MEI

إدلب تقفُ عند مفترق طرق: هيئة تحرير الشام تحاول اجتياز انقساماتها الداخلية وسط سخطٍ شعبيّ

مايو 13, 2024


مشاركة

عروة عجوب

بينما تتَّجه أنظار العالم نحو الحرب الإسرائيلية في غزَّة، تشهد منطقة شمال غرب سوريا اضطرابًا سياسيًّا كبيرًا قد يُزعزع استقرار البلد بشكلٍ خطير. ففي الأشهر الثلاثة الماضية، واجهت "هيئة تحرير الشام"، وهي جماعة إسلاميةٌ سنِّيةٌ مُسلَّحةٌ تحكم ما يزيد عن 4.5 ملايين نسمة في إدلب، موجةً واسعة من الاحتجاجات. يرفض المتظاهرون السياسات التي تنتهجُها الهيئة، ويُطالِبون بإقالة زعيمها أبو محمَّد الجولاني، وإطلاق سراح المُعتقَلين، وتحسين الظروف المعيشية. وتأتي هذه التحرُّكات الاحتجاجية في مرحلةٍ عسيرةٍ بالنسبة إلى "هيئة تحرير الشام" التي خاضت في الآونة الأخيرة تحدِّيات أخرى لا يُستهان بها أيضًا، ولا سيَّما اغتيال أحد أبرز قادتها في 5 نيسان/أبريل، وهو أبو ماريا القحطاني الذي أُطلِقَ سراحه من سجنٍ تُديره الهيئة بعد أكثر من ستَّة أشهر على احتجازه بتُهمة العمالة المزعومة لجهاتٍ خارجية. وفي كانون الأوّل/ديسمبر 2023، انشقَّ عن الهيئة أبو أحمد زكور، وهو شخصيةٌ أخرى رفيعة المستوى، وكانَ مسؤولًا عن علاقات الهيئة مع الجيش الوطني السوري. هربَ أبو أحمد زكور إلى مناطق سورية تُسيطر عليها تركيا بعد أن أرسلت الهيئة وحدةً مدجَّجةً بالسلاح لإلقاء القبض عليه، ما أدَّى إلى مقتل رفيقه.

تتناول هذه المقالة هذه التطوُّرات الأخيرة، وتُحاجج بأنَّ الاضطراب السياسي الحالي واغتيال القحطاني نتجَا على الأرجح عن تحوُّل "هيئة تحرير الشام"، بدءًا من عام 2017، من جماعة جهادية تهتمُّ بالدرجة الأولى بمحاربة النظام السوري وحلفائه إلى نظامٍ زبائنيٍّ تتنافس فيه الفصائل الداخلية المختلفة سعيًا وراء المكاسب المالية والنفوذ. تقفُ "هيئة تحرير الشام" الآن أمام منعطفٍ حَرِجٍ: فحالة التوتُّر العامِّ المنتشِرة على نطاقٍ واسع، والانقسامات الداخلية العميقة بين الشخصيات الأكثر نفوذًا داخل الجماعة، تُشكِّل تحدِّيًا هائلًا يُهدِّد وحدة "هيئة تحرير الشام" وتماسُكَها. وإذا لم تنجح في تلبية المَطالِب العامَّة وردم الهوَّة بين الفصائل المتنافِسة، سيصعب التنبؤ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى بمستقبل منطقة شمال غرب سوريا.[1]

حالة الاضطراب العام

اندلعت شرارة السخط الشعبي في مناطق مختلفةٍ من إدلب نتيجة مجموعة من العوامل، ومنها الظروف المعيشية المزرية التي تُقاسيها المجتمعات المحلِّية. تفاقمت هذه الصعوبات بسبب عدم كفاية المساعدات المُرسَلة إلى إدلب في أعقاب الزلزالَيْن اللذين وقعا في شباط/فبراير 2023، إلى جانب سوء الإدارة والفساد داخل "هيئة تحرير الشام". وتزدادُ الأمور تعقيدًا في ظلِّ انعدام الاستقرار الاقتصادي الذي يُعزى بدرجةٍ كبيرةٍ إلى تدهور قيمة الليرة التركية مقابل الدولار، ما أدَّى إلى ارتفاع الأسعار. كذلك، تشتدُّ الضغوط المعيشية نظرًا لندرة فرص العمل، وافتقار الكثير من المواطنين إلى مصادر الدخل، وفرض الضرائب والرسوم من جانب الهيئة العامَّة للزكاة التي تقوم بجباية الأموال والضرائب من المزارعين وأصحاب بساتين الأشجار المثمرة والتجَّار والصناعيِّين في إدلب. وقد تراجعت حكومة الإنقاذ السورية، التي تمارس الهيئةُ الحكمَ من خلالها في إدلب، عن بعض هذه الضرائب والرسوم نزولًا عند رغبة المحتجِّين، ما يُسلِّط الضوء على الضغوط المالية التي تُساهِم في تأجيج حالة الاضطراب العام.

كذلك، جاءت الاحتجاجات الأخيرة كردِّ فعلٍ على حملة اعتقال الأصوات المعارضة التي تُمارسها "هيئة تحرير الشام" منذ فترة طويلة، بما في ذلك شخصيات من "حزب التحرير" الإسلامي غير المُسلَّح، الذي يحظى بشعبية واسعة في شمال غرب سوريا. تتَّهِم الهيئةُ "حزب التحرير" بتحريض الرأي العام ضدَّها. ومن العوامل الأساسية الأخرى التي ساهمت في حدوث الاضطرابات، الإحباطُ الذي شعرَ به المحتجُّون إزاء طريقة تعامل "هيئة تحرير الشام" مع ما سُمِّيَ بـ"قضية العملاء". فقد اعتقلت الهيئة أكثر من 400 من أعضائها ومسؤوليها في الأشهر الستَّة الماضية، مُتَّهِمَةً إيَّاهم بالعمالة لصالح كيانات خارجية، مثل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتَّحِدة، وروسيا، والنظام السوري، و"حزب الله". وعلى الرغم من إطلاق سراح غالبيتهم في نهاية المطاف بعد تبرئتهم من التُّهَم، إلَّا أنَّ كثيرين عادوا وتحدَّثوا عن التعذيب الشديد الذي تعرَّضوا له أثناء احتجازهم. فقد روى أحد الأشخاص الذين أُفرِجَ عنهم مؤخَّرًا وهو يسرد تجربته أمام الكاتب قائلًا: "إنَّنا نُطالِب بإجراءات قضائية شفَّافة. نريد أن نعرف لماذا اعتُقِلنا في الأساس ومَن سيُحاسَب على ممارسات التعذيب. اعتذار الجولاني لا يكفي؛ نحن نلتمسُ العدالة ومحاسبة المسؤولين عن هذه التجاوزات".

القحطاني

كانَ أبو ماريا القحطاني من بين الذين أُطلِقَ سراحهم من دون تعرُّضهم للتعذيب. يتحدَّر القحطاني من منطقة الموصل في العراق، وهو عضو بارز في قبيلة الجبور المنتشرة في سوريا والعراق، وقد لعبَ دورًا محوريًّا في تشكيل تحالفات مع الزعماء القبليين في شمال سوريا وشمال شرق سوريا. يُطلِق عليه أتباعه لقب "الخال" الذي يرمز إلى التقدير والاحترام في بلاد الشام، ويمكن القول إنَّه إحدى أكثر الشخصيات نفوذًا في "هيئة تحرير الشام" بعد زعيمها أبو محمَّد الجولاني. فقد أسَّسا معًا الجماعة التي كانت تُعرَف سابقًا بـ"جبهة النصرة" في أواخر عام 2011. واعتُبِرَ دور القحطاني أساسيًّا في إبرام التحالفات المهمَّة لضمان استمرارية "هيئة تحرير الشام" ووحدتها، كما وخلال الانشقاق الاستراتيجي للجماعة عن تنظيم "الدولة الإسلامية" وتنظيم "القاعدة" في عامَيْ 2013 و2017 على التوالي، وفق مخطَّطات رسمها القحطاني. عملَ القحطاني أيضًا على ترسيخ حضور الجماعة وتعزيز صورتها كـ"شريكة" للمجتمع الدولي في نضاله ضدَّ الجماعات الإرهابية. وحتَّى اعتقاله في آب/أغسطس الماضي، كانَ القحطاني مسؤولًا عن ملفِّ تنظيم "الدولة الإسلامية" (المعروف أيضًا بملفِّ الخوارج) ضمن "هيئة تحرير الشام"، وقد أداره بكفاءة.[2] وفقًا لآرون زيلين، أجرت "هيئة تحرير الشام" 59 عملية ضدَّ تنظيم "الدولة الإسلامية" بين عامَيْ 2018 و2022. وأدَّت هذه العمليات إلى اعتقال 279 شخصًا، مع مقتل 40 شخصًا أثناء القبض عليهم - إمَّا بطلقات نارية من "هيئة تحرير الشام" وإمَّا لأنَّهم فجَّروا عبوات ناسفة لتجنُّب اعتقالهم. كذلك، كُلِّفَ القحطاني بمحاربة تنظيم "حرَّاس الدين" التابع لتنظيم "القاعدة" في سوريا بحسب ما ذكره الموالون للجماعة.

يطرح اغتيال القحطاني تساؤلاتٍ حول هوية الجهة التي نفَّذت الهجوم وهشاشة الوضع الأمني في إدلب. وفقًا لـ"هيئة تحرير الشام"، قامَ انتحاريٌّ من تنظيم "الدولة الإسلامية" بزيارة القحطاني في مجلسه العامِّ (أي المَضافَة أو مكان استقبال الضيوف) وفجَّرَ نفسه هناك. لكنَّ أخصام الجماعة والموالين للقحطاني داخل "هيئة تحرير الشام" سارعوا إلى توجيه أصابع الاتِّهام إلى قيادة الهيئة، زاعمين أنَّها أرادت القضاء على القحطاني لتندثر معه الأسرار التي كانت بحوزته. ورفض هؤلاء رواية "هيئة تحرير الشام"، معتبرين أنَّ قيادة الهيئة أرسلت إلى القحطاني هديةً عبارة عن صندوق يحتوي على سيف، لكنَّه كانَ يتضمَّن عبوة ناسفة مخبَّأة. واتَّهمَ البعض جماعة "حرَّاس الدين" بارتكاب الهجوم. وفي حين ما زالت الهوية الحقيقية للفاعلين مجهولة، إلَّا أنَّ شخصًا كانَ متواجدًا في المكان وأُصيب في الانفجار، قالَ لكاتب المقالة: "شاهدتُ انتحاريًّا يفجَّرَ نفسه أمامي باستخدام جهاز موقوت"، ما يؤكِّد البيان الرسمي الذي صدرَ عن "هيئة تحرير الشام" حول طبيعة العملية ولكنْ من دون الكشف عن هوية الفاعلين المُحتَمَلين.

للإجابة على هذا السؤال، لا بدَّ من النظر إلى مصالح جميع المذكورين وتحديد قدرتهم على تنفيذ العمليات الانتحارية. يمكن القول إنَّ جميع الجهات المذكورة كانت لديها مصلحة في قتل القحطاني، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة. في الواقع، فإنَّ دور القحطاني في محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" وجماعة "حرّاس الدين" والجماعات المحلِّية الأخرى التي تدعمها تركيا، إلى جانب خلافاته مع قيادة "هيئة تحرير الشام" مؤخَّرًا، جعلَت منه هدفًا منشودًا بالنسبة لكلِّ هذه الجهات. ولكنْ، قلّةٌ منهم يعتمدون هذا الأسلوب في العمل أو يمتلكون القدرة على تنفيذ مثل هذا الهجوم. على سبيل المثال، ما من أدلَّةٍ كافيةٍ تُشير إلى أنَّ جماعة "حرَّاس الدين" تقف وراء العملية، إذ يبدو ظاهريًّا أنَّ الجماعة لم تعد موجودةً منذ آخر عملية أجرتها في جنوب الحسكة ضدَّ القوَّات الروسية في كانون الأوَّل/ديسمبر 2020. وعلى الرغم من قتالها الشديد ضدَّ "هيئة تحرير الشام" في عام 2020، عندما كانت جماعة "حرَّاس الدين" تقود آلاف المقاتلين ضمن تحالفها العسكري "فاثبتوا"، لم تعتمد أبدًا استراتيجية استهداف شخصيات "هيئة تحرير الشام" بهذه الطريقة. أمَّا الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا فيُعرَف أيضًا بقدرته المحدودة على اختراق الدائرة الداخلية للقحطاني، ولم يلجأ قطُّ إلى مثل هذه الهجمات في السابق. بالتالي، تبقى الشبهات محصورة بـ"هيئة تحرير الشام" أو تنظيم "الدولة الإسلامية".

ربَّما تكون لدى قيادة "هيئة تحرير الشام" أسباب لرغبتها في القضاء على القحطاني نظرًا لشعبيته ونفوذه، إلَّا أنَّ هذه الخطوة ستُثير على الأرجح سخط الموالين له داخل الهيئة - وبالفعل، كما كانَ متوقَّعًا، رفع هؤلاء حالة التأهُّب منذ مقتله. كذلك، فإنَّ إطلاق سراح القحطاني من السجن وترحيب "هيئة تحرير الشام" شبه الرسمي بعودته يُشيران إلى أنَّ القيادة لم تكن مهتمَّة باستهدافه. فقبل أسابيع من اغتياله، عَلِمَ كاتب المقالة من مصدرٍ مُطَّلِعٍ ومُقرَّبٍ من القحطاني أنَّ إطلاق سراح القحطاني كانَ الخطوة الأولى نحو إعادة اندماجه في الهيئة. ومع ذلك، قد يستفيد معارضو القحطاني داخل "هيئة تحرير الشام" من مقتله، بصرف النظر عمَّا إذا كانت قيادة الهيئة على عِلم بمؤامرة قتله أم لا. وكما سنرى بمزيدٍ من التفصيل في قسمٍ لاحق من هذه المقالة، هناك فصيل نافذ داخل الهيئة لديه مصلحة كبرى في القضاء عليه ويمتلك أيضًا القدرة على تنفيذ العمليَّة. من جهة أخرى، لدى تنظيم "الدولة الإسلامية" أيضًا الدافع لارتكاب هذا العمل، نظرًا للتدابير المضادة الفعَّالة التي اتَّخذها القحطاني ضدَّ عناصره، ولديه أيضًا الوسائل التي تُخوِّله تنفيذ مثل هذه العملية. والأهمُّ من ذلك أنَّ الطريقة المُستخدَمة هي من اختصاص تنظيم "الدولة الإسلامية"، كما أشارَ آرون زيلين على نحو صائب، وهي تُحاكي أسلوب هجوم التنظيم على زعيم حركة "أحرار الشام" أبو خالد السوري في عام 2014.

الصراع الداخلي

واجهت "هيئة تحرير الشام" في الفترة الأخيرة تحدِّيًا آخر إبَّان انشقاق أبو أحمد زكور الذي كانَ يُعَدُّ شخصية بارزة في الهيئة، ولو أنَّ نفوذه لا يُضاهي نفوذ القحطاني. فهو معروفٌ بمشاركته الواسعة في أدوار مختلفة منذ إنشاء الهيئة، بما في ذلك تولِّيه منصب زعامة "جبهة النصرة" في حلب. كذلك، تولَّى زكور مسؤولة إدارة العلاقات العامّة للهيئة، حيث صبَّ اهتمامه على اختراق فصائل الجيش الوطني السوري بهدف إضعافه. وساعدت جذوره القَبَلية وعلاقاته مع فصائل ريف حلب "هيئة تحرير الشام" في التقدُّم إلى عفرين بدون عراقيل في تشرين الأوَّل/أكتوبر 2022. وإثر فراره إلى مدينة أعزاز التي يسيطر عليها الجيش الوطني السوري، حاولت كتائب "هيئة تحرير الشام" اعتقاله مع عدد من رفاقه قبل أن يتدخَّلَ الجيش الوطني السوري والجيش التركي لإنقاذه. بعد هروبه، وجَّهَ زكور عدَّة اتهامات خطيرة ضدَّ "هيئة تحرير الشام" وقائدها، حيث زعمَ أنَّ الجولاني متورِّط في التفجير الذي وقعَ في آب/أغسطس 2016 في أطمة عند الحدود التركية-السورية والذي أودى بحياة العشرات من عناصر الجيش السوري الحرِّ وعدد من المدنيين. لكنْ، وكما ذكرَ أيمن جواد التميمي، تبنَّى تنظيم "الدولة الإسلامية" هذا الهجوم، ما أضعف احتمال تورُّط "هيئة تحرير الشام" فيه.

يُقال إنَّ اعتقال القحطاني نتجَ عن تورُّطه، إلى جانب زكور، في مخطَّطَيْن انقلابيَّيْن محتملَيْن ضدَّ قيادة "هيئة تحرير الشام" بالتعاون مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتَّحدة. كانَ المخطَّط الأوَّل يستهدف اجتماعًا حضره الجولاني وقادة آخرون وتغيَّبَ عنه كلٌّ من القحطاني وزكور. وتمثَّلَ المخطَّط الثاني في ترتيب عملية توقيف خلال اجتماع عند معبر باب الهوى، ليتولَّى القحطاني بعدها قيادة "هيئة تحرير الشام". وعلى الرغم من أنَّ زكور نفى تورُّطه في أيٍّ من هذين المخطَّطَيْن الانقلابيَّيْن، إلَّا أنَّه اعترفَ بأنَّ الشائعة زادت من شعور الجولاني بانعدام الأمان. وكرَّرت بعض المصادر رواية زكور، زاعمةً أنَّ أبو عبيدة منظمات، المسؤول عن ملفِّ "العملاء" في جهاز الأمن العام التابع لـ"هيئة تحرير الشام"، هو الذي كانَ وراء اعتقال القحطاني إذ سعى إلى الحدِّ من نفوذه وإنهاء مسيرته في الهيئة. وفي جميع الأحوال، لا يبدو أنَّ زكور يحظى بالشعبية والنفوذ اللازمَيْن ليتولَّى قيادة الهيئة بعد الجولاني، في حين أنَّ الهوية العراقية للقحطاني تُقلِّل من احتمالية تولِّيه قيادة مجموعة ذات أغلبية سورية.

من الناحية الاستراتيجية، من المُستبعَد أن يتورّط التحالف الدولي في مخطَّطاتٍ من هذا النوع أو أن يؤيِّدها. فأولًا، يقوم الجولاني بعملٍ فعَّال لناحية قمع خلايا تنظيمَيْ "الدولة الإسلامية" و"القاعدة"، ما يُوفِّر نوعًا من الاستقرار النسبي في المنطقة – وهي نتيجةٌ تُثمِّنها تركيا. وكما قالَ تشارلز ليستر، "لم تعد هيئة تحرير الشام تُمثِّل تهديدًا إرهابيًّا دوليًّا كما كانت جبهة النصرة من قبلها، بل سحقت أيضًا بشكلٍ شبه كامل التهديد العالمي الناجم عن مُنافِسيها الأكثر تطرُّفًا". ثانيًا، على الرغم من مساعدة تركيا المزعومة في فرار زكور من سجن "هيئة تحرير الشام"، فقد فرضت واشنطن وأنقرة عقوباتٍ عليه في أيَّار/مايو 2023 لتورُّطه في تمويل الإرهاب، ما يؤكِّد عدم تأييدهما له. يضفي ذلك مزيدًا من التعقيد على المبرِّرات المنطقية لدعم زكور، ويدفع إلى التشكيك في احتمالية هذه المخططات.

وبحسب المبرّرات التي صدرت عن "هيئة تحرير الشام" بعد اعتقاله في آب/أغسطس 2023، فإنَّ القحطاني "أخطأ في إدارة تواصلاته، دون اعتبار لحساسية موقعه. وعليه، أوصى بتجميد مهامه وصلاحياته وبمساءلته بكل شفافية ووضوح". وقد صيغَ بيان "هيئة تحرير الشام" بعناية، بحيث لم يرد فيه أيُّ اتِّهام صريح للقحطاني بالتعاون مع التحالف الدولي. ويبدو أنَّ قيادة الهيئة تُدرِك تمامًا أنَّ هذه الاتِّهامات تُضِرُّ بصورتها وتُعطي انطباعًا بأنَّها قد اختُرِقَت على أعلى مستوياتها. ومن غير المنطقي الاعتقاد بأنَّ القحطاني تواصَل مع جهة أجنبية من دون عِلم قيادة الهيئة، ما يعني تورُّط الجولاني شخصيًّا. وبعد إطلاق سراحه، قامت الهيئة بتبرئة القحطاني ووعدت بالتحقيق في القضية بأكملها.

بالإضافة إلى ذلك، ثمَّة قناعة في الأوساط الجهادية بأنَّ القحطاني تعاونَ شخصيًّا مع التحالف الدولي لاستهداف أعضاء بارزين من تنظيم "القاعدة" في سوريا، ما ساهم في القضاء على أعداء "هيئة تحرير الشام". ما زالت هذه المزاعم غير مؤكَّدة، إلّا أنَّ تعاون "هيئة تحرير الشام" مع التحالف الدولي للتصدِّي لتنظيمَيْ "الدولة الإسلامية" و"القاعدة" في سوريا باتَ سرًّا مكشوفًا. وعلى الرغم من أنَّ الولايات المتّحدة تُصنِّف "هيئة تحرير الشام" كمنظّمة إرهابية وتعرض مكافأة بقيمة 10 ملايين دولار مقابل الحصول على معلومات تؤدِّي إلى القبض على الجولاني، غير أنَّها لم تشنَّ حتَّى الآن أيَّ هجوم ضدَّ الهيئة أو قائدها. وربَّما تُعزى قدرة الجولاني على حضور التجمُّعات العامَّة والتنقُّل بحرِّيَّة، حتَّى تحت مراقبة المُسيَّرات التابعة للتحالف الدولي، إلى فعَّالية الهيئة في إدارة ملفِّ تنظيم "الدولة الإسلامية"، من بين أسباب أخرى.

من الجهاد إلى الزبائنية

نظرًا إلى أنَّ الانقلاب ضدَّ قيادة "هيئة تحرير الشام" احتمالٌ مُستبعَدٌ، كما أنَّ تعاون "هيئة تحرير الشام" مع التحالف الدولي لا يندرج على ما يبدو ضمن العوامل التي تزيد المسألة تعقيدًا، يُطرَح بالتالي سؤالان أساسيَّان: لماذا أقدمت "هيئة تحرير الشام" على إبعاد شخصيتَيْن رئيستَيْن كانَ لهما دور فعَّال في سيطرتها العسكرية على شمال غرب سوريا؟ وهل كانَ مقتل القحطاني عملًا داخليًّا؟ للإجابة على هذين السؤالَيْن، لا بدَّ من فهم تطوُّر "هيئة تحرير الشام" من جماعة جهادية تضطلع بدورٍ إداري محدود في زمن الحرب، عندما واجهت تهديدات وجودية، إلى نظامٍ زبائني في فترةٍ من السلام النسبي. وفي المرحلة الأخيرة، تمارس الهيئة الحكم من خلال حكومة الإنقاذ السورية، حيث أصبحَ التنافس على النفوذ والمكاسب المالية هو السمة الأساسية لدوائر السلطة فيها.

بعد التغيير الذي شهدته قيادة "هيئة تحرير الشام" وانشقاقها عن تنظيم "القاعدة" وأيديولوجيته الجهادية-السلفية في مطلع العام 2017، سعت بشكلٍ ناشط إلى السيطرة على المضمار الديني في إدلب وإعادة تشكيل التوجُّهات الأيديولوجية داخل صفوفها. في آذار/مارس 2019، أنشأت الهيئة "مجلس الإفتاء الأعلى" الذي يُديره مستشارو الجولاني للاستئثار بعملية إصدار الفتاوى – أي الأحكام أو التفسيرات الرسمية حول مضامين الشريعة الإسلامية من جانب الفقهاء الشرعيِّين. وكما أشارَ جيروم دريفون وباتريك هايني، يهدف إنشاء "مجلس الإفتاء الأعلى"، الذي يُشكِّل سلطةً دينيةً مركزيةً، إلى الحدِّ من هيمنة العقائديِّين الجهاديِّين-السلفيِّين وتقليل تأثير المتطرِّفين الآخرين ضمن الهيئة. إضافةً إلى ذلك، قامت "هيئة تحرير الشام" بقمع خلايا تنظيم "الدولة الإسلامية" والموالين لتنظيم "القاعدة"، مثل سامي العريدي وأبو فاروق الشامي وأبو جليبيب الأردني وغيرهم ممَّن انشقُّوا ليُشكِّلوا جماعة "حرَّاس الدين" التابعة لتنظيم "القاعدة" في 2018. كذلك، طردت "هيئة تحرير الشام" أعضاء لديهم وجهات نظر أقلُّ تطرُّفًا نسبيًّا، ومن بينهم شخصيات ممَّا يُسمَّى بـ"التيَّار المصري" داخل الهيئة، وتحديدًا أبو شعيب المصري وأبو اليقظان المصري وأبو الفتح الفرغلي وأبو الحارث المصري. وباستثناء الأخير الذي عملَ قاضيًا في "هيئة تحرير الشام"، شغلَ الآخرون مناصب دينيَّة بصفتهم "شرعيين"، وكانوا مسؤولين عن الجوانب العقائدية في الهيئة، بما في ذلك التعليم الديني، وإصدار الفتاوى، ورفع معنويات المقاتلين قبل المعارك.

إنَّ حملة التخلُّص من المتشدِّدين، التي غالبًا ما يُنظَر إليها باعتبارها مسعى لتحسين صورة "هيئة تحرير الشام" على الساحة الدولية وربَّما إزالتها عن قوائم الإرهاب العالمية، دفعت الهيئة إلى اعتماد نهج أكثر اعتدالًا في الحكم، وفي تطبيق الشريعة، وفي التعامل مع الجهات الحكومية وغير الحكومية في النزاع السوري، مثل تركيا والجيش الوطني السوري. ومع ذلك، على الرغم من تراجع تأثير الأيديولوجية الجهادية-السلفية التي كانت سابقًا أساسية في البنية الداخلية للهيئة وديناميَّاتها، لم يؤدِّ هذا التحول إلى إنشاء مؤسَّسات رسمية داخل الهيئة نفسها. وبينما استطاعت الهيئة تشكيل حكومة شبه تكنوقراطية في إدلب في عام 2018، حيث يُعيَّن المسؤولون بالإجمال على أساس الجدارة وبموافقة قيادة الهيئة، إلَّا أنَّ الأخيرة لم تُطبِّق هذا النموذج في هيكلها التنظيمي.

الصراع على السلطة

في الوقت الحالي، ترتكز معايير التعيينات في قيادة الهيئة بالدرجة الأولى على القُرب من الجولاني، الأمر الذي يعتمد بدوره على رأس المال الاجتماعي للأعضاء، وعوامل ضمنية أخرى مثل الانتماءات القَبَلية والنفوذ الإقليمي والشعبية بين المقاتلين. وفي سبيل مكافأة هؤلاء على ولائهم، تُزوِّدهم قيادة الهيئة بموارد مادِّية، مثل الوظائف والعقود والمال، أو غير مادِّية، مثل الحماية والنفوذ. وإذا ألقيْنا نظرةً فاحصة على البنية الداخلية لـ"هيئة تحرير الشام"، يتبيَّن لنا أنَّ الزبائنية تؤثِّر إلى حدٍّ كبير على ديناميَّاتها التنظيمية. ويتجلَّى ذلك بصورة خاصَّة في التيّارات الثلاثة الرئيسية داخل الهيئة. فتلعب هذه التيَّارات، رغم اختلاف درجة تأثير كلٍّ منها، دورًا محدَّدًا في تعزيز قيادة الهيئة، وتُوفِّر مستويات مختلفة من الدعم والشرعية (مراجعة الرسم البياني أدناه).[3]

يتألَّف تيَّار شرق حلب ضمن "هيئة تحرير الشام" من كتلتَيْن متقاربتَيْن: الكتلة الشرقية وكتلة حلب. تضمُّ الكتلة الشرقية بمعظمها أعضاء موالين للقحطاني من المناطق القَبَلية الشرقية في سوريا. وكانَ تأثيرُه واضحًا عندما احتفلَ المئات من أعضاء الهيئة ومسؤوليها علنًا بإطلاق سراحه وزاروه تعبيرًا عن دعمهم له. ومن الشخصيات البارزة في هذه الكتلة، عضو مجلس شورى "هيئة تحرير الشام" الدكتور مظهر الويس الذي لعبَ، وفقًا لمصدرٍ مُطَّلِع، دورًا رئيسًا في تأمين إطلاق سراح القحطاني من خلال التوسُّط مع الجولاني. وينتمي أيضًا إلى هذه الكتلة المسؤول الأمني في إدلب، أبو محجن الحسكاوي، وأبو محمَّد الشحيل الذي اعتُقِلَ عقب توقيف القحطاني في آب/أغسطس، وكذلك زيد العطَّار، رئيس إدارة الشؤون السياسية.[4] يُذكَر أنَّ العطار، المعروف بكونه مسؤول العلاقات الخارجية في "هيئة تحرير الشام"، مُقرَّب من الجولاني ولديه تأثير كبير على حكومة الإنقاذ السورية. كانَ العطار مع القحطاني عندما اغتيلَ، وأُصيب أيضًا في الهجوم. أمَّا الجزء الثاني من تيَّار شرق حلب، أي كتلة حلب، فيضمُّ مقاتلين موالين لأبو أحمد زكور من قبائل ريف حلب. وفي حين يتمتَّع تيَّار شرق حلب بنفوذ واسع يُعزى إلى علاقاته القَبَلية، إلَّا أنَّه مُقيَّد بمحدودية سيطرته على الموارد الاقتصادية.

في المقابل، تيَّار الشام-إدلب متجذِّر بعمق داخل "هيئة تحرير الشام" ويمارس سيطرةً كبيرة على الهيئة والموارد الإقليمية. وتُشكِّل كتلة بنش جزءًا مهمًّا من تيّار الشام-إدلب، وتتألَّف بشكل رئيسي من مقاتلين من منطقة إدلب، وتحديدًا من بلدة بنش. ويلعب قادتها، أي الأخوان قتيبة بدوي، المعروف أيضًا باسم "المغيرة بنش"، وحذيفة بدوي، المعروف أيضًا بـ"أبو حفص بنش"، أدوارًا محورية. يُمارِس الأوَّل سيطرة واسعة على معبر باب الهوى مع تركيا، في حين استقالَ الأخير، الذي كانَ قائدًا للواء "طلحة بن الزبير" - أحد الألوية العسكرية الـ12 التابعة لـ"هيئة تحرير الشام" - بعد إطلاق سراح القحطاني. وتجدرُ الإشارة إلى أنَّ بلدة بنش كانت من بين المناطق الأكثر تأثُّرًا بالتظاهرات التي أجَّجها الأخوان بدوي. وتُساهِم علاقاتهما العائلية مع الجولاني في زيادة نفوذهما بشكل ملحوظ وتعزيز مكانتهما ضمن الدائرة الداخلية للهيئة.[5] ويحظى هذا التيّار كذلك بدعم عبد الرحيم عطون، المرجع الشرعي العام والأعلى دينيًّا في "هيئة تحرير الشام".

يضمُّ تيَّار الشام-إدلب أيضًا كتلة الشام التي يتزعَّمها أبو أحمد حدود، المعروف بـ"وسام الشرع"، وهو النائب الأوَّل للجولاني ومدير الأمن العام، إلى جانب عبيدة منظمات الذي يُقال إنَّه المسؤول عن توقيف القحطاني والموالين له. وتزعم بعض المصادر أنَّ منظمات كانَ مُعتقَلًا وأنَّ حدود قد استقالَ منذ وقتٍ قريب، وهي تطوّرات يمكن اعتبارها مؤشّرًا على عدم الموافقة على إطلاق سراح القحطاني. يُعرَف "حدود" بـكونه "الصندوق الأسود" للجولاني الذي يحفظ أسرار الهيئة، وخاصّةً في ما يتعلّق بالهدنة مع النظام، كما يُشرِف على أمن الجولاني الشخصي. ويُعتقَد أنَّ حدود هو الذي تولّى توقيف القحطاني وأجرى الاستجواب الأوّلي. وتتضمّن هذه الكتلة أيضًا المسؤول المالي في "هيئة تحرير الشام" أبو ماجد الشامي المتزوّج من شقيقة زوجة الجولاني. وصحيحٌ أنَّ كُتَل هذا التيّار تُعاني من بعض الخلافات الداخلية، إلّا أنَّها استطاعت أن تتوحَّد في مواجهة تيّار شرق حلب.

وهناك أخيرًا تيّار الجولاني الذي يضمّ شخصيات مؤثّرة اقتصاديًّا حافظت على ولائها لقائد الهيئة وتجنّبت التوتّرات بين الكُتَل. ومن بين هؤلاء مصطفى قديد الذي يُسيطر على جزء كبير من اقتصاد إدلب ويُعَدّ الممثّل الاقتصادي للجولاني في المنطقة. أسَّسَ قديد، الذي يُلقَّب بـ"العقل المُدبِّر" وراء الاستراتيجية الاقتصادية لـ"هيئة تحرير الشام"، مؤسّسة "الوسيط" لتحويل الأموال وتصريف العملات التي توسّعت لاحقًا لتُصبح "بنك الشام". ويُشير البعض إلى أنَّه كانَ وراء تأسيس شركة "وتد"، وهي أكبر شركة نفط في إدلب. ومن المعروف أنَّ شبكته تُدير مجموعة من الأنشطة الاقتصادية التي تعود بالمنفعة على الجولاني ونخبة من الشركاء، مع مشاريع تشمل المخابز والخدمات المالية واستيراد البضائع من تركيا. ومن الشخصيات الأخرى في هذا التيّار، أبو ابراهيم سلامة الذي يستأثر بقطاع البناء من خلال شركته، "الراقي"، التي أبرمت عقودًا لتعبيد طرق حلب – باب الهوى التي تربط مدينتَيْ سرمدا والدانا في الجزء الشمالي من إدلب. ويضمّ التيّار أيضًا شقيق الجولاني، أبو ماجد، الذي ترأس المحكمة الابتدائية في سرمدا منذ إنشائها في 2018، كما شغلَ منصب المسؤول العام في الهيئة العامّة للزكاة التي يُفترَض أن تكون هيئة مستقلّة لكنَّها تعمل بشكل أساسي على تحويل أموال الضرائب إلى صناديق "هيئة تحرير الشام".

يتعذّر إحصاء عدد المقاتلين في كلّ تيّار وتقييم حجم نفوذه. ولكنْ، يمكن القول إنَّ الصراع على السلطة بين التيّارات قد لعبَ دورًا مهمًّا في تشكيل الديناميات الداخلية للهيئة كما ساهمَ في نشوء الاضطرابات السياسية الأخيرة. فإطلاق سراح القحطاني والمئات من أعضاء "هيئة تحرير الشام"، بعد تبرئتهم من تُهم العمالة لجهات أجنبية، وما تلا ذلك من تعليق عمل شخصيات بارزة واستقالتها من تيّار الشام-إدلب، كلّ ذلك يدلّ على أنَّه في حين أنَّ تواصل القحطاني مع جهات أجنبية ليسَ مُستبعَدًا، غير أنَّ اعتقاله ومحاولات الحدّ من نفوذه داخل الهيئة هي على الأرجح نتيجة الاقتتال الداخلي والتصفيات السياسية بين هذه التيّارات. من الصعب التأكيد ما إذا كانَ مقتله قد حصلَ بتدبيرٍ أو بتسهيلٍ من خصومه داخل "هيئة تحرير الشام"، لكنَّ سيطرة أعدائه على القطاع الأمني في إدلب تُثير تساؤلات حول تورُّطهم المُحتمَل أو على الأقلّ تغاضيهم عن الخرق الأمني الذي حصل.

المرحلة المقبلة

الوقت وحده كفيلٌ بأن يكشف النقاب عن الهوية الحقيقية لقاتل القحطاني. ولكنْ، قد يؤدّي مقتله إلى اضطرابات داخلية كبيرة ضمن "هيئة تحرير الشام". وإذا فشلت الأخيرة في إزالة الشبهات عن نفسها بشكلٍ مُقنع في قضية الاغتيال، يُحتمَل أن ينشقّ أتباع القحطاني، وتحديدًا المتحدّرون من المنطقة الشرقية. ومن شأن ذلك أن يُزعزع التماسك الداخلي للهيئة ويُهدِّد وحدتها. غير أنّ قيادة الهيئة أقامت علاقات متينة مع شخصيات قَبَلية محلّية، بينهم أعضاء مجلس الشورى، مثل الدكتور مظهر الويس من المنطقة الشرقية، الأمر الذي ربّما يُخفِّف من تداعيات مقتل القحطاني. وقد تكون لغياب القحطاني أيضًا عواقب على المستوى العملاني. ففي غيابه، قد يصعب على الهيئة أن تتصدّى للتهديدات بفعّالية، ما قد يؤدّي إلى زيادة أنشطة الجماعات المنافِسة في المنطقة، وخصوصًا تنظيم "الدولة الإسلامية". وينظر بعض أعضاء الهيئة إلى عملية الاغتيال بشكلٍ مختلف، إذ يعتقدون أنَّها تشكّل رسالة واضحة من قيادة الهيئة إلى الذين يتحدَّون سلطتها، ما أفضى إلى شعورٍ بعدم الأمان ضمن الدائرة الداخلية للهيئة.

من ناحية أخرى، يبدو أنَّ عودة زكور مُستبعَدة إلى حدٍّ كبير، ما يُجبِر "هيئة تحرير الشام" على إعادة النظر في استراتيجيتها حيال الجيش الوطني السوري. فعلاقاته القَبَلية مع فصائل الجيش الوطني السوري كانت أساسيةً في التوسّع العسكري لـ"هيئة تحرير الشام" في مناطق "غصن الزيتون" في تشرين الأوّل/أكتوبر 2022. كذلك، فإنَّ فراره إلى أعزاز، في منطقة "درع الفرات"، لتجنُّب توقيفه من قِبَل "هيئة تحرير الشام"، يُسلِّط الضوء على علاقاته مع الجيش الوطني السوري، وهو أحد منافِسي الهيئة. وبدون زكور، ستُواجِه الهيئة على الأرجح تحدّياتٍ كثيرة في الحفاظ على استراتيجيتها المزدوجة المتمثّلة في الاستقطاب والإكراه حيال الجيش الوطني السوري، ما قد يُصعِّد وتيرة العنف.

تفرض الأحداث الأخيرة اختبارًا عسيرًا على "هيئة تحرير الشام، حيث تتكشّف خلافاتها الداخلية ومَواطِن ضعفها، فضلًا عن افتقارها إلى العمق المؤسَّسي. ومن أجل إعادة الاستقرار، يتعيّن على القيادة اتّخاذ تدابير استراتيجية لضبط ديناميات السلطة بين التيّارات المتنافِسة وتلبية مطالب المجتمع المحلّي. وفي حين أنَّ تعامل "هيئة تحرير الشام" مع الاحتجاجات لا يزال ضمن سقف محدود، إذ لم يتمّ الإبلاغ عن سقوط قتلى حتى الآن، إلّا أنَّ الاستياء المتزايد في إدلب يتطلّب إجراءات فعّالة من القيادة، وليس مجرّد تسويات سطحية. تُعَدّ الاستجابة لبعض مَطالِب المجتمع خيارًا ممكنًا، في حين أنَّ الخطوات المُحتمَلة الأخرى، مثل تنحّي الجولاني، ما زالت غير مرجّحة. ويتوقّف مستقبل الهيئة، والمنطقة ككلّ، على كيفية إدارة "هيئة تحرير الشام" للنزاعات الداخلية ونزولها عند طلبات السكّان المحلّيين.

عروة عجوب طالب دكتوراه في جامعة مالمو في السويد، حيث تتناول أبحاثه الخطاب الجهادي السنّي ودوره في حشد الدعم وإضفاء طابع شرعي على العنف بين المجموعات.

 

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.
البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك