MEI

التجمع المضطرب لأبناء إبراهام

أبريل 15, 2023

بول سالم


في منطقة أدت فيها الاختلافات الدينية والطائفية إلى العنف والعداوة لعقود من الزمن، هل تُبشر هذه التطورات بتحول جوهري نحو السلام والتعايش، أم هي مجرد محاولة زائفة للتغطية على الصراع المستمر؟ يجب على القادة السياسيين والدينيين والمدنيين في المنطقة اغتنام هذا الزخم لتعزيز السيناريو الأول.
مشاركة

يتصادف مجيء عيد القيامة وشهر رمضان وعيد الفصح اليهودي هذا العام، وهي ظاهرة لا تحدث إلا بضع مرات في القرن. يأتي تصادف هذه الأيام المقدسة اليهودية والإسلامية والمسيحية في وقت يقدم فيه الحوار بين الأديان الثلاثة بصيص أمل لمنطقة الشرق الأوسط التي تمزقها الصراعات. في الشهر الماضي، افتتحت أبوظبي بيت العائلة الإبراهيمية، والذي يتواجد فيه كنيسة ومسجد وكنيس جنبًا إلى جنب، وفي عام 2019 استضافت أبوظبي البابا فرنسيس والإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب، اللذين وقعا وثيقة الأخوة الإنسانية. أدت اتفاقيات إبراهام إلى التطبيع بين إسرائيل وأربع دول عربية في عام 2020، وقد تنضم إليها دول رئيسية أخرى في المستقبل القريب. كما اتفق الخصمان الطائفيان، السعودية وإيران، على تطبيع العلاقات قبل أسابيع قليلة فقط.

في منطقة أدت فيها الاختلافات الدينية والطائفية إلى العنف والعداوة لعقود من الزمن، هل تُبشر هذه التطورات بتحول جوهري نحو السلام والتعايش، أم هي مجرد محاولة زائفة للتغطية على الصراع المستمر؟ يجب على القادة السياسيين والدينيين والمدنيين في المنطقة اغتنام هذا الزخم لتعزيز السيناريو الأول.

تراوح دور الدين في السياسة في الشرق الأوسط بين الانحسار والتوسع، وكذلك كانت العلاقات بين مختلف الجماعات الدينية والطائفية في المنطقة. على مدى القرنين الماضيين، أدى الصعود القوي للرؤى العلمانية والعلمية، التي أحدثها عصر التنوير والثورة الصناعية والاستعمار والقومية إلى فرض تحديات على الديانات الإبراهيمية الثلاثة. تواجدت الحركات القومية العلمانية في أنحاء الشرق الأوسط طوال القرن العشرين. واعتقد العديد من العلمانيين أن دور وقوة الدين سيختفيا تدريجياً في العالم الحديث.

في عام 1924، ألغى الزعيم التركي العلماني مصطفى كمال أتاتورك الخلافة، وظهر القادة القوميون العلمانيون في تركيا ومصر والعراق وسوريا وأماكن أخرى. لقد وسعوا نطاق الدولة العلمانية، إلى حد كبير، في المجتمع والتعليم، مما أضعف سيطرة النخب والمؤسسات الدينية. لقد اجتمع المسلمون والمسيحيون - واليهود حتى عام 1948 - في العالم العربي لبناء حركات سياسية علمانية جديدة: قومية واشتراكية وشيوعية. حتى إن إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948، أطلق العنان لصراع – تم خوضه إلى حد كبير، في الفترة من الخمسينيات إلى السبعينيات، بمصطلحات قومية: القوميون العرب والفلسطينيون مقابل القوميين الصهاينة الإسرائيليين. هذه الحقبة شبه العلمانية همشت القوة السياسية للدين - لفترة - لكنها لم تجلب السلام، لقد استبدلت شكلاً من أشكال الصراع بآخر.

انحسر المد العلماني في المنطقة بشكل حاسم في السبعينيات. لقد تحطمت الحركات القومية العلمانية في جميع أنحاء العالم العربي بسبب هزيمتها المُريعة على يد إسرائيل عام 1967، فضلاً عن فشلها في تحقيق الازدهار الاقتصادي والسياسي في الداخل، أو الوحدة والنصر في الخارج. أدت أزمة الطاقة الناجمة عن رد الفعل السعودي على الحرب العربية-الإسرائيلية عام 1973 إلى ارتفاع تاريخي في أسعار النفط، وتحول ميزان الثروة والسلطة من مصر والشام نحو المملكة العربية السعودية، الأكثر ارتباطًا بالدين، والتي تتسم بالمحافظة، وجيرانها من دول الخليج العربية. شهدت إيران، التي حققت سيولة نقدية كبيرة من الطفرة في أسعار النفط، سقوط الشاه وصعود الجمهورية الإسلامية في عام 1979. وقد أقنع الغزو السوفيتي لأفغانستان في نفس العام الولايات المتحدة والسعودية وباكستان بتسليح وتدريب السنة المتطرفين لمحاربة التهديد السوفياتي. وضاعف آل سعود، الذين واجهوا تحديًا إسلاميًا من إيران، وهجوم المتطرفين السنة على الحرم المكي عام 1979، جهودهم لدعم وتمويل المؤسسات والحركات الإسلامية السنية كوسيلة لتعزيز شرعيتهم. بالفعل، بحلول التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم يتبق سوى القليل من شرق أوسط الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث بدا الدين كقوة مستهلكة، وحددت الحركات القومية واليسارية العلمانية المشهد السياسي والميليشياوي.

بحلول عام 2000، لحقت الموجة الدينية بمكان مولد العلمانية في الشرق الأوسط، تركيا، حيث هيمن رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الديني المحافظ على السياسة التركية. في إسرائيل، أصبحت الأمة التي تم بناؤها في الأصل بواسطة، وهيمن عليها، القوميون اليهود العلمانيون بقوة، تواجه تحديًا متزايدًا من قِبَل المتعصبين الدينيين والمتطرفين – وهي الجماعات التي تهيمن الآن على الحكومة الحالية تقريبًا. خلال الانتفاضات العربية، التي بدأت في أواخر عام 2010، واجهت الجماعات العلمانية-الليبرالية واليسارية والقومية - الجماعات الإسلامية، وكان للأخيرة اليد العليا بشكل عام، سواء في الانتخابات أو في فوضى الحرب الأهلية. كما أثار الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في عام 2003 بحد ذاته موجة من الاستقطاب الطائفي، حيث تقاتلت الجماعات السنية والشيعية من أجل السيادة.

بالنسبة للمسيحيين في الشرق الأوسط، كانت العقود القليلة الماضية كارثة لا يمكن التخفيف من حدتها. أدى تراجع الحركات العلمانية القومية واليسارية، التي لعب فيها المسيحيين دورًا مركزيًا، وظهور الأصولية الإسلامية، إلى تقويض مكانتها في المجتمع. لكنهم نجوا في ظل اضطهاد الديكتاتوريات العربية التي لم تميز بين أحد. لقد قضى غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة على الدولة و "الأمن" القمعي الذي وفرته، وأطلق العنان لحرب أهلية طائفية كان المسيحيون فيها هم الطرف الأكثر ضعفاً. في العراق، انخفض عدد المسيحيين من 1.4 مليون قبل الحرب، إلى أقل من 250 ألف مسيحي الآن.

في سوريا، سرعان ما تحولت انتفاضة 2011، التي كانت في البداية نقطة وحدة وطنية بين المتظاهرين المسلمين والمسيحيين، إلى حدث مُدمر للمسيحيين. إذ فضّل النظام [السوري] تحويل الانتفاضة إلى حرب مسلحة، وسعى إلى استغلال الخلافات الطائفية لإضعاف المعارضة، وإطلاق سراح أعداد كبيرة من المتطرفين الإسلاميين من سجونه. مع اضطرار المعارضة إلى اللجوء إلى السلاح، هيمنت الجماعات الإسلامية - التي حصل بعضها على دعم من دول ومؤسسات داعمة للإسلاميين في المنطقة، وتبنى البعض الاخر نفس أفكار تنظيم القاعدة الذي يقاتل بضراوة - على المعارضة.

في مصر، أرعب الحكم القصير لجماعة الإخوان المسلمين بين عامي 2012 و2013 المجتمع القبطي المُهمش بالفعل، وعزز دعمهم لعودة الجيش إلى السلطة. كان الاجتماع بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والبابا تواضروس الثاني في عام 2018 خطوة مهمة في اتجاه استعادة العلاقات الدافئة بين المسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط. يمثل البابا تواضروس الثاني أكبر طائفة مسيحية في المنطقة، والتي لا يمثلها البابا فرانسيس في روما. تراجعت أيضًا أعداد المسيحيين في الأردن، وكذلك في الضفة الغربية المُحتلة والقدس الشرقية. أما لبنان فله تاريخه المضطرب في التناوب بين الاقتتال وتقاسم السلطة بين مختلف طوائفه الدينية. في الوقت الحالي، يتشارك اللبنانيون بالتساوي في البؤس الناتج عن الفساد والتجاهل الإجرامي من قِبَل حكم النُخب الطائفية.

ومن المثير للاهتمام أن هذا التجاذب الديني-العلماني قد بدأ في الحدوث مرة أخرى. في الشرق الأوسط اليوم، في إيران، يتخذ الجيل الصاعد أشجع موقف ضد السلطة الدينية والقمع. في نفس الوقت، قررت القيادة في السعودية المضي قدمًا لاستباق هذه الموجة من خلال عكس أربعة عقود من السياسة منذ عام 1979، وتقييد نفوذ الشرطة الدينية، والمضي قدمًا في الانفتاح الجذري للمجتمع على المستوى الثقافي والاجتماعي - على الرغم من أنه ليس سياسيًا بالتأكيد – والذي نتج عنه موجة طال انتظارها من العلمنة والتمكين الاجتماعي والاقتصادي للمرأة. انتقدت حركات الاحتجاج في لبنان والعراق السياسات الطائفية والفساد، وطالبت بنظام أكثر مدنية.

ومع ذلك، فإن تسييس الهوية الدينية والطائفية لا يزال يمثل قضية خلافية ومُولدة للصراع في الشرق الأوسط. تؤكد الخطوات الأخيرة نحو الحوار بين الأديان وبناء مواقف ومؤسسات مشتركة على قدرة الكيانات الدينية على العمل من أجل تخفيف حدة الصراع وتحقيق السلام. كما أن عودة ظهور القوى العلمانية في بعض الأماكن في منطقة الشرق الأوسط قد يساعد أيضًا في تهدئة الصراع الديني، خاصة الطائفي.

في الواقع، إن التقاء الأعياد الدينية الثلاثة هو مناسبة حلوة ومرة. إنه يلمح إلى فرصة تحقيق مستقبل أكثر سلامًا وانسجامًا في مسقط رأس الديانات الثلاث، ولكنه يؤكد أيضًا على العمل الشاق الذي لا يزال يتعين القيام به لعكس الانقسامات الدينية العميقة الموجودة اليوم.

الآن بعد استعادة العلاقات الدبلوماسية، يجب على السعودية وإيران العمل معًا لإنهاء العنف والصراع في اليمن ولبنان وسوريا والعراق، ودعم جهود السلام وبناء الدولة. أتاحت اتفاقات إبراهام بين إسرائيل وبعض جيرانها العرب للعلاقات الثنائية أن تزدهر، وحققت مكاسب كبيرة في التجارة والاستثمار والتنمية والسياحة والتكنولوجيا وقطاعات أخرى. لكن هذه الاتجاهات تزامنت مع تدهور الأوضاع في اسرائيل. بعد أقل من ثلاث سنوات على توصل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى اتفاقات إبراهام، لدى إسرائيل الحكومة الأكثر يمينية وتطرفًا في تاريخها، مما يجعل الحياة تحت الاحتلال أكثر صعوبة للفلسطينيين. لن يحقق اليهود والعرب في جميع أنحاء المنطقة تطبيعًا دائمًا حتى يتم تحقيق تقدم وتسوية عادلة للقدس والشعب الفلسطيني.

بعد خمسة آلاف عام من ولادة اليهودية في المنطقة، و2000 عام بعد ظهور المسيحية، و1400 عام بعد انتشار الإسلام، تقدم اللحظة الحالية بوادر أمل في التعايش والتعاون بين الأديان الثلاثة. لكن تسييس الدين يظل قوة فاعلة، حتى في عالم اليوم، فلا يزال يتم استخدام الدين بقوة من قِبَل العديد من القادة من أجل خلق الانقسامات بدلاً من الوحدة. إنه لأمر مأساوي أن الأديان التي تؤمن بنفس الإله، قد خلقت الكثير من الانقسامات والصراع. لكن دعونا نستخلص من عمق قيم الروحانية والسلام والنوايا الحسنة التي تقدمها جميع الأديان، ونعمل من أجل مستقبل لا يكون فيه التقاء الأعياد الثلاثة بمثابة تذكير حلو ومر بما كان يمكن أن يكون، ولكن بمثابة نذير بأشياء قادمة. عيد قيامة سعيد وعيد فصح يهودي سعيد ورمضان سعيد.

 

بول سالم هو الرئيس والمدير التنفيذي لمعهد الشرق الأوسط. يركز عمله البحثي على قضايا التغيير السياسي والانتقال والصراع وكذلك العلاقات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط.

 

تصوير ريان ليم/وكالة الأنباء الفرنسية/جيتي إيماجيز

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.
البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك