الأسس الأيديولوجية لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر
يناير 22, 2024ندوى الدوسري
ندوى الدوسري
المقالة التالية هي جزءٌ من سلسلٍة خاصّة لمعهد الشرق الأوسط بعنوان "الحوثيون: الحليف الأبعد لإيران"، تحلّل ديناميّات العلاقة الإيرانية-الحوثية، وتحدّد المصالح والتحدّيات التي يواجهها الجانبان في الحفاظ على تعاونهما، وتفصّل تأثيرها على أمن المنطقة، وتقدّم توصياتٍ سياساتيّة حول كيفيّة استجابة الولايات المتّحدة والحكومات الأخرى.
تجسِّد هجمات الحوثيين في البحر الأحمر أيديولوجيّتهم المتجذّرة في الأصوليّة الإسلاميّة. اليوم، تهدف هذه الأيديولوجية، المتوافقة مع "محور المقاومة" الإيراني، إلى طرد الولايات المتّحدة من الشرق الأوسط، وتدمير إسرائيل، وإقامة خلافة إسلاميّة عالميّة مركزها القدس. والجدير بالذكر أن حالة الصراع الدائم تُعتبر شرطًا أساسيًّا لتحقيق هذه الأهداف الأيديولوجيّة. تتعمّق المقالة التحليليّة التالية في الإطار الأيديولوجيّ الذي يدفع الحوثيين إلى شنّ هجماتهم في البحر الأحمر وتداعياتها الأوسع.
الحوثيون جاروديون زيديون
إنّ طموحات الحوثيين السياسيّة مُتجذِّرة بعمقٍ في الزيدية، وهي مدرسة فكريّة شيعية، ومبدؤها الأساسي أن يكون الزعيم الروحي للمسلمين هاشميًّا أو من نسل النبيّ محمد. ولا تضطلع هذه الشخصية، التي يُشار إليها باسم الإمام، بدورٍ روحيٍّ فحسب، بل يجب أن تكون أيضًا بمثابة زعيمٍ للدولة. تأسَّست أوّل دولة زيديّة ثيوقراطيّة على يد الزعيم الديني والسياسي يحيى بن الحسين في العام 983م، على أراضي محافظة صعدة اليوم. وصل الحسين إلى اليمن من الحجاز (في المملكة العربية السعودية في يومنا هذا) وأصبح يُعرف على نطاقٍ واسعٍ باسم "الهادي إلى الحقّ" لأنّه سعى إلى هداية اليمنيين إلى طريق الإسلام الصحيح.
حكم الأئمة الزيديون شمال اليمن بقبضةٍ حديديّة لمئات السنين، وعزلوا البلد عن بقيّة العالم، ومنعوا توفير التعليم الحديث والخدمات الأساسيّة. في أيلول/سبتمبر 1962، أطاحت القوى الثوريّة اليمنيّة بقيادة ضبّاط الجيش بالإمامة وأنشأت نظامًا جمهوريًّا يقوم على المواطنة المتساوية، ممّا أدّى إلى ظهور حكمٍ أكثر حداثةً ومركزيّة. ولم تستهدف الثورة الزيديين، الذين استمرّوا في السيطرة على البلاد، لكنّها أنهت احتكار الهاشميّين للسلطة، على الرغم من أنّ عددًا كبيرًا من الهاشميين ما زالوا يشغلون مناصب عسكريّة وحكوميّة عُليا حتّى يومنا هذا. وبالنسبة للزيديّين المُتديّنين المُتشدِّدين، بقي حقّ العودة إلى السلطة هدفًا وضعوه نصب عينيهم.
تُعدّ الجماعة الحوثيّة نفسها فرعًا من حركة إحياء الإمامة الزيدية، ظهر في أوائل التسعينيات. وقاد زعيم الحوثيين الأصلي، حسين بدر الدين الحوثي، تمرّدًا ضدّ الحكومة في العام 2004 وقُتل في العام نفسه. وبعد وفاته، تولّى منصبه شقيقه عبد الملك الحوثي، الزعيم الحالي. وكان والدهما، بدر الدين الحوثي، عالمًا زيديًّا بارزًا وشخصيّة مؤثرة. وينتمي الثلاثة إلى الجاروديّة، وهي من فرق المذهب الزيدي الأكثر تشدّدًا في الإسلام. وفي حين تفضّل الزيديّة التقليديّة أن يكون الإمام من نسل أحفاد النبي محمد (وهو المفهوم المعروف بالإمامة) من دون أن تشترط ذلك، فإنّ الجاروديّة تجعل الانحدار من سلالة النبي شرطًا مسبقًا صارمًا. ويعتقد الجاروديّون أنّ حقّهم الإلهيّ في الحكم لا يقتصر على اليمن، بل على الكون بأسره. علاوةً على ذلك، يضع الجاروديّون الأئمّة في مرتبة الأنبياء؛ فبالنسبة إليهم، الأئمّة هم مختارون من الله، وليس للبشر اختيارهم أو مقاومتهم. أدّى الخلاف بين الجاروديّين بقيادة بدر الدين الحوثي وابنه حسين وبقيّة علماء الزيديّة حول الإمامة إلى انقسامٍ داخل حركة إحياء الزيدية في منتصف التسعينيات. وفي أواخر التسعينيات، سيطر حسين الحوثي على الحركة وجعلها متطرّفة ومسلّحة، ودفعت ميوله العنيفة بعض مؤسّسيها الرئيسيّين إلى النأي بأنفسهم عنه. وفي الآونة الأخيرة، أُرسِل عددٌ كبيرٌ من العلماء الزيديين الذين ينتقدون الحوثيين إلى سجونٍ سرّيّة.
تأثير إيران على أيديولوجيّة الحوثيين
يتأثّر الحوثيّون بشكلٍ كبيرٍ بمفهوم ولاية الفقيه، وهو نظام حكمٍ أسّسه آية الله روح الله الخميني في أعقاب الثورة الإيرانيّة في العام 1979، يُعطي السلطة السياسيّة والدينيّة النهائيّة للزعيم الديني الأعلى. درس بدر الدين في مدينة قُمْ في إيران في منتصف الثمانينيات، بينما أمضى حسين وشقيقه عبد الملك بعض الوقت في إيران وفي جنوب لبنان في خلال الثمانينيات والتسعينيات.
وعلى الرغم من أنّ إيران لا تسيطر بشكلٍ كاملٍ على الحوثيين، إلّا أنّ المتمرّدين مدينون للجمهوريّة الإسلاميّة بتحوّلهم الناجح إلى قوّة عابرة للحدود الوطنيّة لا يُستهان بها. تأثّر حسين الحوثي كثيرًا بالثورة الإيرانيّة وكرّس نفسه لإيصالها إلى اليمن، لاعتقاده بأنّ إيران قادرة على أن تقود العرب نحو المجد، بفضل أجندتها المناهضة للإمبرياليّة. وتتمحور محاضراته، التي تشكّل الجزء الأكبر من المنهج الذي يستخدمه الحوثيون لتلقين عقيدتهم لأتباعهم ولليمنيين بشكلٍ عام، حول إعطاء الأولويّة للجهاد ضدّ أمريكا وإسرائيل.
ولتعزيز سلطتهم، أنشأ الحوثيون دولةً بوليسيّة ثيوقراطيّة. تُبجّل الجماعةُ مؤسِّسَها باعتباره "القرآن الناطق"، وزعيمها الحالي باعتباره رئيس "المسيرة القرآنية"، وهو مصطلح يشير إلى برنامج الجماعة السياسي والديني. وتنصّ وثيقة تأسيسها على أن الله اصطفى أهل البيت، في إشارةٍ إلى نسل النبي محمد عامةً وإلى قائد المجموعة خاصةً، لقيادة الأمّة الإسلاميّة وصون القرآن، كما يُشار إلى زعيمهم الحالي باسم "علم الهدى". وتؤكّد هذه العناصر كلّها المكانة المقدسة لعبد الملك الحوثي، الذي يستنظر الطاعة المطلقة من رعاياه.
وقد رسّخت قدرة الحوثيين على هزيمة خصوهم في أثناء الحرب الأهليّة اليمنيّة إيمانهم بأن الله يقف إلى جانبهم. والآن، أصبحت الهجمات التي يشنّونها في البحر الأحمر ضد إسرائيل جزءًا من الحرب المقدّسة باسم الأمّة الإسلاميّة التي كانت الجماعة تعدّ لها العدّة منذ عقود. فعندما أعلنت الولايات المتّحدة أنها ستطلق "عمليّة حارس الرخاء" في كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، نشر نصر الدين عامر، رئيس وكالة الأنباء الرئيسيّة ومركز التواصل الاجتماعي التابع للحوثيين، التصريح التالي على صفحته على منصّة "X": "قرابة عشرين عامًا ونحن ننتظر لحظة الاشتباك المباشر مع أمريكا وإسرائيل... اللهم لك الحمد أن وفّقتنا لقتال أرباب الكفر والطغيان...".
التحضير لآخر الزمان
ثقة الحوثيّين تنبع من إيمانهم، كسائر الجماعات الإسلامية السنّية والشيعية، بنبوءة دينيّة، تفيد بأنّ النبي محمّد قال لصحبه إنّ شخصية من أهل بيته، أسماها "المهدي"، ستظهر قبل يوم الدين. سواء عن قناعة أو بالقوّة والحرب، يُبايع الناس المهدي في مكّة المكّرمة، ويقود المهدي جيشه إلى بيت المقدس، حيث يُقيم خلافةً إسلاميةً تحضيرًا لنزول عيسى بن مريم. وقد نقل أبرز العلماء المسلمين عن النبي قوله إنّ المهدي سوف "يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت جورًا وظلمًا". ويَعتَبِر العلماء الشيعة أنّ قائدًا يُعرَف باسم "اليماني" سيظهر في اليمن حاملًا أهدى الرايات، وسيمهّد لظهور المهدي ويساعده في تحرير القدس فتح القسطنطينية وروما، علمًا أنّ بعض العلماء اليوم يفسّرون ذلك على أنه إشارة إلى أوروبا عمومًا. بحسب النبوءة، فإنّ أبرز علامات ظهور المهدي تشمل الثورات؛ وفي هذا السياق، يَعتَبر بعض العلماء الشيعة أنّ الثورة الإيرانية وثورة اليماني في اليمن التي بدأت في صنعاء هما من تلك العلامات.
حرب غزّة كحصان طروادة
يعتقد الحوثيّون أنّ حرب غزّة تخطو بهم خطوةً جديدةً نحو تحقيق تلك النبوءة؛ فقد سعوا جاهدين طوال العقود الماضية للتحضير لحرب مع إسرائيل والغرب. ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، خرّج الحوثيون 45,000 مقاتلٍ ضمن "قوّات طوفان الأقصى" المدرَّبة لهذا الغرض بالتحديد. كذلك، تحت شعار "علم وجهاد"، سعى الحوثيون إلى تجنيد 1.5 مليون طفلٍ في مراكزهم الصيفية في عام 2023، كما وسَّعوا أنشطة التجنيد على امتداد مناطق شمال غرب اليمن لـ"معركة الفتح الموعود والجهاد المقدّس"، كما أعلن عبد الملك الحوثي وقادة الجماعة في خطاب مؤخرًا. من جهته، وصف القائد الأعلى للقوات المسلحة مهدي المشاط المقاتلين الحوثيين بـ"رجال الله وفرسان القدس".
كسب الحوثيّون تأييدًا واسعًا في العالم الإسلامي وفي أوساط المجموعات اليساريّة المتطرّفة في الغرب بسبب موقفهم المناهض للإمبريالية، لكنّ هدفهم النهائي هو إنشاء نموذجهم الخاص من الإمبريالية الإسلامية، بالتنسيق مع إيران ومحور المقاومة التابع لها. فقال عضو المجلس السياسي التابع للحوثيين محمد البخيتي مثلًا "نناضل من أجل تحقيق العدل في العالم". بالتالي، من المُستبعَد أن تؤدي الغارات الجوية الأمريكية-البريطانية إلى ردع الحوثيّين، الذين يطبّقون استراتيجية بعيدة المدى هدفها بناء جيش لخوض حروبهم المستقبلية. في خطاب مُتلفَز في الآونة الأخيرة، قال عبد الملك الحوثي: "شعبنا العزيز لا يتهرب من ميدان المواجهة ومع أي عدو مهما كانت إمكاناته وقدراته، لأننا نعتمد على الله".
وفي وقتٍ سابق من هذا الشهر، تحدّى عضو المجلس السياسي الأعلى الحوثي محمد الحوثي الولايات المتّحدة وتحذيراتها للجماعة بالكفّ عن استهداف السفن في البحر الأحمر، فنشر على منصّة "X": "أحاربك، وأقدِّم الإسلام، والإسلام هو للدنيا كلها، وللعالَم كله، لي شرعية أن أتحرك إلى أقصى منطقة في الدنيا، مثلما أنت ترى لنفسك شرعية". كذلك، رفض الحوثيّون تصنيف الولايات المتّحدة لهم كمنظمة إرهابية عالمية محددة بشكل خاص، معتبرين أنّ هذا التصنيف لن يؤثّر عليهم بأيّ شكل. ومقتبسًا تعبير أخيه الذي أطلق شرارة التمرُّد الحوثي ضدّ الحكومة اليمنية منذ 20 سنة في الجبال النائية شمال اليمن، قال العيم الحوثي إنّ "أمريكا قشّة". وفي خطاب ألقاه بعد يوم من التصنيف، عبّر الزعيم الحوثي عن ثقته العميقة بـ"الوعد الإلهي"، معلنًا أنّ "كل طغاة الدنيا وأمريكا وبريطانيا هم لا شيء أمام الله تعالى".
بفضل ثقتهم وصبرهم الاستراتيجي واستعدادهم للتصعيد، مقابل ميل الغرب إلى الحلول السريعة وتشتُّت انتباهه، يسبق الحوثيون خصومهم الدوليّين بأشواط.
ندوى الدوسري باحثة وخبيرة في حلّ النزاعات، لديها أكثر من 20 عامًا من الخبرة في اليمن، حيث عملت مع القبائل والمجتمع المدني والسلطات المحلّية والجهات الأمنية والجماعات المسلّحة غير التابعة للدولة. كذلك، فهي باحثة غير مقيمة في معهد الشرق الأوسط وزميلة في مركز دراسات الجماعات المسلّحة (Center on Armed Groups).
معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.