الفساد في إيران: أداة استراتيجية في جعبة الجمهورية الإسلامية
مايو 31, 2024
علي أفشاري
ذاعت الأخبار حول الفساد المستشري في الحكومة الإيرانية خلال العقد الماضي، فأضحت بمثابة خبز الإيرانيين اليومي، سواء كشف عنها صحافيون مستقلون أو سرّبتها بشكل دوري مجموعات المصالح المتنافسة داخل الحكومة. حسب مؤشر مُدرَكات الفساد التابع لمنظمة الشفافية الدولية، الذي يقيس مستويات الفساد في القطاع العام بمختلف أنحاء العالم، حلّت إيران في المرتبة 78 (من بين 133 دولة) في عام 2003؛ لكن بحلول عام 2010، هبطت الجمهورية الإسلامية بشكل حاد إلى المرتبة 154 (من أصل 178)، بالتزامن مع زيادة في إيرادات إيران النفطية خلال الفترة نفسها. أمّا في الوقت الراهن، فتحتلّ إيران المرتبة 149. ردًّا على ذلك، أصرّ آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، مرارًا وتكرارًا، على أنّ الفساد قائم ويجب محاربته، لكنّه ما زال عرضيًّا وليس ممنهجًا. غير أنّ الواقع يشير إلى غير ذلك، فالفساد في إيران استراتيجيٌّ وركيزة من ركائز النظام السياسي الحالي؛ وهو أداة توظّفها الاستراتيجية الوطنية وعنصر أساسي للحكم داخل الجمهورية الإسلامية.
العقد الملكي: المحسوبيات وسيلةٌ للسيطرة
كان ملوك إيران على مرّ التاريخ يقايضون الولاء بالامتيازات، فقد استخدموا سيطرتهم على الموارد الرئيسية للبلاد، لا سيما مياه الري، لتوزيع السلطة والثروة على الموالين لهم عبر نظام الهدايا الإقطاعية (أو تيول بالفارسية). أُلغي هذا النظام رسميًّا بعد الثورة الدستورية (1905-1911)، حين فقد النظام الملكي الإيراني سلطته الحصرية على إدارة ثروات البلاد. مع ذلك، وبسبب فشل الدولة الدستورية بعد الثورة، سرعان ما تركّزت السلطة والثروة مجددًا في أيدي الملوك. ومع بروز قطاع النفط في النصف الأول من القرن العشرين، أتيحت للملوك الإيرانيين موارد أكبر بكثير لبناء طبقة داعمة لهم.
بعد الثورة الإسلامية عام 1979، أدخل آية الله روح الله الخميني جانبًا أيديولوجيًّا ثيوقراطيًّا إلى هذه الهيكلية. منذ البداية، اعتبرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية الممتلكات والأصول المملوكة للقطاع العام في البلاد بمثابة "الأنفال"، وهي وفقًا للموقع الرسمي للمرشد الأعلى الإيراني، الموارد "الخاضعة لسيطرة النبي وخلفائه، وفي غيابهم [حتى ظهور إمام الزمان، الإمام الثاني عشر المختفي]، لسيطرة الولي الفقيه [قائد الأمّة الإسلامية]". غير أنّ هذا التعريف يصعّب تعريف الفساد، حيث إنّ موارد المجتمع كلّها توزَّع حسب تقدير المرشد الأعلى.
الخصخصة الزائفة ونشوء القطاع شبه العام
في هذا السياق، تولّى خامنئي، خليفة الخميني، زمام القيادة. وفي أعقاب الحرب الإيرانية العراقية، في أوائل التسعينيات، قرّر هو والرئيس آنذاك، أكبر هاشمي رفسنجاني، التحوّل نحو الليبرالية الاقتصادية. غير أنّهما اعتبرا القطاع "الخاص" المستقل فعلًا تهديدًا متربّصًا بحكمهما. لذلك، اختار خامنئي ورفسنجاني تشجيع أنصارهما، بمن في ذلك العسكريون وضباط المخابرات والتجار المحافظون في سوق طهران التقليدية، على الانخراط في الاستثمار الخاص. (عند انتهاج هذه المقاربة، كانا يدركان أنّ برنامج البيريسترويكا، أي إعادة الهيكلة والإصلاحات الاقتصادية التي أرساها ميخائيل غورباتشوف، لعب دورًا مهمًّا في الأحداث التي أفضت إلى تفكّك الاتّحاد السوفييتي في عام 1991، وربما كانا قلقيْن من ذلك). في ديسمبر/كانون الأول 2005، أعلن خامنئي عن تفسيره الخاص للمبادئ الاقتصادية في الدستور الإيراني، والذي دعا بموجبها إلى توجيه الاقتصاد الإيراني نحو المزيد من الليبرالية والخصخصة.
إلّا أن ما حصل عمليًّا بعيدٌ كل البعد عن التحوّل إلى اقتصاد السوق، إذ نشأ قطاع شبه عامّ اضطلع بالدور الرئيسي في الفساد الذي استشرى في العقود اللاحقة. تألّف هذا القطاع شبه العام من 120 منظمة اقتصادية رئيسية، على غرار هيئة تنفيذ أوامر الإمام الخميني (أو ستاد إجرايي فرمان حضرت إمام بالفارسية)، التي نوّعت عملياتها من قطاع النفط وحتى إنتاج لقاحات مضادة لـ"كوفيد-19". ويخضع هذا القطاع شبه العام كلّه لسيطرة المرشد الأعلى. بما أنّ هذا الجزء من الاقتصاد ليس عامًّا، فهو لا يخضع للرقابة البرلمانية؛ لكنْ لا يمكن وصفه بالقطاع الخاص؛ لأنه يفتقر إلى السمات الرئيسية للقطاع الخاص الحقيقي، مثل الشفافية أو المنافسة أو الإبداع. تُعفى أيضًا المنظمات المعنية من الضرائب ولا تخضع للتدقيق التقليدي من قبل الرئيس أو البرلمان عبر مكتب التفتيش العام أو محكمة التدقيق العليا في إيران. ومع أنّ جهود الخصخصة، تهدف، من حيث المبدأ، إلى تعزيز الشفافية، أدى الإعفاء من الرقابة والتدقيق المستقل في السياق الموصوف أعلاه إلى انعدام الشفافية وزيادة الفساد داخل الاقتصاد الإيراني.
ازدواجية المعايير: محاربة الفساد واستغلاله في الوقت نفسه
أتت استجابة الحكومة لهذا الفساد المستشري على مستويَيْن: من ناحية أولى، وتحت النفوذ المطلق للمرشد الأعلى خامنئي، واصل النظام نهج منح الامتيازات لأنصاره المخلصين، وأعطاهم نوعًا من الحصانة ضدّ اتهامات الفساد من المعارضة والصحافيين. في الوقت نفسه، تمكّن الموالون للنظام من استخدام الدعاية المناهضة للفساد كسلاح لقمع وتهميش شخصيات النهج الإصلاحي في مراكز القوّة. خلال العقود الأخيرة، اتُّهم الكثير من الشخصيات المحافظة البارزة بالفساد، لكنْ لم تؤدِّ أيّ من هذه الاتهامات تقريبًا إلى ملاحقات قضائية. فواجه محمد باقر قاليباف، وهو ضابط عسكري سابق شغل منصب عمدة طهران من عام 2005 إلى عام 2017 وأصبح رئيسًا للبرلمان منذ عام 2020، اتهامات متكررة بالفساد. وفي عام 2017، اتُّهم باستغلال سلطته السياسية وعلاقته بالمرشد الأعلى للتغطية على نحو 2.6 مليار دولار، يُعتقد أنها اختُلست من شركة ياس القابضة، وهي شركة صورية لفيلق الحرس الثوري الإسلامي. في هذه الفترة أيضًا، كشفت تقارير رسمية عن الفساد في القطاع العقاري، سرّبها صحافي مستقل، وذكر فيها أنّ بلدية طهران خصّصت خلال ولاية قاليباف عقارات بـ"أسعار خيالية"، مع تقديم خصم قدره 50٪ لبعض أنصار العمدة. وفي أبريل/نيسان 2022، انتشرت أخبار عن أسلوب الحياة الفاخر والرحلات الباهظة الثمن التي تأخذها عائلة قاليباف. وعلى الرغم من الاهتمام الإعلامي الكبير، لم يتم استدعاؤه إلى المحكمة يومًا، بل تمّ القبض على الصحافي الذي سرّب قضية "العقارات الخيالية"، وأمضى عدة أشهر قيد التحقيق في الحبس الانفرادي. كذلك، سرّب المراسل نفسه، في شباط/فبراير 2024، وثائق جديدة تتعلق بكاظم صديقي، إمام صلاة الجمعة المتطرف في طهران، وتكشف تورّطه في الاستيلاء المزعوم على الأراضي. اعترف صديقي في وقت لاحق بأن أفرادًا مرتبطين به استولوا بشكل غير قانوني على حديقة قيّمة في حيّ مرموق من طهران ونقلوا ملكيتها إلى اسمه، دون علمه على ما يبدو. مع ذلك، أظهرت الوثائق المسربة اللاحقة أنّه وقّع على الوثيقة شخصيًّا. ولم يَمثُل يومًا صديقي أمام القضاء بتهمة ارتكاب جرائم فساد، ويعود ذلك على الأرجح إلى علاقته الوثيقة بمركز السلطة في الجمهورية الإسلامية.
من ناحية أخرى، استغلّ النظام، على مدى عقود، جهود مكافحة الفساد كسلاح ضد الأجنحة الليبرالية والإصلاحية في الحكومة. على سبيل المثال، في عام 1995، استغلّ المحافظون المقرّبون من المرشد الأعلى محاكمة رجل الأعمال فاضل خداداد بتهمة "تخريب النظام الاقتصادي للبلاد"، كوسيلة للضغط على السياسات الاجتماعية والاقتصادية للرئيس الإصلاحي أكبر هاشمي رفسنجاني. تكثّفت هذه الهجمات بعد انتخاب حكومة محمد خاتمي الإصلاحية في عام 1997. أمّا القضية الأكثر شهرة، فهي محاكمة غلام حسين كارباشي بتهمة الفساد. وكان كارباشي عمدة طهران من عام 1990 إلى عام 1998، ودعم الرئيس خاتمي والحركة الإصلاحية ضد المحافظين. ترأس المحاكمة آنذاك القاضي غلام حسين محسني إيجي، أي الرئيس الحالي للسلطة القضائية الإيرانية. وبُثَّت المحاكمة على شاشة التلفزيون الوطني الإيراني، كما ادّعى كارباشي نفسه أنّ المحاكمة وعقوبة السجن اللاحقة كانتا الكلفة السياسية لدفاعه عن الحركة الإصلاحية.
بعد عقدين من الزمن، ما زالت الدعاية السياسية تحت عنوان مكافحة الفساد وسيلة قيد الاستخدام. ففي عام 2019 مثلًا، خلال ولاية حسن روحاني كرئيس إصلاحي ومعتدل نسبيًّا، حُكم على شقيقه بالسجن. واتّخذ القضاء أيضًا إجراءات قانونية بحقّ شقيق إسحاق جهانغيري، وهو نائب الرئيس روحاني. لذا، اعتبر الرأي العام أنّ هذا التبايُن في التعامل مع قضايا الفساد بين المحافظين والإصلاحيين داخل الحكومة هو محاولة لاستغلال جهود مكافحة الفساد ضد إدارة روحاني، خاصة أجندته المعتدلة نسبيًّا في السياسة الخارجية.
سياسة الفساد
فيما اعتمد الخميني على شخصيته الجذابة لقيادة الجماهير الإسلامية خلال الثورة، افتقر خامنئي، خليفته، إلى هذا الدعم، وازداد اتّكاله على النخبة التي أغدق عليها الامتيازات. مع ذلك، فإنّ استدامة الصفقة التأسيسية باتت موضع شكّ لعدّة أسباب؛ ففي السنوات العشر الماضية تقريبًا، فقدت الحكومة قدرتها على الوصول إلى دولارات النفط، جرّاء العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة. واضطر المرشد الأعلى إلى "انتقاء" الشخصيات التي يريد أن يمنحها المحسوبيات والامتيازات؛ لأنّه لم يعد قادرًا على إفادة الجميع. أدى ذلك إلى اشتداد المنافسة بين أنصار الجمهورية الإسلامية. وفي غياب التدفق الحرّ للإيرادات النفطية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قرّرت الحكومة "خصخصة" ما تبقى من الأصول المملوكة للدولة من خلال مبادرة حكومية تسمّى "التنشيط" (أو موفالد سازى بالفارسية).
من اللافت أن اللجنة المكلفة بمبادرة التنشيط مُنحت رسميًّا الحصانة من الملاحقة القضائية. وقد أدّت محاولات الحكومة للحدّ من تأثير العقوبات الأميركية إلى تراجع الشفافية، بما في ذلك زيادة التجارة السرية مع الصين، في إطار برنامج التعاون الإيراني الصيني لمدة 25 عامًا، الموقّع في عام 2021، أو بشكل مستقل عنه. وقد يشكّل هذا التطوّر مصدرًا جديدًا للفساد.
يظهر تناقضٌ متأصلٌ بين الدعاية الحكومية، التي تؤكّد على القيم الإسلامية؛ مثل الإيثار والزهد والاقتصاد في الإنفاق من جهة، وبين الاحتيال والاستغلال المستمرّ والمستشري في قلب النظام من جهة أخرى. وأفضى هذا التناقض إلى انكماش شديد في القاعدة الداعمة للنظام، فضلًا عن تضاؤل الشعبية المحدودة أساسًا للمسؤولين والسياسيين في الجمهورية الإسلامية. في هذا السياق، يأتي كخير دليل على ذلك انخفاض حصة قاليباف، عمدة طهران السابق المحافظ، من الأصوات في الانتخابات الأخيرة لمجلس الشورى الإسلامي، إلى أقلّ من 10٪ من الناخبين المؤهلين. كذلك، في انتخابات مجلس خبراء القيادة (أو مجلس خبرگان رهبری بالفارسية)، احتلّ رئيس السلطة القضائية السابق صادق لاريجاني المرتبة الخامسة من بين خمسة مرشحين في مسقط رأسه. ويُشار أيضًا إلى أنّ محمد مخبر، الذي يشغل الآن منصب الرئيس بالإنابة بعد الوفاة المفاجئة للرئيس إبراهيم رئيسي، في وقت سابق من هذا الشهر، قد تلطّخت سمعته كذلك بتهم الفساد.
إذًا، الفساد في إيران ليس صدفةً أو ظاهرة عرضيةً، بل هو محبوك في نسيج النظام السياسي الإيراني. لقد أصبحت الخصخصة الزائفة الجارية منذ عام 2005 أداة استراتيجية للحكم في دولة ريعية، مثلما جُنّد الفساد الممنهج الشامل لخدمة الاستبداد في إيران. مع ذلك، يخيّم الغموض على مستقبل هذا النظام الذي قد يواجه تحديات جديدة في السنوات المقبلة. فالفراغ المحتمل في السلطة بعد وفاة خامنئي أو عدم قدرة النظام على الاستمرار في توزيع الامتيازات على النخب المختارة بشكل مقبول، قد يسهم في انهياره بفعل مَواطن ضعفه وقصوره. وحدها الأيام ستكشف ما إذا كان النظام سيحاول في نهاية المطاف معالجة هذه التحديات المحدقة به، عبر إصلاحات حقيقية، أو سيستمرّ في دوّامة الوضع الراهن المدمّر اجتماعيًّا واقتصاديًّا.
علي أفشاري محللٌ سياسي إيراني وناشط مؤيد للديمقراطية، وزعيم طلابي سابق وعضو في اللجنة المركزية لمكتب تعزيز الوحدة، وهي المنظمة الطلابية الأبرز والأكبر في الجامعات الإيرانية خلال الحقبة الإصلاحية.
معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.