التشاؤم الديمقراطي في تونس
سبتمبر 28, 2023فاضل علي رضا
فاضل علي رضا
بالنظر لكل المؤشرات، فإن نظام الحكم الحالي في تونس مستمر في الابتعاد أكثر وأكثر عن الشكل الديمقراطي الليبرالي الذي وضعه دستور 2014. هذا صحيح بشكل خاص في فترة ما بعد 25 يوليو/تموز 2021، بعد أن علق الرئيس قيس سعيد البرلمان، وتولى السلطة التنفيذية والتشريعية بصورة كاملة. ومع ذلك، فإن التحليلات التي تركز فقط على سعيد، تُغفل بعض الاتجاهات الاجتماعية والسياسية الأوسع التي كانت ترفض بالفعل الطريقة التي تم بها "التحول الديمقراطي" في تونس بعد عام 2011. كما تُغفل هذه التحليلات مجموعة المصالح التي تلاقت للحفاظ على النظام الحالي، ولا سيما بين قوات الأمن وبعض وسائل الإعلام المُتملقة والشخصيات الرئيسية في قطاعات السياسة والأعمال والخدمة المدنية.
قبل تركيز سعيد للسلطة في يده، كان هناك انقسام متزايد داخل السلطة التنفيذية، وبين مؤسسات الدولة، وداخل الأحزاب السياسية وفيما بينها، وداخل المجتمع المدني، وحتى بين مناطق البلاد. في حين أن النموذج المعياري للديمقراطية الليبرالية يفترض أن التنافس على السلطة والتدافع والضوابط والتوازنات فيما يتعلق بالسلطة يؤدي، بصورة حتمية، إلي نظام حكم مستقر وشرعي نسبيًا، لكن الانقسام الذي حدث في كل مستوى من مستويات المجتمع التونسي تقريبًا أدى إلى القليل من الاستقرار أو الشرعية، وشهدت تونس بدلاً من ذلك ركودًا فيما يتعلق بالتنمية، وعدم وجود مشروع وطني متماسك. منذ عام 2011، كان هناك تسعة رؤساء وزراء، وحتى المزيد من التعديلات الوزارية، والعديد من الكتل البرلمانية التي تشكلت وتم حلها وأعادت تجميع نفسها، بالتوازي مع تشكيلات حزبية متغيرة باستمرار - كل ذلك بينما انخفض الإنفاق على الخدمات العامة المنهارة بشدة في التعليم والنقل والصحة في الواقع (أي نسب التضخم ومعدل الصرف المعدلة). مع هذا التقلب السياسي والافتقار لرؤية متماسكة للتنمية، لم تكن مؤسسات الدولة قادرة أو راغبة في اتخاذ قرارات جريئة، ولكنها ضرورية، بشأن الإنفاق، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد بشكل مُطرد كل عام من 4399 دولارًا في عام 2014 إلى 3498 دولارًا في عام 2020.
كان هذا هو الفراغ الذي جعل تركيز سعيد للسلطة (أو بدلاً من ذلك، مركزية السلطة التي اقترحتها عبير موسي التي كانت تتمتع بشعبية متزايدة في ذلك الوقت) جاذبة لأعداد كبيرة من التونسيين. وقد تفاقم هذا بسبب حقيقة أن المنافسة والتدافع في تونس ما بعد 2011 لم تقتصر على الفاعلين المحليين فقط، فقد لعبت المؤسسات المالية الدولية والدول الأجنبية أدوارًا حيوية في الحفاظ على تمويل أنشطة الحكومة والمجتمع المدني في تونس - يرتبط التمويل صراحةً بخيارات السياسة التي غالبًا ما يعارضها الجمهور العام. على سبيل المثال، جاءت المساعدة المالية الكلية من جانب الاتحاد الأوروبي بشروط صريحة بشأن سياسة الطاقة التونسية والتوظيف العام التي كانت في عكس اتجاه الاحتجاجات الشعبية بشأن تكاليف المعيشة وسياسات التوظيف العامة. كانت إجراءات التقشف غير الشعبية هذه أيضًا من بين شروط برامج قروض صندوق النقد الدولي منذ عام 2013. فقد جاءت قروض البنك الدولي، التي خصصت مئات الملايين من الدولارات للحكومات المحلية في تونس منذ عام 2015 بنموذج تنموي للامركزية يتعارض مع تلك النماذج التي طرحها النشطاء المحليين.
لكي نكون واضحين، لم تفقد الديمقراطية نفسها شعبيتها في تونس- ففي استطلاع رأي الباروميتر العربي في خريف 2021، ما يزال 72٪ من التونسيين يفضلون الديمقراطية على أي نظام آخر. لكن نفس الاستطلاع وجد أيضًا أن عددًا كبيرًا من المستجيبين يعتقدون أن النظام يحتاج إلى "استبداله" بالكامل بدلاً من "إصلاحه". هذا التناقض الظاهري - يفضل التونسيون الديمقراطية، ولكنهم يريدون استبدال النظام - مفتوح لتفسيرات متعددة. ومع ذلك، من الواضح أن العديد من التونسيين لا يعتقدون أن "ديمقراطيتهم" كانت في الواقع ديمقراطية للغاية حتى قبل أن يحل الرئيس سعيد البرلمان.
إجماع ما بعد 2011
استفادت، إلى حد كبير، نخبة سياسية جديدة من ثمار عام 2011: رجال الأعمال الذين كانت الأسرة الحاكمة و/أو مؤسسات الدولة القوية تشكل عقبة أمام تحقيقهم أرباح أكبر، وكذلك استفاد نشطاء حقوق الإنسان وقادة الأحزاب السياسية المضطهدة الذين ناضلوا لعقود ضد النظام الذي أداره زين العابدين بن علي. انضمت العديد من هذه الشخصيات إلى الحياة السياسية، وفازوا بمناصب رؤساء مؤسسات رئيسية في الدولة أو كأعضاء في البرلمان. في المقابل، فإن الجماهير الذين لم تتصدر "مقاومتهم اليومية" للنظام عناوين الأخبار الرئيسية أو تُكسبهم لقب "المعارض" لم يفوزوا بمناصب في السلطة في نظام ما بعد 2011: مشجعو كرة القدم الذين واجهوا قمع الشرطة؛ المشاركون في ثورة منطقة التعدين في قفصة عام 2008 ضد نموذج التنمية الاستغلالي المميت (دراسة انتفاضات 2010-2011)؛ الطلاب النقابيون الذين يناضلون لاستعادة الجامعات التي أصبحت أدوات النظام القمعية والتأديبية؛ العمال الذين، في زخم 2011، طردوا الإدارات القديمة، واختاروا خطط الإدارة الذاتيةالخاصة بهم أو التي أسسوها؛ الفلاحون الذين استردوا أراضيهم التي أخذتها الدولة منهم.
لعبت هذه الجهات الفاعلة ونضالاتها أدوارًا مهمة في إسقاط النظام السابق، ومع ذلك غالبًا ما تم تهميشهم من قبل الفاعلين السياسيين في فترة ما بعد 2011، بما في ذلك الرئيس سعيد على الرغم من خطابه المبدئي المؤيد للثورة. بدا النظام الديمقراطي التمثيلي الليبرالي مع انتخابات حرة ونزيهة ودستور جديد على أنه فشل في حل - أو حتى أدى إلى تفاقم - المشكلات الملحة التي يعاني منها عامة الناس. فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والشرطة وعدم العدالة بين أقاليم البلاد والفساد، فإن القضايا القليلة التي وجد "ممثلو الشعب" في البرلمان أي إجماع بشأنها كانت إما عرضية أو متناقضة مع مطالب "الشعب". ومن المفارقات أن عدم وجود إجماع برلماني على تعيين محكمة دستورية سهّل تعليق سعيد - بلا رقابة - للبرلمان في 25 يوليو/تموز 2021. وللمفارقة، إن الإجماع البرلماني على قانون جديد لمكافحة الإرهاب يوفر حجة قانونية للموجة الحالية من اعتقال البرلمانيين السابقين. وفي حين أن بعض المحللين شخّصوا في وقت مبكر جدًا هذا البحث عن الإجماع بين النخب على أنه يأتي على حساب القضايا الاجتماعية، فضّل العديد من المحللين التمسك بسردية مثالية عن استثنائية الديمقراطية التونسية في المنطقة.
النظام الجديد
خلال ما يقرب من عامين منذ أن بدأ سعيد تركيز السلطة في يده، أثار أسلوب حكمه والقمع الشرطي والقضائي المتزايد للسياسيين والصحفيين إدانات كبيرة من جماعات حقوق الإنسان ودعاة الديمقراطية. في الوقت نفسه، فقد العديد من أنصار سعيد الثقة في قدرته على استبدال النظام بطريقة مختلفة تمامًا عما حدث من قبل. في حين أن دستور سعيد "الرئاسي بشكل كبير" الجديد يتضمن مساحة لهيئة تشريعية ذات سلطات أقل بشكل كبير، فإن معدلات المشاركة المنخفضة للغاية في المشاورات عبر الإنترنت حول الدستور والاستفتاء على الدستور وانتخابات الهيئة التشريعية الجديدة تشير إلى وجود ثقة قليلة لدى الجمهور بأن هذه التغييرات التشريعية ستحقق أي شيء إيجابي - أو أن التصويت سيكون له أي تأثير على الحكومة. يمكن تفسير هذا الأخير على أنه اعتراف بأن العديد من الناس لم يعودوا يعتقدون أن لديهم أي سلطة على حكومتهم، وهو ما يعد انعكاسًا شديد التشاؤم على حالة الديمقراطية.
ومع ذلك، وعلى الرغم من تركيز السلطات والصلاحيات في يد السلطة التنفيذية، أو بالأحرى بسببها، فإن الانقسام القائم داخل المجتمع التونسي آخذ في الازدياد، ويشمل ذلك الارتفاع المذهل في أعمال العنف العنصري ضد الأفارقة التي يغذيها سعيد وأنصاره، الأمر الذي أثار في حد ذاته استقطابًا حادًا. كما يواصل أنصار سعيد تشجيع اعتقال السياسيين المعارضين، بغض النظر عن الافتقار الصارخ للإجراءات القانونية الواجب منحها للمشتبه بهم. مثال آخر هو أن الأقلية التي صوتت لصالح دستور سعيد الجديد صوتت بالإجماع تقريبًا: 95٪ لصالحه. هذا الرقم مشابه للأرقام التي استخدمها بن علي ورؤساء الملكيات المماثلة في البلدان الأخرى للفوز في انتخابات لم تكن حرة ولا نزيهة. في ظل هذه الأنظمة، لم يتم التعامل مع التصويت على أنه ممارسة للتنافس على السلطة، ولكن كمجموعة مصالح صغيرة تمد سلطتها على بقية المجتمع وتتقاسم المكاسب من خلال الآلة السياسية. لقد حدث التنافس على السلطة، رغم أنه تم قمعه بشدة، وغالبًا بعيدًا عن الأنظار، في أماكن أخرى: داخل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم، وداخل مؤسسات الدولة، وداخل النقابات أو من قبل النقابيين ضد أرباب العمل والمسؤولين، وفي ملاعب كرة القدم، وفي نهاية حكم بن علي، حدث التنافس على شبكة الإنترنت على المواقع المحجوبة من قبل الحكومة.
حتى وقت قريب، كان على سعيد أن يفعل القليل، نسبيًا، لقمع المعارضة السياسية لأنهم ظلوا بلا شعبية إلى حد كبير. الآن، على الرغم من أن المعارضة لا تزال بلا شعبية، يبدو أنها تعمل معًا بشكل أفضل مما كانت عليه في صيف عام 2021، أو على الأقل، تمنحهم وسائل الإعلام، التي تجاهلتهم فيما سبق، مزيدًا من الاهتمام، حيث تشعر المؤسسات الإعلامية نفسها بأنها مهددة أكثر بالقمع. والأهم من ذلك، جاءت الاعتقالات الأخيرة لشخصيات سياسية بارزة مع اتهامات من قبل السلطات بأن المتهمين كانوا يتآمرون مع دبلوماسيين أجانب ضد أمن الدولة. بغض النظر عن الجدارة النسبية لهذه الاتهامات، أو عدم وجود أساس لها، فإنها تعكس اهتمام الرئيس سعيد الشديد بالتهديدات المتصورة لمشروعه السياسي.
بدون سلطة تنظيمية أخرى، مثل حزب يمكن الاعتماد عليه، يعتمد الرئيس سعيد، بشكل كبير، على قوات الأمن لتنفيذ أوامره، والمعلومات التي يتلقاها، مما يعني أنه بالرغم من تركيز السلطة بشكل كبير، فإن الرئاسة أيضًا تظل في عزلة. بدوره، أدى هذا الاعتماد إلى زيادة تمكين قوات الأمن، التي أفلتت منذ عام 2011 من السيطرة المدنية أو المساءلة القضائية، فيما يرقى إلى مستوى الإفلات من العقاب. مع وجود قيود أقل على سلطاتهم، من المحتمل أن تمثل موجات القمع الأخيرة، إلى حد ما، تصفية حسابات من قبل بعض الفصائل داخل قطاع الأمن. مع استمرار تركيز السلطة التنفيذية داخل الرئاسة وقوات الأمن (وهو اتجاه مماثل لبعض السوابق منذ عام 2015)، فإن الفاعلين السياسيين الآخرين في مجال الأعمال والإعلام والخدمة المدنية سوف يتطلعون بشكل متزايد إلى هذه المؤسسات للتمتع بما تقدمه من خدمات أو للحفاظ على مواقع القوة الخاصة بهم، وبالتالي تعزيز هذا الاتجاه. وفي الوقت نفسه، فإن قدرة القضاء على مساءلة السلطة التنفيذية تتضاءل أكثر، حيث إن سلطات الرئيس الجديدة لفصل القضاة تلقي بثقلها على أولئك الذين يجب أن ينظروا القضايا التي أدلى فيها الرئيس سعيد بتصريحات عامة تتضمن اتهامات قوية وأحكام مسبقة بشأن المتهمين.
تشير كل هذه الاتجاهات إلى استمرار تفكك قوة الأفراد العاديين في توجيه أو تغيير أو حتى التأثير على كيفية حكمهم من خلال آليات أو منظمات رسمية. إذا كانت سلطة الناس ستتدخل في تشكيل السياسات، فسوف تأتي من خلال وسائل غير رسمية. ولكن بسبب القمع المتزايد، فإن الظروف الأكثر خطورة التي تؤثر على صحة الناس وسبل عيشهم من المرجح أن تخترق ما قد يكون جدارًا جديدًا من الخوف. في حين وجد استطلاع الباروميتر العربي أن 72٪ من التونسيين ما يزالوا يفضلون الديمقراطية على أي نظام آخر، قالت نسبة أكبر - 76٪ - إنهم يتفقون بقوة، أو إلى حد ما، مع الرأي القائل بأنه طالما أن الحكومة تحل مشاكل البلاد الاقتصادية، فإنه لا يهم نوع الحكومة القائمة في السلطة.
فاضل علي رضا هو مؤسس ورئيس تحرير موقع مشكال، وهو موقع إخباري مستقل باللغتين الإنجليزية والعربية يغطي أخبار تونس، وهو باحث غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الساحل في معهد الشرق الأوسط.
تصوير ياسين غيدي/وكالة الأناضول/جيتي إيماجيز
معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.