MEI

التأثيرات التحويلية للانتقال نحو المُدُن الذكية في منطقة الخليج

ديسمبر 12, 2023

محمّد سليمان


مشاركة

محمّد سليمان، أليسيا تشافي

أصبحت الثورة الرقمية ركنًا أساسيًّا في جهود التنويع الاقتصادي ضمن الأسواق الناشئة، ولا سيّما في البلدان التي تطمح إلى الحدِّ من اعتمادها على إنتاج النفط والغاز. ومن بين هذه الدول، تبرز الإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية، نظرًا لمبادراتهما الطموحة بشأن المُدُن الذكية، التي تندرج ضمن استراتيجياتهما الرامية إلى تحقيق التحوُّل الاقتصادي على نطاقٍ أوسع. تشمل هذه المبادرات مشروع "مدينة دبي الذكية" والعديد من المشاريع الواردة في خطّة التنمية الاقتصادية الطويلة الأمد ضمن رؤية المملكة العربية السعودية 2030، وأبرزها مشروع "نيوم" الريادي الذي تبلغ قيمته 500 مليار دولار. يحتلّ هذان البلدان، من خلال الشراكات الدولية مع شركات التكنولوجيا العملاقة، موقع الصدارة من ناحية تسخير التقنيات الرقمية لإحداث تحوّلات كبرى في أساليب العيش في المُدُن وتعزيز الحوكمة. ولكنْ، في حين يغتنم هذان البلدان الفُرَص التي توفّرها خطط تطوير المُدُن الذكية، يتوجّب عليهما في المقابل أن يتصدّيا لتحدّياتٍ كثيرة، كالأمن السيبراني واستدامة البنى التحتية، عن طريق السياسات الاستراتيجية والشراكات الموثوقة التي تكفل تحوُّلاً رقميًّا آمنًا ومستدامًا.

اتّسمت رحلة الأسواق الناشئة نحو العصر الرقمي بطابعها التحويلي؛ إذ تميَّزت بثورةٍ في التطوُّرات التكنولوجية، وزيادة استخدام الإنترنت، وانتشار الأجهزة المحمولة. وتردّدت أصداء هذا التحوُّل في شتّى قطاعات الاقتصادات، فأثّرت مثلًا على القطاع المالي والتجارة والاتّصالات والتعليم.

وفي طليعة هذه الثورة الرقمية، يبرز عددٌ من التطوُّرات الرئيسية:

1.    الثورة الرقمية في قطاع الصحّة: ساهمت تطبيقات الطبّ عن بُعد وتطبيقات مراقبة الصحّة في تحسين الوصول إلى خدمات الرعاية الصحّية بشكلٍ ملحوظ، وخاصّةً في المناطق النائية أو المحرومة.

2.    تعزيز الاتّصال: لعبت البنى التحتية المُعزِّزة للإنترنت والهواتف الذكية المتاحة بشكلٍ متزايد دورًا فعّالًا من ناحية تمكين الناس في الأسواق الناشئة من الدخول إلى المجال الرقمي. وعلى وجه الخصوص، أدّت خدمة الإنترنت عبر الأجهزة المحمولة دورًا محوريًّا، إذ سمحت لعددٍ أكبر من السكّان بالاتّصال بالعالم الرقمي.

3.    التأثير الاجتماعي من خلال التكنولوجيا: تُستخدَم التقنيات الرقمية لمعالجة التحدّيات الاجتماعية، والتطرّق إلى قضايا عدّة، مثل الفقر وعدم المساواة والوصول إلى الخدمات الأساسية. وتُعتبَر تدخّلات الرعاية الصحّية القائمة على الأجهزة المحمولة وبرامج تحديد الهوية الرقمية خير أمثلةٍ على ذلك.

4.    ثورة المشاريع الريادية في مجال التكنولوجيا: شهدَ قطاع التكنولوجيا في الشرق الأوسط ازدهارًا ملحوظًا في المشاريع الريادية؛ حيث تستعين الشركات الناشئة بالتقنيات الرقمية لمعالجة التحدّيات المحلّية في مجالات الرعاية الصحّية والزراعة والتعليم. وتستفيد هذه الشركات الناشئة من ميزات التكنولوجيا لتحسين حياة الناس في جميع أنحاء المنطقة، بدءًا بتسهيل الوصول إلى الرعاية الصحّية باستخدام منصّات مثل "فيزيتا" وصولاً إلى تحسين الممارسات الزراعية باستخدام منصّة مثل Pure Harvest.

5.    ثورة المُدُن الذكية: تتبنّى مُدُن الأسواق الناشئة الرائدة تقنيات المُدُن الذكية لإحداث ثورة في مجالات التخطيط العمراني والنقل وكفاءة استخدام الطاقة والخدمات العامّة. ويزداد اعتماد الحكومات على التقنيات الرقمية لرفع مستوى الحوكمة، وزيادة فعّالية الخدمات العامّة، وتعزيز الشفافية.

تحتلّ كلٌّ من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة مواقع ريادية في السباق العالمي نحو تطوير المُدُن الذكية. وتسعى المملكة، من خلال رؤية السعودية 2030 ومشروع "نيوم" الضخم، لتصبح مركزًا للابتكار والتكنولوجيا والتنمية المستدامة. وتدلّ الشراكات الدولية في عالم التكنولوجيا مع شركات مثل "أورنج" و"أتكنز" وغيرهما على التزام الرياض بالاستفادة من الخبرات والابتكارات وإدخالها كعناصر أساسية في هذه المشاريع التحويلية.

وعلى غرار المملكة، كانت الإمارات سبّاقةً أيضًا في مجال تطوير المُدُن الذكية، وتحديدًا من خلال مبادراتها الريادية مثل حلول أبو ظبي الذكية ومشروع مدينة دبي الذكية. وتلعب شركات التكنولوجيا الدولية الكبرى، ومنها "آي بي أم" و"سيمنز" و"هواوي"، دورًا بالغ الأهمية من ناحية تقديم الحلول والخبرات لمشاريع المُدُن الذكية في دولة الإمارات.

يمثّل التحوّل إلى العصر الرقمي في الأسواق الناشئة فرصةً كبيرة لدفع النمو الاقتصادي، والابتكار، وتحسين جودة الحياة. فتستفيد المدن الذكية من التكنولوجيا للمساعدة في تحقيق هذه الأهداف، وتحقيق الاستفادة القصوى من الموارد، وجذب الاستثمارات، وتعزيز التعاون، وإنشاء مركز حيوي يرعى ريادة الأعمال والتقدّم. هذا وتعزّز البيانات المُتاحة في الوقت الفعلي الابتكار وعملية صنع القرار القائمة على الأدلّة، فيصبحان أداتَين لتحقيق التقدّم، بخاصة في الأسواق الناشئة. وتمكّن المُدن الذكية أيضًا المواطنين من خلال توفير مجتمعات أكثر أمانًا، وبيئات أنظف، ووصولًا محسنًا إلى الخدمات الأساسية، ما يساهم في التغلّب على تحديات البنية التحتية وتحقيق التنمية المستدامة. ومع ذلك، ينطوي هذا التحوّل على تحديات كبيرة ستتطلّب سياسات مدروسة وتطوير بنية تحتية قوية لضمان الوصول العادل والتقدّم المستدام في المنطقة.

مع اعتماد التكنولوجيا الرقمية على نطاق أوسع، تزداد أيضًا المخاوف المتعلقة بالأمن السيبراني وخصوصية البيانات. وقد اتّخذت المملكة السعودية مبادرات استباقية جديرة بالثناء تهدف إلى وضع أُطُر تنظيمية وسياسات لحماية الأصول الرقمية والمعلومات الحسّاسة. فعلى سبيل المثال، يؤدي دمج تدابير أمان الشبكات والأجهزة، ولا سيّما في البنية التحتية لشبكة الجيل الخامس (5G)، دورًا حاسمًا في منع الوصول غير المصرّح به. أمّا التدابير القوية المتعلقة بالأمن السيبراني، التي تشمل التشفير التام بين الأطراف، والتحديثات المنتظمة المتعلقة بالأمن، والقدرة على رصد الحوادث والاستجابة لها، من ضروريات العمل.

يزيد التوجّهُ نحو المدن الذكية من حاجةَ الحكومات المحلّية إلى التعاون مع الشركاء لوضع خطط شاملة للاستجابة للحوادث. ولا غنى عن نهج "الشركاء الموثوقين" في ضمان أمن البنى التحتية للمدن الذكية واستدامتها على المدى الطويل. وفي حين أنّ الفعالية من حيث التكلفة قد تغري صانعي القرار نحو اعتماد خيارات أدنى كلفة، لا يمكن الاستهانة بأهمية التعامل مع شركاء موثوقين في البنى التحتية لشبكة الجيل الخامس والتكنولوجيا الرقمية.

يُعتبَر رواج أجهزة "هواوي" وZTE في الشرق الأوسط أمرًا مثيرًا للقلق، وبخاصة في ضوء مخاوف الولايات المتحدة بشأن الثغرات الأمنية الخفية وأوجه الضعف في هذه الأجهزة. فعلى الرغم من أسعارها الجذابة والخدمات الكثيرة التي تتيحها، إلّا أنّ علاقات هاتَين الشركتَين مع الحكومة الصينية، بالإضافة إلى عدم شفافيتهما حول العمليات الداخلية ومسائل سلسلة التوريد، تشكّل تهديدًا خطيرًا للأمن الرقمي في المدن الذكية. وبطبيعة الحال، قد تتأثر العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة نتيجة لذلك، إذ إنّ الصين تصبح تدريجيًّا شريكًا أساسيًّا في أهم الابتكارات التكنولوجية.

يساهم الشركاء الموثوقون في زيادة مصداقية الحكومة والدولة والمنظمات المحلية، ويقدّمون تقنيات مرنة مع الالتزام بسياسات أمن البيانات والخصوصية الصارمة، التي تتوافق مع المعايير واللوائح الدولية. ورغم أنّ الخيارات الأدنى كلفة قد تبدو مغرية على المدى القصير، إلّا أنّها ليست مستدامة. لذلك، يلجأ الشركاء الموثوقون إلى الالتزامات التعاقدية الواضحة والاتفاقيات على مستوى الخدمة لضمان المساءلة بشأن الأداء وأمان منتجاتهم.

في عالم المُدن الذكية، تحظى مرونة البنية التحتية بأهمية بالغة، إذ قد يؤدّي أي توفير في الكلفة على حساب أمان التقنيات المعتمدة إلى فشل الأنظمة وضعفها. ولا شكّ في أنّ الطريق نحو المدن الذكية سيكون حافلًا بالتحوّلات الكبرى، غير أنّ النجاح يعتمد على الالتزام بالممارسات الآمنة والمبتكرة والمستدامة.

محمد سليمان هو مدير برنامج التقنيات الاستراتيجية والأمن السيبراني التابع لمعهد الشرق الأوسط، ومدير في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في شركة "مكلارتي أسوشيتس" McLarty Associates)). يركّز في عمله على التقاطع بين التكنولوجيا والجغرافيا السياسية والأعمال التجارية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

أليسيا تشافي هي باحثة غير مقيمة في برنامج التقنيات الاستراتيجية والأمن السيبراني التابع لمعهد الشرق الأوسط. تركّز في عملها على آثار التقنيات المحوريّة، مثل الذكاء الاصطناعي، والابتكار الكمي، والأمن السيبراني، على السياسات والأمن القومي.

 

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.

متعلق بالمنطقة

البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك