الهجوم الإسرائيلي على جنين: الكلّ خاسرٌ
يوليو 07, 2023خالد الجندي
خالد الجندي
سارع المسؤولون العسكريون الإسرائيليون إلى إعلان انتصارهم في أعقاب الهجوم الإسرائيلي العنيف على مخيم اللاجئين في جنين، الذي شكّل أكبر عملية عسكريّة في الضفة الغربية منذ عقدَيْن. فقد زعمَ وزير الدفاع يوآف غالانت أنّ أهداف العملية الإسرائيلية، التي استمرت ليومَيْن، "تحقّقت بالكامل"، مضيفًا أنّه "في اللحظة الحاسمة، عمَد الإرهابيون في جنين إلى الاختباء أو الفرار". لا شكّ في أنّ إسرائيل، القوّة النووية ذات الجيش الأقوى في المنطقة، كانت ستنتصر في نهاية المطاف على مجموعة المتمرّدين غير المنظّمين في جنين، علمًا أنّ معظمهم من المراهقين. ومع ذلك، شكّل هذا الهجوم الأخير خسارةً لجميع الأطراف، باستثناء رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ربما، الذي كسبَ هدنة لالتقاط الأنفاس وسط الاحتجاجات الشعبية المستمرّة ضد حكومته اليمينية المتطرفة، وشريكَيْه الأكثر تطرّفًا في الائتلاف، أي وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتس، اللذين كانا ينتظران اللحظة المناسبة لتوسيع حملة القمع العسكرية ضد الفلسطينيين.
بطبيعة الحال، كان الفلسطينيّون أوّل الخاسرين، وبخاصة سكّان مخيم اللاجئين في جنين البالغ عددهم حوالى 20,000 نسمة. فقد سقطَ 12 قتيلًا وأكثر من 150 جريحٍ في صفوف الفلسطينيّين، وأدّى الهجوم الإسرائيلي الجوي والبرّي إلى تدمير أكثر من 300 منزلٍ وإلحاق الضرر بـ400 منزل إضافي، استخدم الإسرائيليون الكثير منها كقواعد للقنص. وأجبرَ ذلك أكثر من 3,000 فلسطيني على الفرار من المخيّم، كما قطعت إسرائيل الكهرباء والمياه عن جميع سكّانه. ومن المرجّح أن يؤدي سقوط هذا العدد الكبير من القتلى ونطاق الدمار الواسع إلى مفاقمة مشاعر اليأس لدى الفلسطينيين التي شكّلت شرارة التمرُّد المستمر منذ أوائل العام 2022. وتجدر الإشارة إلى أنّ حملة القمع الإسرائيلية لا تستهدف المسلّحين فحسب، حيث أعلن نتنياهو أمام الكنسيت أنه "يجب القضاء على تطلّعات الفلسطينيّين" لإقامة دولة مستقلّة وتقرير المصير.
أمّا الخاسِر الثاني فهو رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. فشرعية السلطة الفلسطينية آخذة في التراجع منذ سنوات، إلّا أنّ حملة القمع الإسرائيلية العنيفة في الضفة الغربية كشفت مدى الهشاشة التي تعانيها قيادة عباس. فالسلطة الفلسطينية غير قادرة على حماية الفلسطينيّين على المدى القريب، كما أنها تفتقر إلى استراتيجية بعيدة المدى لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ 56 عامًا، ناهيك عن التحدّيات التي تواجهها للحفاظ على دورها السياسي وحضورها الميداني. وفيما باتت السلطة الفلسطينية بقيادة عبّاس على شفير الإفلاس وفقدت عمليًا سيطرتها على مساحات واسعة من جنين ونابلس في شمال الضفة الغربية، يبدو أنّها دخلت فعليًا في حالة من الانهيار البطيء. ومع استمرار معاناة الشعب الفلسطيني من سلسلة الهجمات العنيفة التي ينفّذها المستوطنون الإسرائيليون في عدّة قرى في الضفة الغربية، في ظلّ عجز السلطة الفلسطينية عن حماية الأرواح والممتلكات، بلغ الغضب من القادة الفلسطينيين أعلى مستوياته. ويُظهر فيديو تم تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي فلسطينيين يطردون اثنَيْن من كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية بعد محاولتهما تقديم التعازي في جنازة القتلى الفلسطينيين الـ12.
كذلك، تضرّرت مصداقية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن نتيجة هذه التطوّرات، وإن بشكل طفيف نظرًا إلى أنّ الولايات المتحدة لا تزال تعتمد سياسة الانكفاء تجاه الفلسطينيّين وحلّ الدولتَيْن. فكما في العمليات العسكرية الإسرائيلية السابقة، قدّمت إدارة بايدن دعمًا غير مشروط لإسرائيل في هجومها على جنين. وجاء في بيان البيت الأبيض: "نحن ندعم أمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن شعبها ضد حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، وجماعات إرهابية أخرى"، ما يقوّض عمليًا الجهود الخجولة التي بذلتها الولايات المتحدة لخفض التصعيد قبل أشهر قليلة في قمة العقبة وقمة شرم الشيخ. وفيما بذلَت معظم الإدارات الأميركية السابقة مساعٍ لحلّ النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني أو على الأقل التخفيف من حدّته، كانت إدارة بايدن حازمة في قرارها بشأن اتّباع سياسة الانكفاء. وطالما أنّ الفلسطينيّين يتحمّلون أعباء وتداعيات الوضع الراهن، تبدو إدارة بايدن راضية بعدم التدخُّل دبلوماسيًا.
غير أنّ أحد أشكال الضرر التي قد يثير القلق لدى إدارة بايدن يتمثّل في تقويض مساعي التطبيع. ففيما لا تُبدي الإدارة الأميركية أيّ حماسة لتحقيق تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لا يوجد شك أنّ الولايات المتحدة مستعدّة لاستثمار موارد سياسية ودبلوماسية ضخمة في سبيل توسيع دائرة الدول العربية التي تطبّع علاقاتها مع إسرائيل، حتّى إنّها أنشأت منصبًا دبلوماسيًا رفيعَ المستوى مخصّصًا لتوسيع اتفاقيات إبراهيم التي أُبرِمَت برعاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. فقد اضطُرَّت الإمارات العربية المتحدة، وهي الشريك العربي الأقرب لإسرائيل، إلى إدانة "العدوان" الإسرائيلي في جنين بشدّة. بالإضافة إلى ذلك، في حال استمرّ العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيّين، ستُحجِم دولٌ عربية كبرى عن الانضمام إلى قافلة التطبيع في المستقبل القريب، ومنها المملكة العربية السعودية، التي لطالما اعتبرتها إسرائيل الطرف الأهمّ في مساعيها إلى نيل الشرعية إقليميًا.
أخيرًا، على الرغم ممّا يدّعيه الجيش الإسرائيلي من هزيمة للإرهابيين، من المرجح أن يدفع المواطنون الإسرائيليون أيضًا ثمن هذا الهجوم. فمع أنّ استخدام القوّة غير المتناسبة يشكّل سمة أساسية في عقيدة "الردع" العسكرية التي تتّبعها إسرائيل، ما من أدلّة تشير فعليًا إلى أنّ التسبُّب بمعاناة واسعة النطاق في أوساط الفلسطينيين يزيد من أمن الإسرائيليين، سواء في غزة أو في الضفة الغربية. وتأكيدًا على ذلك، في خضمّ عملية جنين، نفّذ فلسطيني من الخليل عملية دهس بالسيارة في تل أبيب أدّت إلى إصابة سبعة إسرائيليين، كما أُطلِقَت رشقات من الصواريخ من غزة. ويوم الخميس في 6 تموز/يوليو، شنّ مسلّح فلسطيني هجومًا انتقاميًا آخر، إذ أطلق النار وقتل جنديًا إسرائيليًا متمركزًا خارج مستوطنة كدوميم، غرب نابلس، قبل أن يُردى قتيلًا.
من جهتها، تتوعّد حركة حماس والجماعات المسلحة الأخرى بتنفيذ المزيد من الهجمات ضدّ الإسرائيليين، ومن شبه المؤكد أنّ إسرائيل ستستغلّ هذه الهجمات لتبرير عمليات عسكرية أوسع نطاقًا. وفي حين أنّ إسرائيل ستبقى قادرة على إلحاق ضرر بالفلسطينيين أشدّ من الضرّر الذي تتعرّض له في المقابل، تشير التجارب التاريخية إلى أنّ محاولات إخضاع الفلسطينيّين بالقوّة ستبوء بالفشل على الأرجح، وهو ما تظهره الانتفاضتان الأولى والثانية وسلسلة التحرّكات الأصغر نطاقًا. لسوء الحظ، قد نشهد المزيد من التصعيد واشتداد أعمال العنف، وربما خسائر أكبر في صفوف الإسرائيليّين، قبل أن يتحرّك القادة الأميركيون والغربيون. وفي غياب أي طرف ثالث يتحلّى بالمسؤولية ويعمل بشكل جدّي على خفض التصعيد، من المرجح أن تسوء الأوضاع قبل أن تتحسّن.
خالد الجندي هو زميل أوّل في معهد الشرق الأوسط ومدير برنامج فلسطين والشؤون الإسرائيلية–الفلسطينية. معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.