إسرائيل ومِحوَر المقاومة في أعقاب حرب غزَّة
أغسطس 22, 2024
دانيال سوبلمان
بعد مرور عام تقريبًا على الهجوم الذي شنَّته حركة "حماس" على إسرائيل في 7 تشرين الأوَّل/أكتوبر، شهدت البيئة الاستراتيجية الإسرائيلية -والمشهد الاستراتيجي للشرق الأوسط عمومًا- تغييرًا جذريًّا. فقد أشعلَ هجوم "حماس" المُباغِت والصاعق حربًا طاحنةً مع إسرائيل، كما أدَّى إلى اندلاع مواجهةٍ إقليميةٍ محدودةٍ -ولكنْ شرسة- بين إسرائيل و"مِحوَر المقاومة" الذي تقوده إيران، وفي طليعته "حزب الله" اللبناني. تتَّصف الحرب الجارية بتعدُّد جبهاتها وأوجهها، وطابعها الديناميِّ، وعواقبها الوخيمة التي بدأت تظهر بالفعل. وفي حين لا يزال من الصعب تحديد خطِّ النهاية، يمكن تحديد مؤشِّرات مفيدةٍ عبر النظر في الأسباب الأساسية للحرب ومسار تطوُّرها. ومن النتائج الرئيسية التي يمكن استخلاصها أنَّ الأحداث الأخيرة سلَّطت الضوء على المخاطر التي قد تُشكِّلها الحربُ الإقليميةُ، وبالتالي أكَّدت على أهمية العمل الدبلوماسي. لذلك، يتعيَّن على إسرائيل والولايات المتَّحدة أن تُعطيا الأولوية لتسوية النزاع بين إسرائيل و"حزب الله".
نهج "حماس" و"حزب الله" قبل 7 تشرين الأوّل/أكتوبر
قبل عشرة أشهر، كانَ الهجوم الذي شنّته "حماس" يهدف إلى إشعال مواجهةٍ إقليميةٍ وتوجيه ضربةٍ غير مسبوقةٍ -وربّما قاضية- إلى إسرائيل. وشكَّلَ الهجوم الذي أُطلِقَ عليه اسم "طوفان الأقصى" تتويجًا لتحوُّلٍ تدريجيٍّ في ميزان القوى بين إسرائيل وقطاع غزَّة. فقد جمعت "حماس"، إلى جانب عددٍ من فصائل المقاومة الأصغر حجمًا في غزّة، ترسانةً كبيرةً من الصواريخ، وبنت شبكةً واسعةً من الأنفاق وأنظمة القيادة والسيطرة المتينة. وبالتوازي مع تأمين أجهزتها العسكرية الخاصة، استطاعت "حماس" أن تزعزع صمود إسرائيل واستمراريتها التشغيلية، وتُعطِّل الحياة اليومية بدرجةٍ ملحوظةٍ، وتُهدِّد العاصمة الإسرائيلية التجارية تل أبيب. وبالتالي، اكتسبت "حماس" تدريجيًّا نفوذًا وقدرةً كبيرةً للضغط على إسرائيل.
في السنوات التي سبقت الحرب، وتحديدًا منذ عام 2018، استغلَّت "حماس" قوَّتها العسكرية المتزايدة في مسعى ناجح لإرغام إسرائيل على الالتزام بحدودٍ وقواعد معيَّنةٍ. بالإضافة إلى ذلك، أجبرت "حماس" إسرائيل على منحها تنازلاتٍ سياساتيَّة واقتصاديَّة محدودة ولكنَّها مهمَّةٌ– الأمر الذي عزَّزَ شعور "حماس" بالقوَّة، وساعدَ في تهيئة الظروف المواتية لتنفيذ هجوم 7 تشرين الأوَّل/أكتوبر. بحلول شهر أيّار/مايو 2021، استطاعت "حماس" أيضًا توسيع نطاق ردعها من قطاع غزَّة إلى القدس الشرقيَّة والضفَّة الغربيَّة؛ حيث عمدت إلى إطلاق الصواريخ وتحوَّلت إلى عاملٍ يتوجَّب على إسرائيل أن تأخذه في الحسبان كلَّما برزت توتُّراتٌ في تلك المنطقتَيْن.
موضوعيًّا، بقيت العلاقات بين إسرائيل و"حماس" غير متكافئةٍ على الإطلاق؛ ولكنْ، من وجهة نظر "حماس"، وصلت قوَّتها العسكرية النسبية إلى نقطةٍ حاسمةٍ. ومن الواضح أنَّ "حماس" رأت التطوُّرات الحاصلة في إسرائيل بدءًا من مطلع عام 2023 –أي الأزمة الداخلية الحادّة في إسرائيل، وبروز حكومة يمينية متطرّفة، والتطبيع الوشيك بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية- كفرصة تستوجب منها التحرُّك.
من جهته، بنى "حزب الله" موقفه على تقييمٍ مشابهٍ إلى حدٍّ ما لهشاشة إسرائيل وعزوفها عن المخاطرة؛ ففي أعقاب حرب لبنان عام 2006، أصبحت العلاقات بين إسرائيل و"حزب الله" تخضع لمعادلة الردع المُتبادَل. لكنَّ قوَّة "حزب الله" تضاعفت أيضًا بشكلٍ متزايدٍ. في عام 2022، أطلقَ الحزب حملةً غير مسبوقةٍ من دبلوماسيَّة الإكراه، وقد تكلَّلت بالنجاح في نهاية المطاف، حيث هدَّدَ إسرائيل فعليًّا بالحرب إذا لم تتوصَّل إلى اتِّفاقٍ مع لبنان بشأن حدودهما البحرية المُتنازَع عليها. وفي آب/أغسطس 2022، نُقِلَ عن "قائد جهادي رفيع" –من المرجَّح أنَّه القائد العسكري الأبرز في "حزب الله" فؤاد شكر- قولُه إنَّ الحزب حوَّلَ تركيزه إلى "القدرات النوعية التي من شأنها تدمير الجيش الإسرائيليِّ، وليس منعه من تحقيق أهدافه فحسب". وقد أشرفَ شكر على تزوُّد "حزب الله" بالذخائر ذات التوجيه الدقيق حتَّى اغتياله مؤخَّرًا. وبعد أن نجحَ "حزب الله" في إرساء قواعد الردع في مواجهة إسرائيل في الساحة اللبنانية، بدأ في توسيع نطاق عمله: فعلى سبيل المثال لا الحصر، سمحَ لـ"حماس" بالانتشار عسكريًّا والعمل من جنوب لبنان. وباتت الجبهات المختلفة تتلاقى عسكريًّا واستراتيجيًّا، في مقابل تعرُّض إسرائيل للردع بشكلٍ متزايدٍ.
انخراط "حماس" في مِحوَر المقاومة المدعوم من إيران
إنَّ ما ساهمَ في تعزيز ثقة "حماس" بنفسها، وفي نهاية المطاف اتّخاذها قرار خوض الحرب، لم يكُن محصورًا بالتآزر المتزايد بينها وبين "حزب الله"، بل أيضًا رصّ صفوف مِحوَر المقاومة وانخراط "حماس" فيه. في الواقع، ارتقى كلٌّ من "حماس" و"حزب الله" وإيران بالعلاقات التي تربط بينهم إلى مستوى جديد في عام 2020. وبحلول عام 2022، كما أشارَ كاتبٌ مرتبطٌ بــ"حزب الله"، أصبحت "حماس في قلب مِحوَر المقاومة". وعلى الرغم من أنَّ هذا المِحوَر ليسَ تحالفًا رسميًّا كلاسيكيًّا، إلَّا أنَّه يُشكِّل شبكةً استراتيجيَّةً مُنسَّقةً من الجهات الحكوميَّة وغير الحكوميَّة المدعومة من إيران والتي تُعارِض النفوذ الغربيَّ في الشرق الأوسط وتسعى إلى إعادة تشكيل النظام الإقليميِّ. بالتالي، في حين انصبَّ الاهتمام بشكلٍ أساسيٍّ خلال العقدَيْن الماضيَيْن على البرنامج النوويِّ الإيرانيِّ، فإنَّ القلق الإقليميَّ بشأن الصعود الجيوسياسيِّ لإيران كانَ نابعًا من نفوذها التقليديِّ المتنامي في الشرق الأوسط.
شهدت السنوات الأخيرة توطيد العلاقات بين "حماس" والحرس الثوريِّ، والحوثيِّين في اليمن، وجماعات "المقاومة" في العراق. وفي الأشهر الماضية، حصلت وحدات الجيش الإسرائيلي في غزَّة على وثائق تعود لـ"حماس" وتنصُّ على إمكانية تسخير المِحوَر في خدمة ما أشارَ إليه قادة "حماس" سرًّا باسم "المشروع الأكبر". يُعزى تقييم "حماس" إلى حدٍّ كبيرٍ إلى تجربةِ نزاعها مع إسرائيل في أيّار/مايو 2021، الذي أَطلَقَ عليه الجيش الإسرائيلي اسم "عملية حارس الأسوار"، ولقَّبته حماس ب"سيف القدس". وشهد هذا النزاع أوَّل مشاركةٍ مُنسَّقةٍ، وإنْ كانت متقطِّعةً، لمِحوَر المقاومة وإنشاء غرفةِ عمليَّاتٍ مُشتَرَكةٍ في لبنان.
بعد عامَيْن، في نيسان/أبريل 2023، تعرَّضت إسرائيل مُجدَّدًا لهجماتٍ صاروخيةٍ مُنسَّقة من قطاع غزَّة وجنوب لبنان، في أعقاب تصاعُد وتيرة التوتُّرات في ساحةٍ مختلفةٍ تمامًا، وهي الحَرَم القدسيِّ. وفي الشهر التالي، أطلقت حركة "الجهاد الإسلامي" في فلسطين أكثر من 100 صاروخباتِّجاه إسرائيل إثر وفاة أحد نُشطائها في الضفَّة الغربيَّة عقب إضرابٍ عن الطعام في أثناء اعتقاله في إسرائيل. عندئذٍ، خاضَ الطرفان نزاعًا عنيفًا استمرَّ لمدَّة أربعة أيَّام؛ وبما أنَّ "حماس" تجنَّبت الانضمام إلى القتال، ساعدَ ذلك في تعزيز تصوُّر إسرائيل الخاطئ بأنَّها نجحت في ردع "حماس". ومهَّدَ التقارُب بين الجبهات المنفصلة سابقًا السبيل لسيناريو حربٍ إقليميَّةٍ متعدِّدة الجبهات. وعلى النحو المُتَوقَّع، بعد فترةٍ قصيرةٍ من انطلاق الهجوم المُفاجئ، دعا قادة "حماس" مُختَلَفَ شركائهم في مِحوَر المقاومة في المنطقة، وكذلك السكان العرب في إسرائيل، إلى المشاركة. ومن نواحٍ كثيرةٍ، قامت "حماس" بزجِّ المِحوَر، ولا سيّما "حزب الله"، في المعركة، ولوْ بدرجةٍ محدودةٍ خلافًا لما كانت تأمله "حماس".
المُحصِّلة لغاية هذه اللحظة: مفترقٌ وجوديٌّ
حقَّقت إسرائيل من جهةٍ، و"حماس" ومِحوَر المقاومة من جهةٍ أخرى إنجازاتٍ غير مسبوقةٍ على المستويَيْن الفرديِّ والجَمَاعيِّ خلال الحرب الجارية. ولم يتَّضح بعد إلى أيِّ مدى قد يؤدِّي النزاعُ المستمرُّ منذ 7 تشرين الأوَّل/أكتوبر إلى تعزيز المصالح الاستراتيجيَّة والجيوسياسيَّة للطرفَيْن أو تقويضها. ومع ذلك، تبرز عدَّة مساراتٍ مُحتمَلةٍ.
أوَّلًا، من المنظور الاستراتيجي حصرًا، شكَّلت قدرة "حماس" على فرض "تكاليف غير مقبولة" (وهو مصطلح مأخوذ من نظرية الردع النووي) على إسرائيل سببًا في التدمير المتبادل، وإن كان غير متناسبٍ في حالة الردِّ الإسرائيلي الذي دمَّر أجزاء كبيرةً من قطاع غزَّة. ومن منظور الردع، فإنَّ إسرائيل، التي عانت من أسوأ كارثةٍ في تاريخها، فرضت تكاليف مادّيةً وبشريةً هائلةً على غزَّة عمومًا، وعلى "حماس" وقيادتها خصوصًا، وشكّلت حملتها فعليًّا نوعًا تقليديًّا وغير متكافئٍ من أنواع التدمير المتبادَل. فالردُّ الإسرائيليُّ العنيف هو المثال الأكثر تطرُّفًا في تاريخها من نهج "الردع بواسطة العقاب". فتعمل إسرائيل على تدمير حركة مقاومة ردًّا على هجومٍ واسع النطاق تضمَّنَ مظاهر وحشيّةً للغاية من العنف الإرهابيِّ. والواقع أنَّ ممارسة هذا المستوى المدمِّر من العنف، الذي أدَّى إلى مقتل عشرات الآلاف من المدنيِّين الفلسطينيِّين، وبروز جانب "وجودي" في الخطاب الاستراتيجي للجهات المعنيّة، مثل إسرائيل و"حزب الله" وإيران، سيكون لهما تأثير عميق على إسرائيل وعلى أخصامها في المرحلة المقبلة.
ثانيًا، واستكمالًا للنقطة السابقة، كانت المفاجأة الكبرى بالنسبة إلى إسرائيل هي فشلها في ردع "حماس"، في تناقُضٍ مذهلٍ مع مزاعمها وتقييماتها قبل 7 تشرين الأوَّل/أكتوبر. ولا يقلُّ ذلك أهميةً عن أنَّ إسرائيل كانت مردوعةً ومقيَّدةً في مواجهة "حماس" و"حزب الله" حتَّى 7 تشرين الأوَّل/أكتوبر. وهذه الحقيقة وحدها ستدفع إسرائيل على الأرجح إلى تبنِّي نهجٍ استباقيٍّ صارمٍ تجاه هذين الطرفَيْن في المواجهات المستقبلية.
ثالثًا، إنَّ إخراج "حماس" من المعركة الاستراتيجية، ولو مؤقّتًا، سيؤدّي إلى قطع الرابط الاستراتيجي بين غزَّة وجنوب لبنان، لا بل سيُعيد تشكيل مِحوَر المقاومة نفسه. وسيكون على المِحوَر الذي تقوده إيران أن يجد بديلًا للتعويض عن فقدان قطاع غزَّة فعاليته الاستراتيجية. قد يُفضي ذلك إلى تعزيز التعاون بين قوى مِحوَر المقاومة المتبقِّية في المنطقة. وفي هذا الصدد، برزت حركة الحوثيين في اليمن (التي تُعرَف رسميًّا باسم "أنصار الله") كلاعبٍ إقليميٍّ حازمٍ وصامدٍ وفعَّالٍ. ونظرًا لموقعهم الجيوستراتيجيِّ، لم يكتفِ الحوثيُّون بتحدِّي إسرائيل عبر إطلاق دفعاتٍ متكرّرةٍ من الصواريخ والمُسيَّرات البعيدة المدى فحسب، بل أثبتوا أيضًا قدرتهم على تعطيل حركة السفن الدولية بشكلٍ كبيرٍ في مضيق باب المندب، وبالتالي في قناة السويس المصريَّة التي لا تقلّ أهميةً عنه. في السنوات الأخيرة، كان الحوثيُّون مجرّد لاعب إقليمي، غير أنَّهم انخرطوا في مِحوَر المقاومة وتحوَّلوا إلى مصدرِ قلقٍ على الساحة الدوليَّة. بالإضافة إلى ذلك، وإلى جانب محاولاته الرامية إلى زعزعة الاستقرار في الضفّة الغربية، من المتوقَّع أن يُضاعِف المحور جهوده أيضًا لتهديد الحدود الإسرائيلية-الأردنية. ففي شهر حزيران/يونيو، أشارَ مسؤولٌ في كتائب "حزب الله" العراقية إلى أنَّ "الأردن مهمٌّ جدًّا بالنسبة إلى مِحوَر المقاومة نظرًا لموقعه الجغرافي". وبالطبع، قوبِلت هذه التطوُّرات بزيادة التعاون بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية وشركائهما الإقليميّين.
رابعًا، سوف يحتاج "حزب الله"، الذي يتمحور منطقه واستراتيجيته بشكلٍ أساسيٍّ حول مفهوم الردع، إلى التعويض عن خسارة حليفه الاستراتيجي في غزَّة. في الواقع، قد تصبح إسرائيل في وضعٍ أفضل للتصدِّي بشكلٍ مباشرٍ لـ"حزب الله"، الذي يشكِّل رأس الحربة في استراتيجيَّة الردع الأمامية التي تنتهجها إيران، كما أنَّه من نواحٍ كثيرةٍ يُعَدُّ الحلقة الأهمَّ في مِحوَر المقاومة ككلٍّ. ولا يترك النزاع الحالي مجالًا للشكِّ في أنَّ الحرب الشاملة بين إسرائيل و"حزب الله" لن تكون ببساطةٍ "حرب لبنان الثالثة"، بل مواجهةً على صعيدٍ مختلفٍ تمامًا. فعلاوةً على الدمار الذي سيلحق بالطرفَيْن، قد تتوسَّع هذه الحربُ على الأرجح إلى ما هو أبعد من نطاق إسرائيل ولبنان.
على الرغم من أنَّ هذا الوضع قد يُمهِّد الطريق للردع المتبادل ولفترةٍ مطوَّلةٍ من الاستقرار الاستراتيجيِّ، إلَّا أنَّ تحدّياتٍ كبرى تلوحُ في الأفق. فمن المتوقَّع أن يُسرِّع "حزب الله" بناء قوَّته العسكريَّة ساعيًا إلى الحصول على قدراتٍ وأنظمة دفاع جوِّيٍّ أكثر دقَّةً في التوجيه. ومن المُرجَّح أن تُظهِر إسرائيل عزمًا متزايدًا في محاولاتها لفرض الخطوط الحمراء ومنع "حزب الله" من تجاوُز تفوُّقها الجوِّيِّ. فقد زالَ حاجز الخوف الذي منعَ إسرائيل من العمل في لبنان خلال السنوات الـ15 تقريبًا قبل الحرب الحالية، ومن انتهاك المجال الجوّي اللبناني منذ عام 2019.
وفي حال عدم التوصُّل إلى تسويةٍ أو اتِّفاقٍ لضبط الحدود الإسرائيليَّة-اللبنانيَّة، من شبه المؤكَّد أن تُساهِم هذه العوامل في إبقاء النزاع قائمًا بين إسرائيل و"حزب الله"، أقلّه بوتيرةٍ معيَّنةٍ. في هذا السياق، من منظورٍ جيوسياسيٍّ، يمكن القول إنَّ الجبهة الإسرائيليَّة-اللبنانيَّة ستبقى العامل الأهمَّ. ويعتمد الاستقرار الإقليمي، من نواحٍ كثيرة، على قدرة البلدَيْن على معالجة جميع نقاط الخلاف، وترسيخ تسويةٍ دبلوماسيةٍ معيّنةٍ، وتسهيل عودة المدنيّين إلى شمال إسرائيل وجنوب لبنان بعد إعادة إعمارهما.
خامسًا، في ما يتعلّق ببروز شبكة "مقاومة" مُنسَّقةٍ ومتعدّدة الجبهات في المنطقة، فقد أثبتت الأشهر الأخيرة بوضوحٍ تامٍّ أنَّ مِحوَر المقاومة يُشكِّل قوّة إقليمية يُحسَب لها ألف حساب. وصحيحٌ أنَّ إسرائيل تغلَّبت على حاجز الخوف في مواجهة "حزب الله"، غير أنَّ إيران تغلّبت أيضًا على حاجزٍ خاصٍّ بها من خلال استهداف إسرائيل مُباشرةً من أراضيها. ففي نيسان/أبريل، عمدت إيران، بالاشتراك مع الحوثيين في اليمن وبدعمٍ من جماعات المقاومة العراقية، إلى إطلاق مئات الصواريخ الباليستية والمُسيَّرات باتّجاه إسرائيل ردًّا على إقدام إسرائيل على قتل شخصيَّاتٍ إيرانيَّةٍ رفيعة المستوى في ما وصفته إيران بمبنى قنصليتها في دمشق. وقد أنتجَ ذلك مستوى جديدًا من العنف الإقليميِّ ستكون له عواقب جدِّيَّة على حسابات الأطراف المتنازعة وتقييمها للتهديدات.
المرحلة المقبلة: أهمية العمل الدبلوماسيِّ
على الرغم من أنَّ النزاع الحالي يتحدَّى الخطوط الأساسية المحدَّدة، كما أشرنا أعلاه، فإنَّ الأشهر الأخيرة أوضحت بشكلٍ عامٍّ حجم الدمار المُحتمَل الذي قد تُخلِّفه الحرب الإقليمية العشوائية في حال اندلاعها. كذلك، برهنت هذه الأشهر إلى أيِّ مدى أصبحَ النزاع بين إسرائيل و"حزب الله" قضيةً إقليميَّةً مركزيَّةً.
فقد تحوَّلَ "حزب الله" إلى قوَّةٍ عسكريَّةٍ فعَّالةٍ، بل أصبحَ اليوم مرتبطًا ارتباطًا استراتيجيًّا بقوى وساحات إقليمية أخرى أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. ولهذا الوضع الهشِّ تأثيرٌ مباشرٌ على الولايات المتَّحدة وإيران. لذا، يتوجَّب على هاتين الدولتَيْن أن تُخطِّطا وتتصرَّفا على افتراض أنَّ الحرب بين إسرائيل و"حزب الله" قد تزجُّهما أيضًا في صدامٍ مباشرٍ. وهذا يُعيدُنا بالذاكرة إلى واقع الحرب الباردة، وإنْ كانَ التشبيه غير صائب تمامًا، حيث تصرَّفت القوَّتان الرئيسيتان بحذر إدراكًا منهما لاحتمال تدحرج النزاع المحلِّي بين وكلائهما المتنافسين إلى مواجهةٍ بين الولايات المتَّحدة والاتِّحاد السوفياتي. وقبلَ عقدٍ من الزمن، في مواجهة خياراتٍ ثنائيَّةٍ غير محبَّذةٍ، نجحَ كلٌّ من الولايات المتَّحدة وإيران في إرساء أرضيَّة دبلوماسيَّة مُشتَرَكة.
وفي حين تمكَّنَ مِحوَر المقاومة من رصِّ صفوفه بمستوى لم يسبق له مثيل، إلَّا أنَّ أعضاءَه المختلفين لا يتشاطرون القيود المحلِّية نفسها. على سبيل المثال، يتعرَّض "حزب الله" لنقدٍ لاذعٍ من الأحزاب اللبنانيَّة التي لا تتَّفق مع رؤيته أو استعداده للمجازفة من أجل الفلسطينيين. أمَّا سوريا، التي مزَّقتها سنوات الحرب، فقد اكتفت بالعمل كساحةٍ لوجستيَّةٍ. وتُعَدُّ هذه التناقضات والقيود مهمَّةً للغاية في المواجهة ضدَّ المِحوَر.
يبدو أنّه ما من حلٍّ سهلٍ أو حتّى عمليٍّ للنزاع الإسرائيليّ-الفلسطينيّ. لكنَّ الحرب أوضحت الحقيقة التالية بشكلٍ صارخٍ: إنَّ تجاهُل القضية الفلسطينية أو تجاوُزها بأيِّ شكلٍ من الأشكال هو رهانٌ عبثيٌّ. فالنهج الإسرائيليُّ قبل الحرب، الذي مُنِع بموجبه الفلسطينيُّون من ممارسة حقِّ النقض بشأن التطبيع الإسرائيلي-السعودي -كما أكَّدَ رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو في الأمم المتَّحدة قبل أسبوعَيْن فقط من اندلاع الحرب- أدَّى إلى تسريع المجازفة الهائلة التي أقدمَت عليها "حماس".
في ضوء كلِّ النقاط المذكورة أعلاه، تبرز أهمية العمل الدبلوماسيّ الإقليميّ؛ فنحن الآن نُواجِه سؤالًا خطيرًا حول ما إذا كانَ التوازن الإقليميُّ ممكنًا في الوقت الحالي، أم أنَّ المنطقة وشعوبها ستعاني لا محالة من المزيد من الدمار والاضطراب قبل تحقيق الاستقرار.
دانيال سوبلمان أستاذ مساعد للعلاقات الدولية في الجامعة العبرية في القدس وعضو هيئة التدريس في مبادرة الشرق الأوسط لدى مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية التابع لكلية كينيدي في جامعة هارفارد.
معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.