريق نهج الانتشار الميداني الخفيف والعمل إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية ومعها ومن خلالها، تؤدّي القوات الأميركية دورًا بالغَ الأهمية في احتواء تنظيم "داعش" وإضعاف قدرته على العودة إلى سابق عهده. منذ بداية العام 2023، نفّذ الجيش الأميركي ما لا يقلّ عن 44 عملية رفيعة المستوى استهدفت كبار مسؤولي التنظيم – وهو عدد أعلى بنسبة 15٪ مقارنةً بالعام 2022. ومن بين القتلى أو الأسرى هذا العام قادة كبار في "داعش" مسؤولون عن التخطيط لشنّ هجمات إرهابية في أوروبا وقادة متخصّصون في التخطيط لعمليات الهروب الكبرى من السجون.
بدأت نتائج إصرار الولايات المتّحدة على قمع تمرُّد تنظيم "داعش" بالظهور، حيث انخفض معدّل الهجمات في مناطق شمال شرق سوريا، الخاضعة لإدارة الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية، وفي العراق بنسبة 37٪ و80٪ على التوالي، مقارنةً بالعام 2022. وعلى الرغم من هذه التطوّرات الإيجابية، تبرز مشكلة جديدة. ففي حين يتمّ احتواء تنظيم "داعش" وإضعافه بشكل فعّال في العراق وشمال شرق سوريا، يبدو أنّ التنظيم يكتسب أفضلية في وسط وجنوب سوريا، أي المناطق الخاضعة لنظام الرئيس بشار الأسد. على مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية، وسّع تنظيم "داعش" نطاق انتشاره في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في سوريا، وعاود الظهور في الجنوب ونفّذ عمليّات في مساحات شاسعة من محافظات حمص وحماة والرقة ودير الزور. كذلك، أعاد التنظيم السيطرة على أراضٍ في تلك المناطق، بعد أن هزم مؤخرًا هجومًا استمرّ لستة أسابيع شنّته القوات السورية والروسية في منطقة قليلة السكان في بادية الشام. وقد شهد شهر نيسان/أبريل أكثر هجمات التنظيم عدوانية وفتكًا منذ أكثر من ثلاث سنوات في المناطق التي يسيطر عليها النظام، إذ أسفرت عن مقتل ما يزيد عن 115 شخصًا. يمكن القول باختصار إنّ النظام يخسر المواجهة، في حين أن التنظيم يكسبها.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تعرّضت لما لا يقل عن 83 هجومًا بطائرات من دون طيار وصواريخ شنّتها مجموعات موالية لإيران منذ العام 2021، فضلًا عن تعاملها مع تصعيد روسي متزايد في الأجواء السورية قد يدفع بالأمور إلى حافة الهاوية، ما زالت القوات الأميركية بلا ريب الجهة التي لا غنى عنها في الحملة المستمرّة ضد "داعش". وقد أكّد الرئيس الأميركي جو بايدن هذه الحقيقة البسيطة منذ توليه سدّة الرئاسة في عام 2021، ولذلك دعمت إدارته الإبقاء على انتشار القوات الأميركية في سوريا، وهو أمر إيجابي أيضًا نظرًا لحجم المشكلة ومدى تعقيدها، وسجلّ الولايات المتّحدة الناجِح، والتحديات الهائلة وغير المسبوقة التي يطرحها احتجاز أكثر من 10 آلاف من معتقلي "داعش" و55 ألف من النساء والأطفال المرتبطين بهم في شبكة من السجون والمخيمات المؤقتة في العراق وشمال شرق سوريا.
مخاطر التطبيع مع الأسد
على الرغم من اعتراف إدارة بايدن الصريح بأنّ مكافحة تنظيم "داعش" ومعالجة التحديات التي يطرحها التنظيم في سوريا هي من المصالح الحيويّة للولايات المتّحدة، يبدو أنّ تلك الجهود تتّجه إلى نهاية خطيرة ومُبكِرة في ظلّ انصراف واشنطن عمومًا عن الاهتمام بسياستها تجاه سوريا. ففي الأشهر الأخيرة، طبّعت عدة حكومات كبرى في الشرق الأوسط علاقاتها مع نظام الأسد بشكل استباقي، بالرغم من سجلِّه الفظيع في مجال حقوق الإنسان ورفضه أو عجزه عن حلّ أي من الأسباب والدوافع الكامنة وراء عدم الاستقرار في سوريا. أمّا ردود إدارة بايدن على مبادرات التطبيع هذه فكانت مؤسِفة وخجولة للغاية. فبعد أن أعربت عن معارضتها لتطبيع العلاقات بشكل صريح في العام 2021، دعت إدارة بايدن الشهر الماضي الحكومات إلى "الحصول على شيء في المقابل"، وباتت الآن تعتبرها خطوات "مشجّعة". غير أنّ مسؤولين في تلك الحكومات التي تعيد بناء العلاقات مع الأسد أفادوا بأنّ إدارة بايدن شجّعتهم سرًا على الإقدام على هذه الخطوة، ولم تُثنيهم عن ذلك.
وعليه، من خلال مزيج من التقاعُس العلني والنشاط السرّي، يبدو أن إدارة بايدن تعمل على تسهيل التطبيع مع نظام الأسد، ما يساهم في إضعاف الموقف العام والمبدئي للحكومة الأميركية بشأن سوريا – علمًا أنّ هذا الموقف يقوم على الدعوة إلى تغيير سياسي جذري من خلال وقف إطلاق النار الشامل، والتوافق على تسوية سياسية، وتحقيق العدالة والمساءلة، وإجراء انتخابات عامة في نهاية المطاف. بعبارة أخرى، تخالِف الولايات المتّحدة سياستها المعلنة، وتقوِّض مصداقيتها ونفوذها، وتساهم في الوقت نفسه في إطلاق يدِ أسوأ مجرم حرب في القرن الحادي والعشرين. وفي حال استمرّ هذا النهج المرتبك وغير المنطقي في إدارة ملف سوريا، سيمهّد الطريق نحو خروج الولايات المتّحدة من البلد، مع ما يستتبعه ذلك من نتائج لا تُحمَد عقباها. ومن الواضح أنّ شركاءنا في قوات سوريا الديمقراطية يدركون ذلك جيدًا، حيث أعلنوا للتو عن استعدادهم للتواصل مع النظام السوري والتفاوض على اتّفاق.
منذ أواخر التسعينيات، جنّد النظام السوري جهاديّين واستخدمهم كسلاح لتعزيز سياسته الداخلية والخارجية. هذه الأنشطة موثّقة على نطاق واسع، ولا شكّ في أنّ الحكومة الأميركية على دراية تامّة بها. ولولا دعم سوريا المباشر لتنظيم القاعدة في العراق وتسهيلها لعمله، لكنّا تفادينا ربّما خسارة المئات من جنودنا. لهذا السبّب بالتحديد، يجب أن يُدرِك صانعو السياسات التبِعات الكارثية المحتملة لخروج الولايات المتحدة المتسرّع من شمال شرق سوريا. فعندها، سيجد 65 ألفَ رجلٍ وامرأةٍ وطفلٍ مرتبطين بتنظيم "داعش"، ممّن يقبعون حاليًا في السجون والمخيمات، أنفسهم تحت سيطرة النظام. هذا مع العلم أنّ النظام يعجز حاليًا عن احتواء "داعش" في مناطق سيطرته، أي في 60٪ من الأراضي السورية، وبالتالي فإنّ محاولة السيطرة على التنظيم في 90٪ من البلاد ستُضعِف جهود النظام بشكل ملحوظ.
نظرًا للكارثة التي شهدتها أفغانستان في آب/أغسطس 2021، من الصعب أن يفهم المرء الدوافع وراء رغبة إدارة بايدن في تكرار هذا السيناريو في سوريا، ولا سيما مع ترشُّح بايدن لإعادة انتخابه في العام 2024. منذ فترة ليست ببعيدة، حاجَج المدافعون عن سياسة الإدارة الأميركية، القائمة على عدم التدخل المباشر في سوريا، بأّنه حتى لو اضطرّت الولايات المتحدة إلى الانسحاب عسكريًا من شمال شرق سوريا، ستحتفظ بالقدرة على شنّ حملة ضد تنظيم "داعش" من خلال عقد ترتيبات مع النظام وروسيا لضمان الوصول. وفيما خلا هذا الاقتراح من أيّ منطق قبل عامَيْن، بات اليوم ضربًا من ضروب الخيال. فخروج الولايات المتّحدة من سوريا قد يقضي على جهودنا الفعّالة لمكافحة "داعش"، مع تسليم هذه المسؤولية إلى جهات أخرى عجزت باستمرار عن الوفاء بالتزاماتها أو رفضت القيام بذلك.
سيشكّل ذلك خطأً كارثيًا قد يدفع بالأمور نحو نقطة اللاعودة. فعندما قرّرت إدارة أوباما الانسحاب من العراق في العام 2010، أطلقَ ذلك شرارة سلسلة من الأحداث أدّت مباشرة إلى عودة "داعش" الدراماتيكية في العام 2014. لكنّنا على الأقلّ حافظنا على علاقات سليمة وبنّاءة في بغداد وأربيل، ما سمح لنا بالعودة عندما بسَط التنظيم سيطرته على نصف البلد لاحقًا. غير أنّ الخروج من سوريا لن يعطينا فرصة ثانية للعودة.
والأسوأ من ذلك كلّه أنّ الأزمة السورية لا تقتصر على تنظيم "داعش" فحسب. فالصعود السريع للتنظيم الإرهابي وإصراره على البقاء هو أحد الأعراض الكثيرة لانعدام الاستقرار الناجم عن الأزمة السورية. وعلى غرار تنظيم "داعش"، فإن تطبيع العلاقات غير المشروط مع نظام الأسد، وبلا اعتراض من أحد، سيؤدّي إلى تفاقم عددٍ من الأعراض الأخرى، بما في ذلك النزوح الجماعي واستمرار أزمة اللاجئين على المدى الطويل، فضلاً عن الانهيار الاقتصادي والمعاناة الإنسانية، والعنف المستشري والمستعصي والجريمة المنظمة، وانتشار الفساد المؤسّسي وأمراء الحرب، بالإضافة إلى نشوب صراعات جيوسياسية متعدّدة ومتداخلة في الأراضي السورية والمجال الجوي السوري.
سياسة الولايات بشأن سوريا: بين خطاب إدارة بايدن وخطواتها الفعلية
لو أرادت إدارة بايدن الوفاء بالوعد الذي قطعته خلال حملتها الانتخابية باعتماد نهجٍ أكثر صرامةً لحلّ الأزمة السورية وإعطاء الأولوية للملايين من ضحاياها، لكانت تصرّفت بشكل مختلف تمامًا خلال العامَيْن الماضيَيْن. في الواقع، لم تبدِ الإدارة اهتمامًا سوى باحتواء الأعراض. طوال المرحلة السابقة، بقيت حملة مواجهة "داعش" القضية الوحيدة التي حظيت بدعم ثابت على المستوى الرئاسي، لكنّ عدم اهتمام الإدارة الحالية بالتصدّي للتطبيع مع الأسد سيقضي بلا شك على تلك الجهود أيضًا.
يسبِّب هذا الوضع قلقًا بالغًا في أروقة وزارة الدفاع والقيادة المركزية الأميركية، إلّا أنّ هذه المخاوف نفسها أُثيرت أيضًا عشيّة قرار الرئيس بايدن مغادرة أفغانستان، لكنّها لم تؤثِّر فعليًا في حسابات الرئيس وفريقه. يعيش بشار الأسد أفضل أيامه في العام 2023، محتفِلاً ببقائه في السلطة فوق رماد ضحاياه. غير أنّ تنظيم "داعش" مطمئنّ ومرتاح هو الآخر، حاله كحال الجهات القليلة الأخرى المتفائلة اليوم في سوريا.
تشارلز ليستر زميل أوّل ومدير برنامجَيْ سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرّف في معهد الشرق الأوسط.
معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.