الانتخابات الرئاسية الجزائرية لعام 2024: استمرار السلطويّة الشعبويّة
سبتمبر 06, 2024أمل بوبكر
أمل بوبكر
تستعدّ الجزائر لإجراء انتخابات رئاسيّة في 7 أيلول/سبتمبر. ومع أنّ نتيجتها محسومة مسبقًا على ما يبدو، تكشف هذه الانتخابات مدى تعقيد المشهد السياسي، الذي يتّصف خصوصًا بمشاعر الخيبة نتيجة فشل الحراك الشعبي. فسلسلة الاحتجاجات السلميّة تلك، التي أعادت الأمل عام 2019 بتجديد ديمقراطي للسلطة عبر دفع الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة للاستقالة بعد حُكم دام 20 سنة، سمحت لخلفه، عبد المجيد تبون، بتقديم نفسه على أنّه صاحب مشروع "الجزائر الجديدة"، والرئيس الفعّال والمقدام والقادر على إنهاء الفساد وإعادة توزيع الثروة.
بعد خمس سنوات على تولّيه السلطة، يعِدُ شعار تبون الجديد، "من أجل جزائر منتصرة"، بولاية ثانية تهدف إلى "الحفاظ على الدولة الاجتماعية". غير أنّ محاولة الرئيس الحالي للحفاظ على العقد الاجتماعي القائم على وعود شعبويّة بتجديد اقتصادي وفق النمط النيوليبرالي تصطدم بغياب الإصلاحات المؤسّسية اللازمة لتحقيق تلك الوعود.
فترة ما قبل الانتخابات
بعد الحراك الشعبي، حظي تبون بدعم من ائتلاف يضمّ مجموعات غير متجانسة، مثل بعض الشبكات المتبقية من نظام بوتفليقة، وشخصيات جديدة تستغلّ الفراغ الذي خلّفة سقوط النظام السابق، وتكنوقراطيّون يبحثون عن استقرار إداري، وجهات فاعلة اقتصادية تغريها وعود الإصلاح والاستمرارية. كذلك، فإنّ الإعلان المتأخّر عن ترشّح تبون والتعديل الحكومي الذي أعطى الأفضليّة للشخصيات الموالية له لا يدلّان على محاولة تقليدية للتحكُّم بمفاصل السلطة، بقدر ما يشكّلان محاولة لإعادة ضبط الموازين داخل النظام.
أمّا الجيش فلا يزال ينشط بعيدًا عن الأضواء، وقد اعتمد نهج "التحكُّم عن بُعد"، ما أتاح لتبون الحفاظ على واجهة السلطة المدنيّة بالتوازي مع الحفاظ على نفوذ الجيش خلف الكواليس. فبعد أن استلم الحكم في إطار حلّ انتقالي لأزمة الحراك، سعى تبون تدريجيًا لتكريس موقعه في السلطة على المدى الطويل. ولتعزيز مكانته كـ"مرشّح الجيش"، وافق تبون على إجراء عددٍ من التعديلات الدستورية الأساسية المتعلّقة بمهام الجيش، لا بل شجّع على إقرارها. وشملت تلك الإصلاحات توسيع مهام الجيش لتشمل "الدفاع عن المصالح الحيوية والاستراتيجية للبلاد" (المادة 30 من دستور العام 2020) والسماح بـ"إرسال وحدات من الجيش الوطني الشعبي إلى خارج الوطن بعد مصادقة البرلمان" (المادة 91 من دستور العام 2020)، وتعزيز دور المجلس الأعلى للأمن بقيادة رئيس الجمهورية.
وفي إشارة إلى سعيه للحصول على الدعم الذي لا غنى عنه من الجيش، اتّبع تبون نهجًا أمنيًا لإدارة المعارضة، بما في ذلك اعتقال عدد كبير من الأشخاص لـ"جرائم الرأي" ونزع الشرعية عن المرشّحين المنافسين المحتملين بصورة منهجيّة. حتى إنّه منع شخصيات لطالما كانت مقرّبة من الجيش وأجهزة الاستخبارات من الترشُّح.
على الصعيد الإقليمي، كان يمكن للجزائر أن تستغلّ الفرصة لأداء دور بارز وتقديم خطاب بديل في ظلّ التوتّرات المتزايدة مع المغرب، المتحالف مع محور إسرائيل-الولايات المتّحدة. ولكنْ، بخلاف بوتفليقة، الذي أراد اكتساب مكانة دوليّة، حدّت خلفيّة تبون الإدارية وتركيزه على الشؤون الداخلية من قدرة الجزائر على فرض نموذج جديد للسياسة الخارجية.
وعود انتخابية في سياق من المشاركة السياسية المحدودة
مع نفور غالبيّة الجزائريّين من الأحزاب السياسية، التي تواجه صعوبات أكبر في حشد الدعم بعد الحراك الشعبي، باتت المشاركة في الانتخابات الرئاسية، حتى من دون أمل بالفوز بها، شكلًا من أشكال المقايضة بين الأحزاب والرئيس. فقد أضفت الأحزاب شرعية على انفتاح تبون المزعوم، مقابل ضمان بقائها السياسي. بالتالي، هناك حزبان يقدّمان نفسيهما على أنّهما ينتميان إلى "المعارضة"، هما "جبهة القوى الاشتراكية"، ممثلةً بيوسف أوشيش، و"حركة مجتمع السلم" الإسلامية، برئاسة عبد العالي حساني شريف، ويعتبران أنه من الضروري "المشاركة في اللعبة" للحفاظ على راهنيّتهما من خلال حملات موجّهة إلى عامة الناس ووسائل الإعلام والمؤسّسات.
ولإضفاء المزيد من الشرعية على نموذج الحوكمة الذي يتّبعه، اعتمد الرئيس تبون في فترة ما قبل الانتخابات، كما فعل أسلافه، خطابًا قوميًا قويًا، مقدّمًا نفسه على أنه "أب الأمة"، حتى إنّ أنصاره باتوا يطلقون عليه لقب "عمّي تبون". غير أنّ هذه الانتخابات ليست مجرّد استحقاق لإضفاء الشرعية على السلطة؛ فهي بمثابة وسيلة للنظام لتحديد المناطق الداعِمة وتلك المنافِسة له. على سبيل المثال، أدّى تدنّي مستوى المشاركة في منطقة القبائل شمال البلاد في الانتخابات المحلّية عام 2021 إلى مراجعة السياسات المحلّية. ويكشف ذلك كيف يستخدم النظام البيانات الانتخابية للحفاظ على سيطرته في المناطق التي يُحتمَل أن تشهد جوًّا من عدم الاستقرار. وتتيح عملية قياس مستوى الدعم هذه تحديد وتوقّع أماكن الاضطرابات المحتملة، وخصوصًا في المناطق الحسّاسة مثل منطقة القبائل والجنوب، حيث تُعدّ التوتّرات المتعلّقة بالهويّة والتفاوتات الاقتصاديّة أشدّ بعد.
توزيع الحصص بدلًا من ضمان الحقوق الاقتصادية
في محاولة لزيادة منسوب الدعم الداخلي، استغلّ تبون العائدات الإضافية المتأتية عن زيادة صادرات الغاز إلى أوروبا بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا عام 2022. فقد استخدم تبون تلك العائدات، التي تضاعفت تقريبًا من 35 مليار دولار عام 2021 إلى 60 مليار دولار عام 2022، لزيادة الإنفاق الاجتماعي من دون الاضطرار إلى خفض الإنفاق العسكري أو إجراء إصلاحات اقتصادية مؤلمة. وتهدف سرديّة الرئيس الاقتصادية، القائمة على تعزيز ريادة الأعمال والشركات الناشئة من خلال مبادرات مثل صندوق التمويل الجزائري للشركات الناشئة، إلى إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة من منظور نيوليبرالي، يُعطي الأولويّة للمبادرات الاقتصادية الفرديّة على حساب الحقوق الجماعية والرفاهية. إلا أنّ القيود المتزايدة على الحقوق الاقتصادية للجزائريّين منذ العام 2019 – بما في ذلك القيود على الحرّيات النقابية، وعلى الحقّ في الإضراب، والحماية الاجتماعية غير الكافية – تكشف هشاشة العقد الاجتماعي الذي أرساه تبون. ومن الأدلّة الإضافية على هذا التفاوت هو الدور المستمرّ للاقتصاد غير النظامي، الذي ما زال يشكّل مساحة أساسية للتفاوض على الحقوق الاقتصادية بحكم الأمر الواقع، نظرًا إلى فشل الدولة في تأمينها ضمن الأُطُر النظامية.
في حين أنّ الحملة الرئاسية حشدت الشبكات التقليدية نفسها من الأئمّة والبيروقراطيّين ومنظمات المجتمع المدني الصغيرة الشكليّة التي استخدمها الرئيس الراحل بوتفليقة، أكّد الرئيس تبون في اجتماعاته أنّ الجميع سيحصل "على حصّته". فهو يهدف إلى تأمين الدعم الشعبي عبر إطلاق وعود بزيادة عدّة تقديمات، مثل منحة البطالة التي ازدادت من 12,000 دينار في بداية ولايته إلى 20,000 دينار كما وعد، وكذلك زيادة معاشات التقاعد وتوفير قروض من دون فائدة للشركات الناشئة. ولكنْ، في ظل غياب مشروع إيديولوجي يلتزمون به، ليس في وسع أفراد الطبقات المتواضعة، مثل العاطلين عن العمل والمتقاعدين والطلاب، إلا الترحيب بهذه الوعود، حتى وإن كانوا يعلمون أنّ هذه التدابير ستُطيل أمد التبعية الاقتصادية، ولن تُعالِج أسباب عدم المساواة الهيكليّة عمومًا، وستفاقم معدلات التضخُّم المرتفعة أساسًا.
ولاية ثانية مستقرّة، ولكنْ إلى متى؟
ولاية تبون الثانية توحي باستقرار وهمي، فهي تستند إلى سلطويّة شعبويّة تسعى إلى الحفاظ على عقد اجتماعي هشّ لا يمكن تجديده إلى أجل غير مسمّى، طالما أنّه يقوم على الأسس الضعيفة نفسها، وخصوصًا في ظلّ استمرار التدابير الخاصة بدلًا من تنفيذ إصلاحات هيكليّة عميقة. وفيما يُنظَر إلى رئاسة تبون كضمانة لعدم نشوب الاحتجاجات مجددًا، إلا أنها تكشف كيف أنّ إعادة بناء أجهزة الدولة بطريقة متسرّعة بعد سقوط بوتفليقة أدّت إلى قيام منظومة غير متماسكة من المصالح والرؤى المتضاربة أحيانًا، ما يجعل من الصعب الالتفاف حول مشروع موحّد لمستقبل البلاد. والأخطر هو أنّ هذا التركيز على الاستقرار على المدى القصير يمنع أيّ حوار جدّي حول من سيخلف الرئيس – وهي مسألة محوريّة كون تبون يبلغ من العمر 79 عامًا.
في نهاية المطاف، يتمثّل التحدّي الأبرز الذي تواجهه الجزائر في قدرتها على تجاوز نموذج الحوكمة الحالي القصير الأمد. ففي حال عدم إجراء تعديلات جوهريّة في العقد الاجتماعي وتحقيق الانفتاح السياسي، قد تجد الجزائر نفسها أمام طريق مسدود، حيث إنّ الحلول المؤقّتة اليوم لن تؤدي إلا إلى مفاقمة أزمات الغد.
أمل بوبكر هي عالمة اجتماع في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (EHESS) وباحثة غير مقيمة في برنامج شمال أفريقيا والساحل في معهد الشرق الأوسط. تركّز في أبحاثها على المشهد السياسي في المغرب العربي (أي في المغرب والجزائر وتونس)، وعلى العلاقات الأوروبية-العربية والإسلام في أوروبا.