MEI

إرث أوسلو من الفشل بعد ثلاثين عامًا

سبتمبر 13, 2023

خالد الجندي


مشاركة

مر ثلاثون عامًا منذ أن وقَّع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، محاطيْن بالرئيس المتفائل بيل كلينتون، على "إعلان المبادئ" التاريخي الخاص باتفاقية أوسلو، وذلك في حديقة البيت الأبيض. كان الاتفاق إيذانًا ببدء حقبة جديدة في عملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة. ودَعَتْ اتفاقية أوسلو إلى فترة انتقالية مدتها خمس سنوات من الحكم الذاتي الفلسطيني، تُحلُّ في نهايتها جميعُ القضايا الأساسية للصراع، بما في ذلك القدس واللاجئون الفلسطينيون والمستوطنات الإسرائيلية والحدود النهائية. وعلى الرغم من أن اتفاقيات أوسلو المختلفة لم تحدد هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة، إلا أن حل الدولتين كان الهدف المُعلن لعملية أوسلو للسلام، التي تقودها الولايات المتحدة منذ عام 2000. ويستمر إطار عمل أوسلو في تحديد جميع جوانب العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية تقريبًا، وكذلك النهج الذي تتبعه الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الأوسع في عملية السلام.

ومع ذلك، فإن طول عُمر أوسلو الاستثنائي لا يُعتَبَر شهادةً على فائدتها، بل يُعَد دليلًا على فشلها التام والمستمر. فبعد ثلاثة عقود من تلك المصافحة الشهيرة بين عرفات ورابين، أصبح السلام والهدف المعلن المتمثل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة أبعد من أي وقت مضى. فالاحتلال الإسرائيلي والمستوطنات غير القانونية أكثر رسوخًا، في حين تظل المؤسسات السياسية والحاكمة الفلسطينية منقسمة ومختلة. علاوةً على ذلك، فإن إطار أوسلو الذي عفا عليه الزمن ليس فقط منفصلًا عن الواقع إلى الحد الذي لا يسمح له بالعمل كطريق جدير بالثقة نحو السلام، بل إنه جزء لا يتجزأ من نظام الاحتلال الإسرائيلي غير المحدود وإخضاع الفلسطينيين.

إرث الفشل

أنشأت أوسلو جيوبًا للحكم الذاتي الفلسطيني في أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة، على الرغم من بقاء الأمن والسيطرة المادية المهيمنة في أيدي إسرائيل. وفي حين كان الأمل هو أن تتنازل إسرائيل تدريجيًّا عن المزيد من الأراضي والسيطرة للسلطة الفلسطينية المُنشأة حديثًا، إلا أنه قد تم تجميد العملية فعليًّا في عام 1998. ومنذ ذلك الحين، تعمل السلطة الفلسطينية في حوالي 39% من الضفة الغربية بالرغم من استمرار توغلات الجيش الإسرائيلي كسلوك منتظم. أما نسبة الـ 61% الأخرى، والتي تم تخصيص معظمها كأراضٍ احتياطية للتوسع الاستيطاني المستقبلي، فلا تزال تحت السيطرة المدنيَّة والعسكريَّة الإسرائيليَّة الحصرية، وهي محظورة إلى حدٍّ كبير على الاستخدام والتطوير من قِبَل الجانب الفلسطينيّ.

وكان من المقرر أن تكتمل العملية بحلول مايو/أيار 1999، لكن التأخير المتكرر، وإعادة التفاوض، والافتقار التام إلى تنفيذ الاتفاقيات المختلفة، إلى جانب اندلاع أعمال العنف بانتظام وسنوات من المفاوضات المتقطِّعة، حوَّلت ترتيبات أوسلو "المرحليَّة" فعليًّا إلى حقائق دائمةٍ. فضلًا عن ذلك، فإن أوسلو لم تكن عمليةً واحدةً، بل عمليَّتين، في شكل عمليةِ تسويةٍ تقليديةٍ للصراعات تجمع طرفين مع عملية "بناء الدولة" للفلسطينيين. ومن بين أمور أخرى، كان هذا يعني أن الجهات الفاعلة الخارجية -بما في ذلك الولايات المتحدة والمانحون الأجانب، وحتى إسرائيل- أصبح لهم الآن رأيٌ مباشرٌ -وفي بعض الحالات حق النقض الفعال- في الجوانب الرئيسة للحياة السياسية الفلسطينية.

استندت عملية أوسلو إلى فكرةٍ مفادها أنَّ التقدم التدريجيَّ في القضايا "اليوميَّة" الأصغر نطاقًا -مثل التعاون الأمني وتحسين الظروف الاقتصادية- من شأنه أن يساعد في بناء الثقة بين الأطراف وتمكينهم مستقبليًّا من معالجة قضايا الصراع الجوهرية والأكثر صعوبة. وكانت النظرية تتلخَّص في أن تحسين الأمن للإسرائيليين من شأنه أن يسمح لقادة إسرائيل بالمجازفة من أجل السلام، ويتضمن ذلك تسليم الأراضي للفلسطينيين، وغير ذلك من التنازلات. وعلى نحو مماثل، فإن المساعدات الاقتصادية للفلسطينيين من شأنها أن تساعد في تجفيف الدعم للمقاتلين الفلسطينيين في حين تحول قادتهم إلى شركاء سلام حقيقيين. لكن المشكلة الوحيدة في هذا النهج هي أنه لم ينجح قط، ومن المشكوك فيه أن ينجح على الإطلاق.  فبالتركيز على طمأنة الإسرائيليين وإصلاح الفلسطينيين، تجاهلت عمليةُ أوسلو الدوافعَ الأساسية للصراع، وهي -على وجه التحديد- الاحتلال العسكري الإسرائيلي المستمر والاستعمار وإنكار حقوق الفلسطينيين.

وفي حين كان هناك الكثيرُ من اللومِ، فإن فشل أوسلو كان يتوقف في نهاية المطاف على عدة عوامل بنيويَّة. أولًا وقبل كل شيء، كانت القوة غير المتكافئة بشكل فريد والديناميكيات السياسية التي كانت موجودة ليس فقط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كمستعمر ومحتل، ولكن أيضًا بين الولايات المتحدة والفلسطينيين نظرًا لمركزية العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وباعتبارهما أقوى فاعلين في هذه العملية، كان لدى صناع القرار الأميركيين والإسرائيليين الحافز والوسائل اللازمة لتحويل أكبر عدد ممكن من المخاطر والتكاليف السياسية إلى الفلسطينيين كلما كان ممكنًا. وكان هذا صحيحًا خاصةً في أوقات الأزمات، مثل انهيار قمة كامب ديفيد، وما تلا ذلك من اندلاع انتفاضة الأقصى في أواخر عام 2000. ورغم أن كافة الأطراف ساهمت في فشل المفاوضات وتصاعد العنف، إلا أن الأمر كان أسهل كثيرًا، ومن الأقل كلفة بالنسبة لكلينتون، لإلقاء اللوم على الفلسطينيين فقط، وهو النمط الذي سيتكرر مرارًا وتكرارًا.

وفي الوقت نفسه، قام صُنَّاعُ السياسة الأمريكيُّون بشكل روتيني بتغيير أهدافهم لصالح إسرائيل. فقبل وقت طويل من سعي إدارة ترامب إلى إضفاء الشرعية رسميًّا على المستوطنات الإسرائيلية مع التخلص من قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242، والذي جسَّد صيغة "الأرض مقابل السلام" التي ارتكزت عليها السياسة الأمريكية وجميع المفاوضات العربية الإسرائيلية منذ عام 1967، فقد كانت الإدارات السابقة قد بدأت بالفعل في عملية تآكل القواعد الأساسية لعملية السلام. وعلى الرغم من معارضتها الخطابية للمستوطنات الإسرائيلية باعتبارها عائقًا أمام السلام، فقد وجدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة من كلا الحزبين طرقًا لاستيعاب التوسع الاستيطاني الإسرائيلي من خلال استثناءات "النمو الطبيعي"، والقدس الشرقية، والكتل الاستيطانية الكبيرة، وغيرها من الذرائع.

وبالمثل، في حين أن الإدارات السابقة لم تنكر وجود الاحتلال الإسرائيليّ، كما فعل دونالد ترامب، إلا أنها قلَّلت بشكلٍ روتينيٍّ من أهميته المركزيَّة في الصراع، من خلال التركيز على القضايا الثانويَّة مثل الأمن والاقتصاد وبناء المؤسسات. ويعود ذلك -إلى حدٍّ كبير- إلى عدم التكافؤ الهائل في القوة بين الجانبين، بل "وتم دمجه" أيضًا في عملية أوسلو، التي ركَّزت بنفس القدر -وفي كثيرٍ من الأحيان أكثر- على تحويل السياسات والمؤسسات الفلسطينيَّة، كما عملت على تغيير الديناميكيَّات المُختلَّة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ومن أبرز الأمثلة على ذلك "خارطة الطريق"، وهي خطة السلام المدعومة دوليًّا، والتي طرحتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا في ذروة انتفاضة الأقصى عام 2003. وعلى الرغم من وضع التزامات موازية لكلا الطرفين، إلا أنه قد تم تخريب خارطة الطريق في نهاية المطاف، وتحويلها بشكلٍ فعال إلى أداة لفرض الشروط ومخطط "لإصلاح" السياسة الفلسطينية.

وتسلِّط كلُّ هذه الأمور الضوء على الفشل المحوري الأكثر تجلِّيًا في أوسلو، والذي يتمثل في غياب المساءَلة المتبادَلة. وحتى في الوقت الذي ظلَّ فيه البيتُ الأبيض والكونجرس يقِظين في محاسبة القادة الفلسطينيين على مجموعة من الانتهاكات، الحقيقيَّة والمتخيَّلة، من التحريض إلى دعم الإرهاب، تجنَّب صُناع السياسات الأمريكيون بشكل ثابت أي مساءلة ذات معنى عن الانتهاكات الإسرائيلية، سواء التوسع الاستيطاني أو قتل المدنيين، أو غيرها من الإجراءات الإشكالية.

ونتيجةً لذلك، انفصلت العمليةُ تمامًا عن الحقائق على الأرض. وعلى النقيض من عقيدة أوسلو المركزية، فإن فترات تحسُّن الأمن للإسرائيليين وتعزيز الحكم للفلسطينيين لم تُولِّد تقدمًا نحو إقامة الدولة الفلسطينية أو تجعل القادة الإسرائيليين أكثر استعدادًا للتوصُّل إلى تسوية. بل كان العكس هو الصحيح. وفي أوقات الهدوء النسبي، لم يكن لدى إسرائيل (وحليفتها الولايات المتحدة) أي حافز للابتعاد عن الوضع الراهن، وفي أوقات العنف، لم يكن لديها أي حافز للابتعاد عن الوضع الراهن. ولم يأتِ الامتثال الفلسطيني بأي مكافآت، كما أن الانتهاكات والتجاوزات الإسرائيلية لم تسفر عن أية عواقب.

وأيًّا كان ما قدَّمتْه أوسلو في التسعينيات، فهو قديمٌ للغاية، وغيرُ متوازنٍ، ومنفصلٌ عن الحقائق الحالية، بحيث لا يكون له أي قيمة اليوم، سواء كوسيلة لحل الصراع أو حتى كهدفٍ أكثر تواضعًا يتمثل في إدارته. إن توقُّع نجاح إطار أوسلو في إحلال السلام هو بمثابة محاولة استخدام نظام التشغيل ويندوز 95 القديم على أجهزة الكمبيوتر الحديثة؛ حيث تم حذف تحديث "البرنامج" الوحيد الذي تم تقديمه على الإطلاق -خارطة الطريق لعام 2003- حتى قبل أن يتم تثبيته. فبعد مرور ما يقرب من عقد من الزمن على المفاوضات الأخيرة التي رعتها الولايات المتَّحدة، لا تزال الظروف على الأرض تتدهور بسبب التوسع الاستيطانيّ الإسرائيليّ المتسارع وعمليات الطرد، والعنف الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي والمستوطنون، فضلًا عن الهجمات المتزايدة التي يشنها الفلسطينيون على المدنيين الإسرائيليين.

إنَّ موجة العنف الأخيرة في الضفة الغربيَّة، وهي الأكثر دمويَّةً منذ عقدين من الزمن، وهي تسلط الضوء في الوقت نفسه على فشل مركزي في إطار أوسلو، والمخاطر المترتبة على الاعتماد على عملية سلام غير موجودة. وفي حين أن الدور الأساسي للتعاون الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل هو منع الهجمات على الإسرائيليين من الجنود والمدنيين على السواء، إلا أنه لا يوجد أي إجراءات أو آليَّات لحماية حياة وممتلكات الفلسطينيين من العنف الذي يرتكبه الجنود أو المستوطنون الإسرائيليُّون، والذي غالبًا ما يكون مرتبطًا ببعضه البعض. وفي الوقت نفسه، أكدت القمم الأمنيَّة التي رعتها الولايات المتحدة في الربيع الماضي على عدم جدوى الاستمرار في سياسة "خفض التصعيد" في ظل غياب أفق سياسي أو آليَّات للتنفيذ. وبمجرد التوصل إلى اتفاق، يتم التنصل منه بشكل مُخزٍ ومحرج من قبل الوزراء الرئيسيين في حكومة نتنياهو.

سيارات إسعاف تابعة للهلال الأحمر تنقل اثنين من الفلسطينيين اللذيْن قُتِلَا برصاص الجيش الإسرائيلي في مخيم بلاطة للاجئين خلال مداهمة للمخيم شرق نابلس في الضفة الغربية المحتلة في مايو 2023. تصوير ناصر اشتية/جيتي إيماجيز

واقع الدولة الواحدة

وفي الوقت نفسه، تشير الاتجاهات الحالية إلى الزوال الحتمي لحل الدولتين؛ فبعد أن فقدت معظم مساعدات المانحين الدوليين، إلى جانب شرعيتها المحلية، أصبحت السلطة الفلسطينية اليوم في حالة انهيارٍ بطيءٍ. فقد أدت سنوات من الانقسام السياسي والركود، بما في ذلك الانقسام المنهك الذي دام خمسة عشر عامًا مع حركة حماس، فضلًا عن الفساد المتزايد والاستبداد في السلطة الفلسطينية، إلى تدمير مصداقية السلطة الفلسطينية في الداخل، حتى كما أن وجودها المادي على الأرض قد بدأ في التقلُّص. فوسط أعمال العنف المستمرة في شمال الضفة الغربية، تنازلت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية إلى حد كبير عن سيطرتها للجماعات المسلحة العازمة على تنفيذ هجمات على الجنود والمستوطنين الإسرائيليين. وفي الوقت نفسه، أصبح الفلسطينيون العاديون ينظرون للسلطة الفلسطينية باعتبارها عائقًا. وللمرة الأولى على الإطلاق، تؤيد الأغلبية في الأراضي المحتلة الآن حلها.

إن إخفاقات عملية السلام والسلطة الفلسطينية تتناقض تناقضًا صارخًا مع النجاح الهائل الذي حققه المشروع الاستيطاني الإسرائيلي الآخذ في التوسع، والذي يهيمن الآن على المشهد المادي والسياسي في الضفة الغربية. فمنذ بداية عملية أوسلو، ارتفع عدد المستوطنين في إسرائيل من حوالي 270 ألف في عام 1993 إلى أكثر من 700 ألف اليوم. علاوةً على ذلك، فقد أفسحت عقودٌ من الضم "الزاحف" بحكم الأمر الواقع المجالَ أمام الضم الرسمي بحكم القانون في أعقاب القرار الذي اتخذته حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة بنقل السلطات الرئيسية على الضفة الغربية من الجيش الإسرائيلي إلى السلطات المدنية.

ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن الإجماع غير المستقر المحيط بحل الدولتين داخل السياسات الإسرائيلية والفلسطينية، وكذلك الأمريكية، يتفكك بشكل مطرد. ويُعَدُّ هذا الأمر صحيحًا خاصةً في إسرائيل، حيث إنه حتى قبل وصول الائتلاف القومي المتطرف الحالي إلى السلطة، كانت الأحزاب اليمينية المعارضة للدولة الفلسطينية تهيمن على الكنيست والحكومات المتعاقبة طيلة الجزء الأعظم من العقدين الماضيين. ولكن هذا ينطبق أيضًا على أعداد متزايدة من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وعلى الرغم من أن القيادة الفلسطينية لا تزال ملتزمة بشدة بهدف الدولتين، إلا أن الدعم الشعبي لقيام دولة مستقلة في الضفة الغربية وغزة انخفض تاريخيًّا إلى 27 في المائة، وهو أدنى مستوى له منذ توقيع أوسلو في عام 1993، وذلك مع تخلي المزيد والمزيد من الفلسطينيين عن هدف الدولة المستقلة لصالح النضال من أجل المساواة في الحقوق في دولة واحدة.

إن الصورة في واشنطن قاتمة بنفس القدر؛ ففي حين أن دعم حل الدولتين كان ذات يوم مسألة إجماع بين الحزبين، إلا أن الحزب الجمهوري قد ألغى رسميًّا الإشارات إلى الدولتين من برنامجه الحزبيّ، في حين رفض "الفكرة الخاطئة القائلة بأن إسرائيل دولة محتلة". وعلى الرغم من أن معظم الديمقراطيين ما يزالوا ملتزمين بهدف الدولتين، إلا أن إدارة بايدن كانت غير مبالية إلى حد كبير. وفي تناقض صارخ مع سعيها الحثيث للتطبيع السعودي-الإسرائيلي، أوضحت إدارة بايدن قولًا وفعلًا أنها لا تنوي استثمار رأس مال سياسي كبير سواء في الفلسطينيين أو في تسوية إسرائيلية-فلسطينية. وبالإضافة إلى التقليل من أهمية حل الدولتين، لم تعد الإدارة الحالية تعتبره "مصلحةً أمنيَّةً وطنيَّةً حيويَّةً" للولايات المتحدة: لقد حافظ الرئيس جو بايدن بشكل فعال على الجوانب الرئيسة لإرث ترامب، بما في ذلك مخالفة سياسة وزارة الخارجية طويلة الأمد بشأن عدم شرعية الاستيطان الإسرائيلي والتخلي عن القرار  242.

كما أن الاتجاهات الإقليمية تعمل ضد هدف التوصُّل لحل الدولتين عن طريق التفاوض. فإلى جانب تقليص مساعداتها المالية للفلسطينيين، تبتعد دول الخليج العربية عن هذه القضية سياسيًّا ودبلوماسيًّا. وتُعَدُّ اتفاقيات إبراهام، التي شهدت توقيع الإمارات العربية المتحدة والبحرين، ثم المغرب لاحقًا، اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، علامةً على أن الأنظمة العربية قد ابتعدت إلى حد كبير عن القضية الفلسطينية وحل الدولتين، حتى ولو كانت الشعوب العربية لا توافق على ذلك.

إن الزوال المُحتَمَل لحل الدولتين وترسيخ واقع الدولة الواحدة غير المتكافئ إلى حدٍّ كبير، رغم أنه الأكثر ضررًا للفلسطينيين، يثير أيضًا أسئلة صعبة ولا مفر منها بالنسبة لإسرائيل ومؤيديها. وهناك بالفعل إجماع ناشئ بين جماعات حقوق الإنسان الدولية، بما في ذلك منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، فضلًا عن المنظمات الإسرائيلية، على أن الواقع الحالي هو واقع فصل عنصري. ورغم أن العديد من الساسة الإسرائيليين، بما في ذلك إيهود باراك وتسيبي ليفني وآخرين، حذروا منذ فترة طويلة من مثل هذه النتيجة في حال أصبح حل الدولتين مستحيلًا، فقد استنتج عدد قليل منهم أن ذلك اليوم قد أتى بالفعل. وقال رئيس الموساد السابق تامير باردو: "في منطقة يتم فيها محاكمة شخصين بموجب نظامين قانونيين، فهذه دولة فصل عنصري". ورغم أن العقلاء قد يختلفون حول ما إذا كانت التصرفات الإسرائيلية تفي بالتعريف الفني لمفهوم الفصل العنصري، فلا يمكن إنكار الواقع الصارخ وغير العادل وغير المستدام القائم اليوم.

فلسطينيون عند نقطة تفتيش وهم في طريقهم لحضور صلاة الجمعة الأخيرة خلال شهر رمضان 2021، في المسجد

 

مستقبل ما بعد أوسلو

الاستغناء عن إطار أوسلو لا يعني بالضرورة تفكيك الهياكل القائمة، مثل السلطة الفلسطينية أو حتى هدف الدولتين -على الأقل ليس قبل أن يُستَبدَلا بشكل مسؤول- على الرغم من أن ذلك سيتطلب تحولًا أساسيًّا في العقلية والأولويات من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأصحاب المصلحة الآخرين. وبدلًا من التركيز على حل الدولتين المُتخيَّل في المستقبل، ينبغي أن ينصبَّ التركيزُ على مواجهة واقع الدولة الواحدة الفعلي القائم اليوم، بما في ذلك سبل منع المزيد من العنف ونزع الملكية، وغير ذلك من الانتهاكات. وسيتطلب هذا أيضًا إعادة التأكيد وإعادة التركيز على المبادئ الأساسية للقانون الدولي، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة والقرار رقم 242، فضلًا عن حق كلٍّ من الفلسطينيين والإسرائيليين في العيش في سلام وأمن وحرية. وأخيرًا، في حين أن مسارًا غير أوسلو لحل الدولتين ربما لا يزال موجودًا، فقد حان الوقت للنظر في أساليب بديلة، مثل إمكانية قيام دولة واحدة تتمتع بحقوق متساوية للجميع أو سيناريوهات هجينة مثل الكونفدرالية، مهما بدت غير كاملة أو غير مُحتَمَلة. بعد كل شيء، لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على اعتبار رفض فكرة الدولة الفلسطينية إلى جانب إسرائيل بمثابة هرطقة سياسية. وفي ظل غياب مثل هذا التفكير الجديد، فإننا نحكم فعليًّا على الطرفين، وخاصة الفلسطينيين، بالفوضى والمعاناة لفترة طويلة.

 

خالد الجندي هو كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط ومدير برنامج المعهد حول فلسطين والشؤون الإسرائيلية الفلسطينية. وهو مؤلف كتاب "النقطة العمياء: الولايات المتحدة والفلسطينيون من بلفور إلى ترامب" الصادر في عام 2019.

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.

متعلق بالمنطقة

البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك