الحرب في غزة: اختبار صعب لدبلوماسية السلام الصينية في الشرق الأوسط
أكتوبر 19, 2023جون كالابريسي
جون كالابريسي
لطالما سوّقت الصين لنفسها على أنّها جهة فاعلة "محايدة" وقوّة تسعى إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط ومناطق أخرى حول العالم، معبّرةً عن استعدادها وقدرتها على التحدّث إلى "جميع الأطراف". وجاءت الانفراجة في العلاقات بين الرياض وطهران بوساطة صينيّة في آذار/مارس الماضي لتعكس طموح بكين المتزايد في أن تُصبِح قوّة لصنع السلام وقدرتها على التأثير في الأحداث الإقليمية. لكنّ الحرب الدائرة حاليًا بين إسرائيل وحركة "حماس" لا توفّر قطوفًا دانيةً من هذا النوع. بل على العكس، تشكّل هذه الحرب اختبارًا صعبًا لدبلوماسيّة السلام الصينيّة في الشرق الأوسط – وتوفّر في الوقت نفسه فرصة لنا لإعادة النظر في افتراضاتنا الخاطئة ربما.
أظهرت المساعي الدبلوماسية التي بذلتها الصين لتحسين العلاقات بين السعودية وإيران رغبة بكين في تعظيم دورها السياسي، وقدرتها على الاستفادة من علاقاتها بطرفَيْ هذا النزاع الإقليمي، كاشفةً في الوقت نفسه حدود القوّة الأمريكية المهيمنة في المنطقة، نظرًا إلى علاقة واشنطن المتوتّرة بإيران. ودلّت تلك المساعي أيضًا على تحوّل كبير في دور بكين، الذي لم يعُد محصورًا بكونها شريكًا اقتصاديًّا، بل تعدّى ذلك للمساهمة في حلّ المشاكل الأمنيّة. وفي حين لقيَ هذا التحوّل ترحيبًا من دول المنطقة ورفعَ على الأرجح من مستوى التوقعات الإقليمية، اعتُبِر تحدّيًا جدّيًّا لهيمنة الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط في دوائر صنع السياسات في واشنطن.
إلا أنّ الانطباعات الأولى عن الموقف الصيني المبكِّر من اندلاع الحرب بين إسرائيل و"حماس" قد تُقدَّم على شكل سرديّات كبرى واستنتاجات مُعلَّبة مشكوك في صوابيّتها، وهي في أقلّ تقدير سابقة لأوانها. فهل "اختارت الصين طرفًا" لدعمه على حساب الآخر في النزاع بين إسرائيل و"حماس"؟ هل تؤدي الحرب إلى "قلب موازين القوة العالمية لصالح روسيا والصين"؟ أو هل تعود الصين إلى نهجها التقليدي، أقلّه في هذه المرحلة المبكرة من النزاع – بحيث تخفّف من الطابع الصريح والمُعلَن لدعمها للجانب الفلسطيني، نظرًا إلى أنّ تصميمها وقدرتها على استغلال الحرب لـ"قلب" موازين القوة العالمية ضدّ الغرب أضعف مما قد يتصوّره البعض؟
"الموقف المحايد"
بعد الاجتماع الذي عُقِد يوم الجمعة الماضي في بكين مع الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، صرّح وزير الخارجية الصيني وانغ يي بأنّ سبب النزاع بين إسرائيل و"حماس" هو "الظلم التاريخي" بحقّ الفلسطينيّين، مشدِّدًا على أنّ "أصل المشكلة يكمن في المماطلة في تحقيق تطلّعات الفلسطينيّين لإقامة دولة مستقلّة، وفي أنّ الظلم التاريخي الذي تعرَّض له الشعب الفلسطيني لم يُصحَّح بعد". هذا التشخيص، المُصاغ بدقّة لتفادي إلقاء اللوم على أيّ من الطرفَيْن، مع التعبير عن التعاطف مع القضية الفلسطينيّة ودعمها، يتوافق مع تصريحات المسؤولين الصينيّين الرفيعي المستوى الآخرين على مرّ السنين في ما يتعلّق بالنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، كما ومع تصريحات الكثير من نظرائهم الغربيّين. لطالما تبنّت الصين "موقفًا محايدًا" تجاه القضايا من هذا النوع – وهي لم تحِد عن نهجها التقليدي هذا في النزاع الدائر حاليًا.
حتى إنّ بكين أعلنت أنّها تشعر "بالحزن الشديد إزاء الأعداد الكبيرة من الضحايا المدنييّن" وأنها "تدين جميع الأفعال التي تُلحِق الضرر بالمدنيّين"، كما دعت فلسطين وإسرائيل إلى اعتماد حلّ الدولتَيْن "في أقرب وقتٍ ممكن". وقد أجرى المبعوث الصيني الخاص للشرق الأوسط تشاي جون اتصالاتٍ بنظرائه الفلسطيني والإسرائيلي والمصري، مُشدِّدًا على موقف الصين الرسمي. ومع أنّ امتناع الصين عن إدانة الهجمات ضدّ إسرائيل بشكل قاطع أو التنديد بـ"حماس" باعتبارها منظّمة إرهابية هو موقف مُستهجَن أخلاقيًّا، إلا أنه ليس مفاجئًا، ومن الطبيعي إذًا أن تعبِّر إسرائيل عن "خيبتها الشديدة" إزاء ذلك. فمطالبة المسؤولين الصينيّين بـ"وقف فوري لإطلاق النار" وتعهّدهم بـ"بذل جهود حثيثة من أجل تحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط" يندرجان ضمن إطار السياسة المُعلنة لبكين.
قيادة الجهود الدبلوماسيّة من خلف الكواليس
في مقابلة بتاريخ 15 تشرين الأول/أكتوبر مع تلفزيون الصين المركزي، قال تشاي إنّ الأمم المتّحدة "تضطلع بدورٍ مهمّ ولا غنى عنه" في المسألة الفلسطينيّة؛ وأضاف المبعوث الصيني الخاص أيضًا أنّ بكين "ستدعم الأمم المتّحدة في تولّي زمام القيادة". وفي البيان الذي صدر في اليوم التالي حول اللقاء الذي عقده وزير الخارجية الصيني وانغ يي مع نظيره الروسي سيرغي لافروف لتبادُل وجهات النظر، ورد على لسان الدبلوماسي الصيني أنه "من الضروري أن يتحرّك مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة وأن تلعب الدول الكبرى دورًا فاعِلًا. فهناك حاجة ملحّة لوقف إطلاق النار ووقف الحرب، وإعادة طرفَي النزاع إلى طاولة المفاوضات، وإنشاء ممرّات للمساعدات الإنسانية الطارئة لتفادي المزيد من الكوارث الإنسانية الخطيرة. السبيل الأمثَل لمعالجة النزاع هو عبر تفعيل حلّ الدولتَيْن في أقرب وقتٍ ممكن للتوصّل إلى توافق أوسع ووضع جدول زمني وخارطة طريق لاستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني".
في اليوم نفسه، صوّتت الصين لصالح مشروع قرار روسي في مجلس الأمن. وطالب مشروع القرار، الذي سقط في التصويت، بوقف إنساني لإطلاق النار في غزّة من دون أن يأتي على ذكر "حماس". وفي خطوة شبيهة بمواقفها خلال الحرب الأهلية السورية، أيّدت الصين الموقف الروسي، ولكن من دون أن تُمسِك بزمام المبادرة الدبلوماسية بنفسها. من جهته، حمّل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال مشاركته في الدورة الثالثة لمنتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي، الولايات المتّحدة مسؤولية تفاقُم التوتّرات في الشرق الأوسط نتيجة إرسال سفنها الحربية إلى المنطقة. لكنّ الرئيس الصيني شي جين بينغ امتنع عن الإدلاء بتصريحات علنيّة مماثلة، بالرغم من أنّ القيادة الصينيّة لم توفّر فرصة في السنوات الأخيرة لتصوير الولايات المتّحدة على أنّها قوّة منحازة تسعى إلى الهيمنة وساهمت سياساتها في زرع بذور الفوضى في الشرق الأوسط.
مصالح أمريكية وصينيّة متقاطعة... إلى حين
تخوض واشنطن وبكين منافسة شرسة على صعيد التجارة والتكنولوجيا ووضع تايوان. وفي حين تشير أدلّة كثيرة إلى أنّ التنافُس الأمريكي-الصيني قد انتقلَ إلى الشرق الأوسط، تبقى لكلّ من البلدَيْن مصلحة مشتركة في الحفاظ على استقرار المنطقة – وخاصة في تفادي حرب إقليمية أوسع نطاقًا في الوقت الحاضر. خلال زيارته إلى السعودية، أجرى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن اتصالًا هاتفيًّا لمدّة ساعة مع نظيره الصيني وانغ يي. وأشارت التقارير إلى أنّ بلينكن دعا الصين إلى استخدام نفوذها لثني "أطراف أخرى" عن الانخراط في النزاع.
تستورد الصين نصف نفطها من الشرق الأوسط. ونتيجة الحرب الدائرة، تشهد أسواق النفط تقلّبات كبيرة، حيث دفعت التوتّرات سعر برميل النفط إلى أكثر من 90 دولارًا أمريكيًّا. ومن المرجّح أن ترتفع الأسعار أكثر إثر الغزو الإسرائيلي البرّي المتوقّع لقطاع غزّة، ناهيك عن احتمال اتّساع رقعة النزاع. صحيح أنّ مخزون النفط الخام الكبير الذي راكمته الصين على مدى الأشهر الماضية قد يحميها من بعض المخاطر على مستوى الإمدادات والأسعار، لكنّ ذلك لن يدوم طويلًا. ومع أنّ العلاقات الوثيقة التي تبنيها الصين في الشرق الأوسط قد تزيد من نفوذها في المنطقة، إلا أنّها لم تحدّ بشكل كبير من نقاط ضعفها على مستوى الأمن الطاقوي. وبمعزل عن النفط، ازدادت أيضًا درجة تأثُّر الصين بالنزاعات الإقليمية نتيجة تنامي مصالحها في الشرق الأوسط.
سقف الطموحات الدبلوماسية الصينية
في شهر حزيران/يونيو الماضي، التقى الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس بالرئيس الصيني شي جين بينغ في بكين. وفي بيان صدر بعد اللقاء، تعهّدت الصين بـ"مواصلة دعم المسار الصحيح لمحادثات السلام، والاستفادة من حكمة الصين وقوّتها لحلّ المسألة الفلسطينيّة". واقترح وزير الخارجية الصيني آنذاك تشين غانغ المساهمة في الحلّ من خلال "الحكمة الصينية". إلا أنّ محادثات السلام وصلت إلى طريق مسدود، وهي تبدو الآن صعبة المنال. كذلك، فإنّ الحكمة وحدها لا تكفي للتعامل مع الظرف الراهن. في المقابل، تشكّل جولات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الدبلوماسية المكوكية وزيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إسرائيل دليلًا قاطعًا على عزم واشنطن على الارتقاء إلى مستوى الحدث – إذ تُبدي دعمها الكامل لإسرائيل وتحثّها في الوقت عينه على ضبط النفس، كما تسهّل تدفّق المساعدات الإنسانية إلى غزّة لتجنّب كارثة إنسانية واتّساق رقعة الحرب. ولكنْ، يبقى احتمال فشل هذه المساعي الدبلوماسية وارِدًا.
خلال حفل توقيع البيان المشترك الذي يقضي باستئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران بوساطة صينيّة في شهر آذار/مارس المنصرم، أكّد وزير الخارجية الصيني وانغ يي أنّ "الصين ستواصل أداء دورٍ بنّاء في معالجة المسائل الشائكة حول العالم والتصرُّف بمسؤولية بصفتها دولة كبرى". الأيام المقبلة ستكشف ما إذا كانت بكين ستتّخذ خطوات ملموسة لتسهيل التوصّل إلى وقف لإطلاق النار، وتستخدم نفوذها لثني "أطراف أخرى" عن الانخراط في النزاع، وتساعد في وصول المساعدات الإنسانية وتوفير الإغاثة، وتنضمّ في نهاية المطاف إلى الجهات الفاعلة الأساسية الأخرى، بما في ذلك الأمم المتّحدة، لإعادة إعمار قطاع غزّة وإدارته بعد الحرب. لكنّ الحرب بين إسرائيل و"حماس" قد تطرح تحدّيات تعجز بكين عن تذليلها.
يدرِّس د. جون كالابريسي مادة السياسة الخارجية للولايات المتّحدة في الجامعة الأمريكية في واشنطن العاصِمة، وهو زميل أوّل في معهد الشرق الأوسط ومحرّر قسم مراجعة الكتب في مجلّة الشرق الأوسط، وشغل سابقًا منصب مدير برنامج الشرق الأوسط وآسيا في المعهد.
حقوق الصورة: كيلاي شين / "بلومبرغ" بواسطة صور "غيتي"
معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.