MEI

حركة "حياة السود مهمّة" تغيّر وجهة نظرنا حيال القضية الفلسطينية

فبراير 20, 2024

أنطون عيسى


مشاركة

 في ظلّ استمرار المآسي التي تشهدها غزَّة، يزداد تعاطف الغرب مع الفلسطينيين، ما قد يُشكِّل نقطة تحوُّل في موقف العالَم تجاه النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني في المستقبل. يُعزى هذا التحوُّل بالدرجة الأولى إلى تبدُّل وجهات نظر الأجيال الشابّة نتيجة عاملَيْن مترابطَيْن: أوّلًا، ظاهرة الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تبثّ، وللمرّة الأولى، صُوَرًا حيّة تنقل بشكلٍ آنيٍّ وقائعَ عملية التطهير العرقي على منصّات يتألّف جمهورها بمعظمه من الفئات العمرية الأصغر سنًّا؛ وثانيًا، السرديات التي أنتجتها حركة "حياة السود مهمّة"، والتي تعمل على تبسيط النزاع واختزاله لتضعه في إطارِ رؤيةٍ عالميةٍ راسخةٍ تحظى بتأييدٍ واسعٍ بين تلك الفئات الشابة.

ويأتي هذا الربط بين النضال الفلسطيني والرؤية المُستمَدّة من حركة "حياة السود مهمَّة" ليتحدَّى السرديات التي لطالما روَّجت لها النُّخَب الغربية والتي أدّت إلى استمرار التعاطف مع إسرائيل وصرف النظر عن معاناة الشعب الفلسطيني.

بالنسبة للفلسطينيين، أسفرَ الدعم الغربي المُطلَق لإسرائيل خلال العقود الماضية عن عواقب كارثية نشهد نتائجها اليوم في غزَّة. فكما أشارَ المُفكِّر الراحل إدوارد سعيد: "المشكلة الأساسية لدى الفلسطينيين ليست ما تفعله إسرائيل، بل عدم الاعتراف بما تقترفه".

فبعد سبعة عقود من اللامبالاة، يبدو أنَّ الغرب بدأ يعترف أخيرًا بمعاناة الفلسطينيين. وقد ساهمت حركة "حياة السود مهمّة"، بشكل غير مباشر، في تسريع هذه العملية من خلال المساعدة في إعادة تصوُّر القضية الفلسطينية من منظورٍ عالميٍّ يُركِّز على آثار الاستعمار المستمرَّة في النظام الدولي، ويرى أنَّ إسرائيل، كما قالَ المؤرِّخ رشيد خالدي، تُمثِّل "الحرب الاستعمارية الأخيرة في العصر الحديث".

تَزايُد الدعم الشعبي للفلسطينيين

وصلَ الدعم الشعبي الغربي للفلسطينيين إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، ولا يَظهَر ذلك في الاحتجاجات الجماهيرية المُناهِضة للحرب في غزَّة في العواصم الغربية فحسب، بل أيضًا في استطلاعات الرأي التي تُشير إلى تغيُّر آراء الناس حيال هذه المسألة. فمعظم الناس في الولايات المتَّحدةوالمملكة المتَّحدة يؤيِّدون وقف إطلاق النار الفوري، غير أنَّ التحليل الدقيق يكشف عن اتِّجاه ثابت يتجاوز النفور الطبيعي من الحرب.

ففي استطلاعٍ أجرته مؤسَّسة "غالوب" في عام 2013، أعربَ 64% من الأمريكيين عن تعاطفٍ أكبر مع إسرائيل مقارنةً بنسبة التعاطف مع الفلسطينيين التي لم تتعدَّ الـ19%. ثمّ برزَ تَحوُّلٌ ملحوظ في استطلاعٍ أجرته المؤسّسة نفسها في كانون الثاني/يناير 2024، حيث اعتبرَ 36% من الأمريكيين البالغين أنَّ واشنطن تدعم إسرائيل "أكثر من اللازم"، في حين رأى 38% أنَّها تدعمها "بالقدر المناسب". واللافت أنَّ 49% من الناخبين الداعمين للحزب الديمقراطي أشاروا إلى أنَّ دعم الولايات المتّحدة للفلسطينيين "غير كافٍ"، فيما اعتبرَ 14% منهم أنَّ هذا الدعم "أكثر من اللازم". ولوحِظَ أيضًا تَحَوُّلٌ في المواقف في استطلاعٍ أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" بالتعاون مع كلية "سيينا" في كانون الأوّل/ديسمبر 2023، حيث أبدى الأمريكيون تعاطفهم مع إسرائيل بنسبة لا تتعدّى الـ47%، في حين بقيَ الدعم للفلسطينيين ثابتًا عند نسبة 20%. وتجدر الإشارة إلى أنَّ نتائج هذه الاستطلاعات هي الأفضل بالنسبة لإسرائيل بين جميع بلدان منظّمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD)، حيث أظهرَ استطلاعٌ أجرته مؤسّسة "مورنينغ كونسالت" مؤخَّرًا أنَّ الولايات المتّحدة "هي البلد الثري الوحيد الذي ما زال يُبدي وجهات نظر إيجابية صافية تجاه إسرائيل". ففي المملكة المتّحدة مثلًا، تراجعت نسبة المحاباة الصافية لإسرائيل إلى مستوى منخفض بلغَ -29.8.

ما يُعزِّز هذه التوجّهات هو اختلاف وجهة نظر الأجيال إزاء إسرائيل وفلسطين والموقف الأمريكي في المنطقة. وقد تجلّى هذا الانقسام في الاستطلاع الذي أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" بالتعاون مع كلية "سيينا"، حيث كانَ المُستطلَعون الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا هم المجموعة الوحيدة التي أعربت عن تعاطفٍ أكبر مع الفلسطينيين (46%، مقابل 27% لإسرائيل) - مقارنةً بـ63% لصالح إسرائيل لدى المُستطلَعين الذين يبلغون 65 عامًا وما فوق. ولوحظَ أيضًا أنَّ الأمريكيين الشباب يُعارِضون تقديم دعم اقتصادي أو عسكري إضافي لإسرائيل أكثر من الشرائح العمرية الأخرى (55% في الفئة العمرية التي تتراوح بين 18 و29 عامًا، مقابل 47% في الفئة العمرية التي تتراوح بين 30 و44 عامًا)، ويَعتبِرون أنَّ إسرائيل تتعمّد قتل المدنيين (48% في الفئة العمرية التي تتراوح بين 18 و29 عامًا، مقابل 26% في الفئة العمرية التي تتراوح بين 30 و44 عامًا). وعلى النقيض من ذلك، أبدت الفئات العمرية الأكبر سنًّا دعمًا أكبر لإسرائيل ردًّا على هذين السؤالَيْن.

وكشفَ استطلاعٌ منفصل أجراه مركز الدراسات السياسية الأمريكية التابع لجامعة "هارفارد" (كابس/CAPS) بالتعاون مع مؤسّسة "هاريس" عن انقسامٍ في الآراء بين الأجيال المختلفة. فالأجيال الشابّة مثلًا ترى أنَّ حركة "حماس" ليست جماعة إرهابية. وهناك أقلية تبلغ 36% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا تصنِّف حركة "حماس" ضمن خانة الإرهاب، مقارنةً بـ64% ممّن يُخالفونهم الرأي. وكلّما زادت الأعمار، تزدادُ النظرة إلى حركة "حماس" باعتبارها جماعة إرهابية، وصولًا إلى أغلبيةٍ كبيرةٍ بين الناخبين الأمريكيين الذين تتعدَّى أعمارهم الـ45 عامًا.

دوافع متقاربة وسط تَراجُع الثقة في الحكومات ووسائل الإعلام

برزَت القضية الفلسطينية على الساحة العالمية تزامنًا مع تراجُع الثقة في مؤسَّسات السلطة. فقد سجَّلت الدول الغربية في أحدث إصدار لـ"مقياس إيدلمان للثقة"، الذي شملَ 28 بلدًا، أدنى مستوى من الثقة في الحكومات ووسائل الإعلام. وأشارَ الاستطلاع إلى إجماعٍ واسعٍ على أنَّ الحكومات ووسائل الإعلام لا تتحلّى بالكفاءة والمبادئ الأخلاقية، كما أعربَ القسم الأكبر من المُستطلَعين عن قلقهم من أنَّ قادة الحكومات والصحافيين "يحاولون عمدًا تضليل الناس من خلال الإدلاء بتصريحات يُدرِكون أنَّها غير صحيحة، أو اللجوء إلى مبالغاتٍ صارخة في بعض القضايا".

بالتالي، شهد الغرب تزايدًا في انعدام الثقة في الحكومات ووسائل الإعلام قبل السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر، وخصوصًا في صفوف الأجيال الشابّة التي ترى أنَّ الأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة تقفُ عائقًا أمام تقدُّمها وازدهارها. ويُوفِّر هذا المستوى من عدم الثقة أرضًا خصبة لانتشار السرديات المضادة التي ترفض وجهات نظر المنظومة وسياساتها.

أثبتت حركة "حياة السود مهمّة" أنَّها تشكّل سردية مضادة فعّالة ومَرِنة تُعبِّر عن خيبات شريحة واسعة من جيل الألفية وجيل ما بعد الألفية. فبعد مرور ثلاث سنوات على مقتل جورج فلويد، لا يزال نصف الأمريكيين يدعمون حركة "حياة السود مهمّة". وترتفع هذه النسبة لتَصِل إلى 70% بين المراهقين الأمريكيين. ونرى أيضًا اتّجاهات مماثلة في أجزاء أخرى من العالم حيث أدّت حركة "حياة السود مهمّة" إلى دفع قضايا العرق إلى الواجهة وتكييفها مع السياق المحلّي.

على سبيل المثال، في أستراليا، تَبيَّنَ أنَّ الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا هم المجموعة الوحيدة التي أعربت غالبيتهم –سُجِّلَت نسبةٌ تقلُّ عن الأغلبية بفارقٍ طفيفٍ في الفئة العمرية التي تتراوح بين 25 و34 عامًا- عن دعمها للاستفتاء الذي فَشِلَ مؤخَّرًا والذي كانَ من شأنه أن يكرِّس الاعتراف بالشعوب الأولى في الدستور الأسترالي ويؤسِّس هيئة استشارية للسكَّان الأصليين داخل البرلمان.

في صميم هذه السردية المضادة، يبرز تقاطعٌ واضحٌ بين القمع المنهجي وعدم التكافؤ في ميزان القوّة على أُسُس عرقية أو إثنية أو دينية في معظم الأحيان. تجدُ هذه السردية صدى لها لدى مختلف الشعوب التي عانت من الاستعمار والقمع، وهي تُطبَّق من هذا المنطلق على التجربة الفلسطينية. ولا شكَّ في أنَّ انتشار تطبيق "تيك توك" ساعدَ في تبنِّي السردية المضادة التي أنتجتها حركة "حياة السود مهمّة" بين الأجيال الشابَّة. فقد أظهرَ "تقرير الإعلام الرقمي" لعام 2023 الذي تصدره وكالة "رويترز" سنويًّا انخفاضًا في الثقة في وسائل الإعلام التقليدية مع تَحَوُّل المزيد من المُستخدِمين إلى منصّة "تيك توك" للاطّلاع على الأخبار. على وجه التحديد، صرَّحَ 20% من المُستطلَعين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا بأنَّهم لجأوا إلى منصَّة "تيك توك" للاطِّلاع على الأخبار، ما يعكس زيادة قدرها خمس نقاط مئوية مقارنةً بالعام 2022. بدوره، أظهرَ الاستطلاع الذي أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" بالتعاون مع كلية "سيينا" أنَّ 45% من الناخبين الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا قالوا إنَّهم يطّلعون على الأخبار عبر وسائل الإعلام التقليدية، إلَّا أنَّ 35% منهم اختاروا منصَّات التواصل الاجتماعي كمصدرهم الأوّل، وهي النسبة الأكبر بين جميع الفئات العمرية. في المقابل، استخدمَ 2% فقط من الناخبين الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار.

لم تكتفِ وسائل التواصل الاجتماعي بتقليص تأثير وسائل الإعلام التقليدية كمصدرٍ رئيسيٍّ للمحتوى الإخباري، بل كشفت أيضًا عن إخفاقاتها. فالجمهور يرى الواقع الوحشي للحرب الإسرائيلية على غزَّة لحظةً بلحظة، ويُشاهِد باستمرار مقاطع الفيديو المُروِّعة وأخبار الغارات الإسرائيلية العنيفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي– ولم يكن الجمهور ليُدرِك هذه الوقائع لو اعتمدَ حصرًا على الإعلام الغربي التقليدي المُتَّهَم بالتحيُّز لصالح إسرائيل طوال النزاع.

على المستوى المواضيعيّ، تماهت القضية الفلسطينية مع مجموعة من الأفكار الناشئة على خلفية حركة "حياة السود مهمّة" التي تربط بشكل عام بين النضالات العرقية المتباينة، بدءًا بتجربة الأمريكيين من أصول إفريقية، ووصولًا إلى حقوق السكّان الأصليين في أستراليا.

تعليقًا على الحرب الإسرائيلية على غزَّة، قالَ الكاتب البارز من أصل إفريقي "تا-نيهيسي كوتس": "لا يمكننا أن نُسخِّر ذكرى الدكتور مارتن لوثر كينغ، وأن نُسخِّر عُمق حركتنا وإرثها العريق للدفاعِ عن حربٍ وغاراتٍ عشوائيةٍ تستهدف مخيَّمات اللاجئين... فسيكون ذلك بمثابة إهانة لأسلافنا".

تبسيط القضية الفلسطينية ووضعها ضمن إطار الاستيطان الاستعماري

ببساطة، تتمثَّل فكرة الاستيطان الاستعماري –كما أوضحَها للمرّة الأولى المفكّر الأسترالي باتريك وولف- في "تدمير شعب معيَّن للحُلول مكانه... فالمُستوطِنون والمُستعمِرون يأتون للبقاء". وأشارَ وولف إلى تلك النيَّة الأصلية التي تبنَّاها عَرَّاب الصهيونية، ثيودور هرتزل، عندما اعترفَ في عام 1902 بالتالي: "إذا أردتُ استبدال مبنى قديم بآخر جديد، يجب أن أهدم قبل أن أبني".

إذا طبّقنا نظرية الاستيطان الاستعماري في السياق الإسرائيلي-الفلسطيني، تُعتبَر دولة إسرائيل، وأُسُسها الصهيونية، مشروعًا استعماريًّا غربيًّا فرضته بريطانيا على العالم العربي وتدعمه الولايات المتّحدة. فالفلسطينيون، بحسب هذه السردية، هم السكّان الأصليون الذين طُرِدوا من أرضهم لإفساح المجال أمام مشروع استعماري جديد مدعوم من الغرب. وكما شرحَ "تا-نيهيسي كوتس"، تُساعِد هذه السردية في توضيح النزاع وتبسيطه للجماهير الغربية القادرة على استيعاب هذا الإطار كونه ينطبق على سياقاتها الخاصّة.

وأضافَ قائلًا: "تتحدّث وسائل الإعلام الغربية عن هذا [النزاع] بطريقةٍ معقَّدة كما لو أنَّك تحتاج إلى دكتوراه في دراسات الشرق الأوسط لتفهمه... ولكنَّه في الواقع ليسَ بهذه الصعوبة، بل هو مألوف لكلِّ مَنْ لديه بعض الإلمام بتاريخ الأمريكيين من أصل إفريقي".

لوحِظَ هذا التشابُه في سياقات أخرى أيضًا، على غرار التعاطف الذي يُبديه الكثيرون ممّن ينحدّرون من الشعوب الأولى في أستراليا؛ إذ يرون قواسم مشتركة بين النضال الفلسطيني ونضالهم. وفي هذا السياق، قالت عضو مجلس الشيوخ الأسترالي ليديا ثورب، التي تُمثِّل السكّان الأصليين، أمام حشدٍ مؤيّد لفلسطين في تشرين الثاني/نوفمبر 2023: "نحن نفهم معاناتكم تمامًا".

وعليه، أُدرِجَت القضية الفلسطينية ضمن رؤيةٍ باتت سائدةً وشعبيةً نتيجة حركة "حياة السود مهمّة"، تعترف بالأنماط المألوفة للقمع المنهجي وتسعى إلى حشد التضامن من خلال فهم التجربة المشتَرَكة. فتأطير فلسطين ضمن منظور الظُّلم الهيكلي -الذي لا يزال ركيزةً أساسية لفهم الظروف الحالية للأمريكيين من أصل إفريقي والشعوب الأصلية في مختلف السياقات الغربية- قد أتاحَ للأجيال الشابّة في الغرب أن تفهم قضية الشرق الأوسط بطريقةٍ مُبسَّطة.

كيف تُعيد سردية الاستيطان الاستعماري صياغة النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني

إنَّ الاعتراف بتقاطُع أشكال القمع المنهجي له آثار عميقة على كيفية فهم النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني تاريخيًّا، وبالتالي من شأنه أن يساهم في تشكيل المقاربات المستقبلية حيال المنطقة. فاعتماد سردية الاستيطان الاستعماري يُعيد تصوير النزاع بشكل فعَّال ويُلغي العديد من القراءات الضمنية غير الدقيقة. أولًا، هو يزيل منطق النأي بالنَّفْس الغربي، الذي يضع النزاع في ثنائية وهمية بين العرب أو المسلمين من جهة، واليهود من جهة أخرى. فسردية الاستيطان الاستعماري تُحمِّل المسؤولية للغرب بالدرجة الأولى، وتحديدًا بريطانيا وفرنسا لناحية تقسيم الشرق الأوسط بعد سقوط السلطنة العثمانية وتقسيمه إلى دول زائفة بحسب ما اقتضته مصالحهما الاستعمارية عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، فضلًا عن دور الولايات المتّحدة في الحفاظ على هذا النظام. بالتالي، تُسلِّط هذه السردية الضوء على دور بريطانيا الأساسي في تحويل المشروع الصهيوني من مفهوم هامشي لم يستقطِب سوى عددًا قليلًا من المؤيّدين اليهود الأوروبيين والأمريكيين في بداية القرن العشرين، إلى واقعٍ جيوسياسيّ في فلسطين.

على الرغم من التغييرات التي شهدتها السياسة البريطانية في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي لمواكبة الديناميات العالمية المُستجِدَّة -وفي طليعتها اندلاع الحرب في أوروبا والسخط العربي من القمع الوحشي الذي مارسته بريطانيا ضدّ الثورة الفلسطينية بين عامَيْ 1936 و1939– من المؤكّد أنَّه لولا بريطانيا، لما نشأت دولة إسرائيل. وكما يوضح خالدي، لم يكتفِ البريطانيون بتهيئة الظروف لإنجاح المشروع الصهيوني في فلسطين في أثناء حكمهم، بل وفَّروا أيضًا الأسلحة والتدريبات للميليشيات الصهيونية التي لعب قادتها لاحقًا، على غرار موشيه ديان، أدوارًا أساسية في الحرب العربية-الإسرائيلية عام 1948 وأصبحوا وزراء في حكومة الدولة الناشئة. وأشارَ خالدي أيضًا إلى أنَّ بريطانيا رأت أنَّ إنشاء الدولة الإسرائيلية يُشكِّل ضرورةً استراتيجيةً أساسيةً حتّى يكون لها حليف محلّي يحمي مصالحها في الشرق الأوسط. 

ولكنْ، كما نَوَّهَ كلٌّ من وولف وخالدي، ثمّة اختلاف أساسي بين فلسطين والمشاريع الاستيطانية والاستعمارية الأخرى، وهو أنَّ إسرائيل لم تنشأ كامتداد للشعب البريطاني، مثل أستراليا أو نيوزيلندا، بل كمشروع استعماري صنعَ هويته الوطنية الخاصّة. ولم يكن ارتباط إسرائيل ببريطانيا بمثابة امتداد طبيعي للإمبراطورية البريطانية، بل كانَ تحالفًا قائمًا على المصلحة. واعتُبِرَ هذا الترتيب مناسبًا تمامًا للصهاينة الذين، كما كتبَالمؤرّخ الإسرائيلي آفي شلايم، أدركوا -وما زالوا يُدرِكون– أهمية ارتباطهم بقوّةٍ عالمية من أجل حماية المشروع الإسرائيلي وضمان استمراريته. فقد تولّت بريطانيا، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، دورًا مهيمِنًا في الشرق الأوسط. بالتالي، وإلى حين اندلاع الحرب العالمية الثانية، شكّلت بريطانيا المحور الأساسي الذي ركّزت عليه المساعي الصهيونية من أجل تنمية علاقة وثيقة بين الطرفَيْن والحفاظ عليها.

تعترف هذه الرواية أيضًا بتاريخ التعايش المستمرّ في الشرق الأوسط قبل الاستعمار –رغم بعض فترات الاضطراب- بين المسلمين واليهود والمسيحيين والأقليات الدينية الأخرى في ظلّ الحكم الإسلامي منذ القرن السابع بعد الميلاد. فاضطهاد اليهود على مدى قرون في أوروبا مختلف تمامًا عن التجربة اليهودية في الشرق الأوسط، حيث تبنّى اليهود، كما يقول شلايم، الثقافات العربية المحلّية، وكانوا في الواقع عَرَبًا. لذلك، فإنَّ الاعتراف بهذا التاريخ، من خلال منظور الاستيطان الاستعماري، يجعل الاستعمار الغربي في الشرق الأوسط هو المصدر الرئيسي للأزمة الحالية، وذلك خلافًا للرواية المغلوطة التي تزعم عدم قدرة المسلمين واليهود على التعايش في أرض مُشتَرَكة.

أمّا العنصر الرئيسي الثاني في سردية الاستيطان الاستعماري فيتمثّل في تجريد إسرائيل من صفة الضحية، وهي صفة لطالما روّجت لها النُّخَب السياسية والإعلامية الغربية ولا تزال تتكرّر حتّى يومنا هذا في خطابات الحكومات الغربية عن "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها". في المقابل، وفي سياق سردية الاستيطان الاستعماري، تُعتبَر إسرائيل المُعتدي الاستعماري بشكلٍ قاطع، ويُعتبَر المهاجرون اليهود الأوروبيون والأمريكيون إلى فلسطين كمستوطنين أجانب يُصادِرون أرضًا تعودُ ملكيتها إلى شعبٍ آخر.

تضرب هذه الحجّة جوهر الصهيونية، وتحديدًا النظرية التي تزعم أنَّ اليهود يُشكِّلون مجموعة دينية عرقية واحدة وأنَّ جميع اليهود لديهم حقٌّ ثابت وحصري في الأرض الفلسطينية بسبب الارتباط التاريخي والديني. غير أنَّ سردية الاستيطان الاستعماري، كما أوضحها المُفكِّر الإسرائيلي المناهض للصهيونية جيف هالبر، لا تعترض على علاقة اليهود بفلسطين، "لكنَّها ببساطة ترفض حقَّهم في فرض نظام استيطاني واستعماري عليها". ولا يختلف هذا الارتباط الديني عن الارتباط المسيحي بفلسطين مثلًا باعتبارها المكان الذي وُلِدَ فيه المسيح. وأضافَ قائلًا إنَّه من الممكن الحفاظ على الروابط الدينية بفلسطين مهما كانَ نوعها، ولكنْ "بدون المساس بحقوق الفلسطينيين وطموحاتهم الوطنية والسيادية".

سردية الاستيطان الاستعماري ونقدها للسياسة الغربية الحالية

لا تلقى الحجج التي تُقدِّمها النُّخَب الحكومية والإعلامية لتبرير الدعم المستمرِّ لإسرائيل آذانًا صاغية في صفوف جيل الشباب المنغمس في السردية المضادة التي أنتجتها حركة "حياة السود مهمّة". بل على العكس، يؤدّي موقف النُّخَب الغربية المؤيّد لإسرائيل إلى ترسيخ ظاهرة انعدام الثقة المنتشرة على نطاقٍ واسع في الأساس، وتَفاقُم المناخ السياسي المحلّي غير المستقرّ والانقسامي.

تكشف الفظائع التي تُرتكَب في غزّة عن هوّة أخلاقية، حيث ما زالَ تطبيق حقوق الإنسان يُحدَّد من خلال إطارٍ استعماري قائم على تصنيف قيمة الإنسان بحسب عرقه أو عقيدته. والمبدأ الضمني الكامن وراء الزخم الذي يُحيط بحركة "حياة السود مهمّة" يكمُن في أنَّ حياة أصحاب البشرة السوداء والسمراء أقلّ أهميةً بالنسبة للنُّخَب البيضاء.

في المقابل، تكمُن قوّة السردية المُستمَدّة من حركة "حياة السود مهمّة" في إضفاء طابع إنساني على أصحاب البشرة المُلوَّنة. ومن خلال هذه السردية، يفهم الجمهور الغربي كيف تُترجَم النُّظُم الهرميّة العرقية وهياكل السلطة المحلّية في بلدانهم إلى سياسات خارجية كارثية، إلى جانب تحطيم الصور النمطية الخبيثة التي تُصوِّر العَرَب كشعبٍ عدوانيٍّ وعنيفٍ. فالبثّ المباشر لأحداث غزّة عبر منصّات التواصل الاجتماعي ليس مجرّد نافذة تكشف بصورة آنيّة عن الفظائع التي تُرتكَب برعاية السياسات الغربية؛ بل هو بمثابة مرآة تُبيِّن حقيقةً مؤلمةً، ألا وهي أنَّ سِجِلَّ الغرب ما زال مضرّجًا بإرث الاستعمار.

 

أنطون عيسى صحافي ومُحلِّل لشؤون الشرق الأوسط، ويختصّ تحديدًا بقضايا المجتمع المدني والجهود الشعبية لتحسين الحوكمة في مرحلة ما بعد الربيع العربي. كذلك، فهو باحث غير مُقيم في معهد الشرق الأوسط، ومحرّر المواد المنشورة على منصات أخرى والرسائل الإخبارية في "ذا غارديان أستراليا".

 

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.

متعلق بالمنطقة

البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك