MEI

لا بديل فعلي: تعثُّر أحزاب المعارضة في إقليم كردستان العراق

يوليو 16, 2024


مشاركة

وينثروب رودجرز

يستأثر حزبان بالسياسة والحُكم في إقليم كردستان العراق، هما الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني. يحظى هذان الحزبان بنفوذٍ واسعٍ في إدارة مؤسّسات الدولة والاقتصاد والإعلام، إضافةً إلى تحكّمهما بعشرات الآلاف من عناصر البيشمركة وقوّات الأمن و"الأسايش"، وبشبكات المحسوبيّة التي تضمّ مئات الآلاف من موظّفي القطاع العام. وعلى الرغم من كلّ تلك الإمكانيات، لا يحظى الحزبانبشعبيةٍ كبيرةٍ لدى شرائح واسعةٍ من السكّان، الذين يعتبرونهما فاسدَيْن وغير كفُؤَيْن وقمعيَّيْن. وفي استطلاعٍ صدرَ عن الباروميتر العربي في عام 2022، تَبيَّنَ أنَّ 63٪ من المُستطلَعين في إقليم كردستان "لا يثقون على الإطلاق" بحكومة الإقليم.

في المقابل، فإنّ الأحزاب السياسية الأخرى -التي يُشار إليها بصورة عامّة بـ"المعارضة"– تطرحُ نفسها كبدائل للحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني، إلَّا أنَّها مُنقسِمَة وغير مُنظَّمة وغير قادرة عمومًا على الاستفادة من المظلوميات التي يعبّر عنها السكان إزاء الحوكمة. وفي الوقت الحالي، لا تُمثِّل هذه الأحزاب بديلًا ممكنًا عن الحزبَيْن الحاكمَيْن.

يُعزى هذا الضعف إلى قيود ناجمة عن الثقافة والنظام السياسيَّيْن في إقليم كردستان، فضلًا عن عدم بروز أيّ شخصيّاتٍ مُلهِمةٍ بين صفوف أحزاب المعارضة الحالية. بالتالي، فإنَّ الناخبين الذين خابَ أملُهم في الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني لا يرون فائدةً كبرى في تأييد المعارضة، بل يعتبرون أنّهم سيخسرون الكثير نتيجة هذه الخطوة. وثمّة أناس كثيرون يُفضِّلون عدم المشاركة إطلاقًا في الاستحقاق السياسي المتمثّل في الانتخابات.

على الرغم من ذلك، تُشكِّل جماعات المعارضة ظاهرةً مُثيرةً للاهتمام في المشهد السياسي في إقليم كردستان. فلا بدّ من فهم ديناميّاتها وإمكاناتها لتكوين صورة شاملة عن السياسة الكردية العراقية. وعليه، سيبحث هذا التحليل في بعض جماعات المعارضة الرئيسية، شارِحًا موقع كلٍّ منها وآفاقها في الانتخابات الإقليمية المقبلة التي كانَ من المُقرَّر إجراؤها بدايةً في شهر تشرين الأوّل/أكتوبر 2022، لكنَّها أُرجِئت عدّة مرّات. وحاليًا، من المتوقَّع أن تُجرى في فصل الخريف.

تُواجِه أحزاب المعارضة ككُلٍّ ثلاثة تحدّياتٍ رئيسيةٍ؛ أوّلًا، تُساهِم شبكات المحسوبية التابعة للحزبَيْن الحاكمَيْن وسيطرتهما على القوى الأمنية والدولة عمومًا في تعزيز سلطتهما، وتُعطيهما الأفضلية المُطلَقة على المعارضة. ثانيًا، لم تنجح أحزاب المعارضة الحالية في تشكيل جبهةٍ مُوحَّدةٍ، وبالتالي فهي تتنافس في ما بينها على استقطاب المؤيّدين، الأمر الذي يحدُّ من نفوذها. ثالثًا، فشلت المعارضة في صياغة رؤيةٍ استراتيجيةٍ، ما أضعف الثقة بها. إضافةً إلى ذلك، استمدَّ الناخبون دروسًا من إخفاق حركة "كوران" (التغيير) وباتوا يخشون من خلفائها.

 خارطة أحزاب المعارضة

تنقسم المعارضة بالإجمال إلى خمس مجموعات، وهي: 1) حركة "كوران"، 2) وحراك الجيل الجديد، 3) والأحزاب الإسلامية، 4) والأحزاب الجديدة المتمحوِرة حول الزعيم، 5) والناخبون والناشطون الذين باتوا ينفرون من الانتخابات، لكنَّهم مع ذلك يُعارِضون الأحزاب الحاكمة.

حركة "كوران"

حزب المعارضة الأكثر أهمية في إقليم كردستان خلال فترة ما بعد عام 2003 هو "حركة التغيير"، التي تُعرَف عادةً باسمها الكردي "كوران". تأسَّسَ الحزب في عام 2009 على يد نوشيروان مصطفى، الذي كانَ شخصيةً بارزةً في الاتّحاد الوطني الكردستاني لعقود عدّة. وأعلنَ الحزب الجديد أنَّ هدفه الواضح هو تفكيك الاحتكار الثنائي للحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني، وإجراء تعديلات دستورية لترسيخ حكومة إقليم كردستان كنظام ديمقراطي برلماني، على النقيض من النظام الرئاسي الذي يؤيّده الحزب الديمقراطي الكردستاني. كذلك، قطعَ الحزب وعودًا بمكافحة الفساد وتوحيد البيشمركة وقوّات الأمن ونزع الطابع السياسي عنها.

أعطى الحزب الجديد للكثير من الناس بصيصَ أملٍ في إمكانية الإصلاح. وسرعان ما جذبَ اهتمام مُختَلَف شرائح السكّان، علمًا أنَّ معظم مؤيّديه تركَّزَوا في مدينة السليمانية. وبعد عدّة أشهر من تأسيسه، خاضَ انتخابات المجلس الإقليمي في تمّوز/يوليو 2009. وفي حين فازَ الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني -اللذان خاضا الانتخابات ضمن لائحةٍ مشتركةٍ– بـ30 مقعدًا و29 مقعدًا على التوالي من أصل 111 مقعدًا، تمكّنت "حركة كوران" من تنظيم حملةٍ استثنائيةٍ ونالَت 25 مقعدًا. وقد منحها ذلك منبرًا مهمًّا لتنفيذ برنامجها، حتّى ولو استطاع الحزبان الحاكِمان عرقلة مشاريعها في البرلمان الكردستاني كونهما يستأثران بأغلبية المقاعد.

نالت "حركة كوران" لاحقًا حصّتها من الانتقادات لعدم وقوفها مع المتظاهرين المُناهِضين للفساد خلال التظاهرات التي استمرَّت لعدّة أشهر في عام 2011، إلّا أنَّها حافظت على سمعتها كوافدٍ جديدٍ إلى الساحة السياسية قُبيل انتخابات عام 2013. ففي تلك الانتخابات، أصبحت الحركة ثاني أكبر حزب في البرلمان: إذ فازَ الحزب الديمقراطي الكردستاني بـ38 مقعدًا، ونالَت "حركة كوران" 24 مقعدًا، واحتلَّ الاتّحاد الوطني الكردستاني المركز الثالث بـ18 مقعدًا فقط.

للمفارقة، شكَّلَ ذلك الفوز أزمة كبيرة بالنسبة إلى "حركة كوران"، لا تزال تعاني منها منذ ذلك الحين. فقرّرت الحركة التخلّي عن موقفها المُعارِض والدخول في الحكومة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني، وتولّت رئاسة برلمان كردستان، وعددٍ من الوزارات في الحكومة الثامنة. ومن الأسباب الأساسية لهذا القرار رغبة الحركة في تولّي زمام وزارة البيشمركة والعمل على أحد أهدافها السياساتية الرئيسية. وفي نهاية المطاف، أثبتت "حركة كوران" عدم قدرتها على تحقيق أيّ إنجازٍ مهمٍّ وخرجت من الحكومة في خضمّ نزاع كبير مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في عام 2015 حول تمديد ولاية الرئيس مسعود بارزاني.

عندئذٍ، بدأَت الحركة تخسر زخمها، إذ لم تفُزْ سوى بـ12 مقعدًا في انتخابات عام 2018 للبرلمان الكردستاني، وعادَت إلى الحكومة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني. وبدأ مؤيّدوها يشعرون بأنَّها انخرطَت في النظام الذي أرادَت تفكيكه. ثمّ سقطَت الحركة على المستوى الاتّحادي في انتخابات عام 2021 للبرلمان العراقي. حاليًا، تشهد الحركة خلافات ونزاعات داخلية حول هيكليتها القيادية. وقد غادرَ معظم المسؤولين المُنتخَبين الحركة وانضمّوا إلى جماعاتٍ مُعارِضةٍ جديدةٍ. ومع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة، يبدو أنّ الحركة فقدت شعبيّتها بالكامل تقريبًا.

فاقم ذلك مشاعر الخيبة، التي بلغت مستوياتٍ غير مسبوقةٍ في أوساط المعارضة في إقليم كردستان. فمسار "حركة كوران" حطَّمَ آمال الكثير من الناخبين وتركَ جروحًا عميقة لم يقتصر أثرُها على الحركة نفسها فحسب، بل انسحبَ على جميع جماعات المعارضة الأخرى. ونظرًا إلى أنّ "حركة كوران"، مع زعيمها الاستثنائي ودعمها الواسع، فشلت في تحقيق أهدافها، يبدو لغالبية الناس أنَّ حظوظ الجماعات الأخرى محدودةٌ أيضًا.

حراك الجيل الجديد

تأسَّسَ حراك الجيل الجديد، الذي يُعرَف باللغة الكردية بـ"نهوهي نوى"، في أوائل عام 2018 على يد شاسوار عبد الواحد، وهو مُطوِّرٌ عقاريٌّ وصاحب قناة "إن آر تي" التلفزيونية الكردية البارزة (معلومات إضافية للأمانة: عملَ المؤلّف كمحرّر أوّل باللغة الإنكليزية في قناة "إن آر تي" بين عامَيْ 2018 و2021.) عُرِفَ عبد الواحد في الأساس نتيجةً لتغطية القناة الجريئة التي انتقدت الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني بشكلٍ متكرِّرٍ. وخلال استفتاء الاستقلال عام 2017، لعبَ مجدّدًا دور المُعارِض من خلال دعم حملة "لا للاستفتاء الآن" التي جادلت بأنَّ الاستقلال الكردي هو الهدف النهائي، ولكنَّ توقيت التصويت لم يكُن صائبًا. وبينما فشلت الحملة في تحقيق تقدُّم ملحوظ –إذ صوّت 92٪ من الناخبين لخيار "نعم"- شجّعت هذه التجربة عبد الواحد على خوض مسار الانتخابات.

شاركَ حراك الجيل الجديد في الانتخابات الاتّحادية في أيّار/مايو 2018 وانتخابات برلمان كردستان في أيلول/سبتمبر 2018، وفازَ بأربعة مقاعد وثمانية مقاعد على التوالي. وعلى الرغم من ذلك، سرعان ما برزت الخلافات بين عبد الواحد ونوّاب الحزب المُنتخَبين حديثًا في بغداد وأربيل. وفي النهاية، لم يبقَ في الحزب أيٌّ من النوّاب المُنتخَبين في مجلس النوّاب الاتّحادي، في حين بقيَ ثلاثةٌ فقط من النوّاب في برلمان كردستان. وفي الانتخابات الاتّحادية التي جرت في تشرين الأوّل/أكتوبر 2021، نظَّمَ الحزب حملةً واسعةً وفازَ بتسعة مقاعد، مُستغِلًّا بالدرجة الأولى تراجُع الدعم لصالح "حركة كوران".

وبعد مرور سبع سنوات على تأسيس حراك الجيل الجديد، لم تتّضح إنجازاته بعد؛ فبرنامجه السياساتي مُبهَم في أفضل تقدير، وقد اعتمدَ على المواقف الاستعراضية للفت انتباه وسائل الإعلام. في غالبية الحالات، يتّخذ الحراك مواقفه بناءً على القضايا الرائجة، وخصوصًا تلك التي تُثير سخط الجمهور في لحظةٍ معيّنةٍ (رواتب موظّفي القطاع العام، وأسعار المحروقات، والهجرة، وشحّ المياه، وما إلى ذلك)، بدلًا من أن يُبادِر إلى قيادة الخطاب العام، وهو أمرٌ مُستغرَبٌ بالنسبة إلى منظّمةٍ تملك محطّةً تلفزيونيةً بارزةً. ومن الناحية الاستراتيجية، تُدرِك قيادته تمامًا أنَّ الناخبين قد عاقبوا "حركة كوران" بشكلٍ قاسٍ بسبب عملها مع الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني. لذلك، يرفض عبد الواحد بشكلٍ قاطعٍ فُرَص التعاون مع الأحزاب الأخرى -سواء في الحُكم أو في المعارضة- التي تردُّ لاحقًا بالمثل من خلال تجاهُل حراك الجيل الجديد.

وعلى الرغم من هذا السجلِّ المليء بالإخفاقات، من المُرجَّح أن يصبح حراك الجيل الجديد أكبر حزبٍ في المعارضة في الانتخابات المقبلة. فنقاط الضعف التي تُعاني منها الأحزاب الأخرى كفيلةٌ بجعله الخيار الأكثر شعبية في ظلّ المشهد الحاليِّ المُخيِّب للآمال. ويرى مؤيِّدوه بمعظمهم أنَّه لن يُحدِث فارِقًا كبيرًا لأنَّه لم يضع رؤيةً واضحةً لإقليم كردستان ولأنَّ قيادته ترتاب إلى حدٍّ كبيرٍ من بناء علاقاتٍ مع جماعات أخرى. هناك شخصيات مرموقة ومن أصحاب المبادئ داخل هذا الحراك، لكنَّ أغلب الناخبين والمُراقِبين باتوا يُدرِكون أنَّه ليسَ الورقة الرابحة.

الأحزاب الإسلامية

لطالما تمتّعت الحركة الإسلامية بشعبيّةٍ مُعتبَرةٍ في إقليم كردستان، وهو ما يتناقض مع العلمانية النسبية للحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني. تعمل هذه الحركة في المقام الأوّل على المستويَيْن الاجتماعي والشعبي، لكنَّها ناشطةٌ أيضًا في الانتخابات. وقد برزت أحزابٌ إسلاميةٌ كثيرةٌ، وانقسمت واندمجت وأعادت تنظيم نفسها مع مرور الوقت. حاليًا، ثمّة حزبان إسلاميان رئيسيان، هما: الاتّحاد الإسلامي الكردستاني وجماعة العدل في كردستان.

تأسّس حزب الاتّحاد الإسلامي الكردستاني، المعروف في اللغة الكرديّة باسم "يكجيرتو"، في العام 1994 ويترأسه اليوم صلاح الدين بهاء الدين. يتمتّع الاتّحاد بنفوذٍ كبير في محافظة دهوك. وفي الانتخابات البرلمانيّة العراقيّة في العام 2021، حصل عضو الاتّحاد الإسلامي الكردستاني والمرشّح المستقلّ، جمال کوجر، على 56,702 صوت، محقِّقًا أعلى عددٍ من الأصوات بين كلِّ المرشَّحين المنفردين في جميع أنحاء البلاد في تلك الدورة الانتخابيّة. يشغل الحزب حاليًّا أربعة مقاعد في بغداد، وكان يحظى بخمسة مقاعد في البرلمان الكردستاني السابق. ويربط بعض المراقبين بين حزب الاتّحاد الإسلامي الكردستاني وجماعة "الإخوان المسلمين".

تشكّلت جماعة العدل الكردستانيّة في سنة 2001 على يد علي بابير. وكانت تُعرَف باسم "الجماعة الإسلاميّة الكردستانية" قبل إعادة تسميتها في العام 2021، ويُشار إليها باللغة الكرديّة باسم "كومال". تشغل الجماعة حاليًّا مقعدًا واحدًا في بغداد وكانت تحظى بسبعة مقاعد في البرلمان الكردستاني السابق. وتُعدّ جماعة العدل الكردستانيّة أكثر تحفّظًا وأكثر انخراطًا في القضايا الاجتماعية مقارنةً بحزب الاتّحاد الإسلامي الكردستاني. 

لا تشكّل الأحزاب الإسلاميّة، منفصلةً أو مجتمعةً، تهديدًا كبيرًا للثنائيّ الحاكم. بل يركّز نهجها على حشد الدعم للمعتقدات والمواقف الإسلاميّة داخل المجتمع. فعلى سبيل المثال، اقترح الحزبان الإسلاميّان ودَعَمَا إجراءاتٍ تستهدف مجتمع الميم الموسّع. ومع ذلك، لا يظهران اهتمامًا كبيرًا بشغل مناصب حكوميّةٍ عُليا ويكتفيا بعددٍ محدودٍ من المقاعد في البرلمان. وبالتالي، يضمنان مشاركتهما في الحكم بصورة عامّة في إقليم كردستان ويحتفظان بالقدرة على التأثير على الحزبَيْن الحاكمَيْن، بينما يتجنّبان المسؤوليّات المرتبطة بالحكم الفعلي. ويتعارض هذا النهج البراغماتي تمامًا مع نهج حراك الجيل الجديد.

الأحزاب الجديدة المتمحوِرة حول الزعيم

مع اقتراب موسم الانتخابات، برزت شخصيّتان من الأحزاب القائمة ناقمتان على أداء الأخيرة وأنشأ كلٌّ منهما جماعة سياسية خاصة به. يتمحور هذان الحزبان الجديدان إلى حدٍّ كبيرٍ حول شخصية الزعيم، وليس حول إيديولوجيّةٍ أو سياساتٍ محدَّدةٍ. بالنسبة إلى الناخبين، هذا الحزبان ليسا إلاّ محاولة من جانب هاتين الشخصيّتَيْن للحفاظ على حضورٍ وتأثيرٍ سياسيٍّ، ولا يملكان قاعدةً عريضةً يمكن أن تشكِّل تحدّيًا حقيقيًّا للحزبَيْن الحاكمَيْن، على الأقلّ في الوقت الحالي.

ولعلَّ "حركة الموقف الوطني" التي يتزعّمها علي حمه صالح هي الجماعة المعارضة الأكثر أصالةً بين الحركتَيْن. فيُعرف حمه صالح، وهو عضوٌ سابقٌ في البرلمان عن "حركة كوران"، بالكشف عن حالات فسادٍ مزعومةٍ تورَّط بها مسؤولون في الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني. ومع انهيار حزبه السابق، تمكّن حمه صالح من حماية سمعته السياسيّة من خلال النأي بنفسه عن قيادة "حركة كوران" وتقديم استقالته من البرلمان في شباط/فبراير 2023. وبعد استقالته، حاول جمعَ المنشقّين الآخرين عن "حركة كوران" لتشكيل حزبٍ جديدٍ يستعيد الطاقة والحيوية التي تمتّعت بها الحركة سابقًا. ولكنّ هذه المحاولة باءت بفشلٍ ذريعٍ بسبب الخلافات الشخصيّة بين الفصائل السابقة لـ"حركة كوران". مع ذلك، أسّس حمه صالح حزبًا جديدًا في آذار/مارس 2024. وغالبًا ما يكتسي خطاب حمه صالح طابعًا محافظًا؛ وقد انتقد مؤخّرًا ما وصفه بـ"الأعراف الجديدة والغريبة" التي يتمّ إدخالها إلى المجتمع الكردي من الخارج.

أما الحزب الآخر المتمحور حول شخصيّة زعيمه، فيقوده الرئيس المشارك السابق للاتّحاد الوطني الكردستاني، لاهور شيخ جنكي. حظي شيخ جنكي بشعبيّةٍ واسعة لدى القاعدة الشعبيّة للحزب، ولا سيّما بفضل انتقاداته الشديدة للحزب الديمقراطي الكردستاني والموالين للرئيس مسعود بارزاني. وفي تموز/يوليو 2021، أطاح به ابن عمّه بافل طالباني، مع العلم أنّ العلاقة بينهما منقطعةٌ (وأصبح بافل طالباني الآن زعيم الاتّحاد الوطني الكردستاني بلا منازعٍ). وطوال عدّة سنواتٍ بعد ذلك، لم يكن واضحًا ما إذا كان شيخ جنكي سيشكّل حزبًا جديدًا أو يسعى إلى التسوية والمصالحة داخل حزب الاتّحاد الوطني الكردستاني. وفي نهاية المطاف، أعلن عن تأسيس "الجبهة الشعبيّة" في كانون الثاني/يناير 2024.

يقوم هذان الحزبان على زعيمَيْهما، وهو ليس أمرًا مستغربًا في الهياكل الحزبيّة الشائعة في إقليم كردستان، ذات الطبيعة الذكوريّة والتسلسل الهرمي الشديد. لكنّه يكشف عن خللٍ عميقٍ في استراتيجيّة الحزبَيْن. فيعتمد نجاحها على جاذبيّة زعيمَيْهما، وهو معيارٌ يحدّ من النجاح حتمًا. في حالة حمه صالح، إنّ عدم قدرته على إقناع المنشقّين الآخرين عن "حركة كوران"، وهم حلفاؤه السياسيّون الطبيعيّون، بالانضمام إليه، يشير إلى أنّه لا يتمتّع بالمهارات القياديّة اللازمة لإدارة منظّمةٍ حزبيّةٍ. من جهته، لا يزال شيخ جنكي يعاني من تداعيات انفصاله عن الاتّحاد الوطني الكردستاني، وسيواجه صعوبةً كبيرةً في جذب رفاقه السابقين أو مؤيّدي المعارضة الأصيلين إلى الحزب الجديد. علاوةً على ذلك، يُشاع أنّه أصبح مُقرّبًا من مسرور بارزاني من الحزب الديمقراطي الكردستاني في إطار تنافسه مع بافل طالباني، علمًا أنّ مجرّد انتشار هذه الشائعة التي تفيد بتعاونه مع شخصيّةٍ مكروهةٍ لهذه الدرجة كفيلٌ بتلطيخ سمعته الشخصيّة والسياسيّة، مهما كانت حقيقة علاقتهما. ونتيجةً لذلك، من غير المرجّح أن يكون لأيٍّ من الحزبَيْن الجديدَيْن تأثيرٌ كبيرٌ في صناديق الاقتراع أو في إحداث تغييرٍ سياساتيٍّ.

الابتعاد عن السياسات الحزبيّة

أدَّى الاستئثار الثنائي بالحكم، وخيبة الأمل بـ"حركة كوران"، وعدم كفاءة أحزاب المعارضة الأخرى في أعيُن الجمهور، إلى شعور عددٍ كبيرٍ من الناخبين بعدم وجود حزبٍ يدعمونه بحماسٍ. نتيجةً لذلك، لا يُقبِلون على التصويت يوم الانتخابات. بالفعل، انخفضت نسبة الاقتراع مع كلّ انتخاباتٍ لبرلمان كردستان منذ العام 1992، عندما أدلى 87% من الناخبين المؤهّلين بأصواتهم. وبلغت هذه النسبة 75٪ في انتخابات العامَيْن 2009 و2013، حين حصدت "حركة كوران" حصّةً كبيرةً من الأصوات، لتنخفض إلى 60٪ في العام 2018. وتبقى هذه النسبة أفضل نوعًا ما من نسبة الاقتراع في الانتخابات الاتّحادية الأخيرة، ولكنّها لا تُنبِئ بالخير. وتجدر الإشارة إلى أنّ الانتخابات ذات نسبة الاقتراع المنخفضة غالبًا ما تصبُّ في صالح الحزبَيْن الحاكمَيْن.

هذه النسب المنخفضة تدلّ على واقع الانتخابات في إقليم كردستان وقدرتها على إضفاء الشرعيّة، لكنّها لا تشكّل مؤشرًا دقيقًا عن المستوى العامّ للنشاط السياسيّ داخل المجتمع. فيتمتّع أكراد العراق، من كافّة الفئات الاجتماعيّة والطبقيّة، بدرجةٍ عاليةٍ من المشاركة والوعي السياسيَّيْن، تتخطّى بجوانب كثيرة نظراءهم في الغرب. ويعكس انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات وغياب الدعم للمعارضة فجوةً جوهريّةً في السياسة الكرديّة بين العمليّة الانتخابيّة واحتمالات إحداث تغييرٍ فعليٍّ. وبالنظر إلى الوضع الراهن، من الصعب لوم الناس على شعورهم بعدم جدوى الاقتراع.

يدأب كثيرون في البحث عن بدائل للسياسات الحزبيّة، ويظهر ذلك جليًّا في تجربة "مجلس المعلّمين المعارضين". ففي العام الماضي، نظّم المجلس إضرابًا في محافظة السليمانيّة للضغط على حكومة إقليم كردستان بسبب عدم دفع رواتب القطاع العامّ طوال خمسة أشهر. وبالنسبة للرأي العام، أظهر المجلس أنّه حركةٌ سياسيّةٌ منضبطةٌ وفعّالةٌ للغاية، أثارت نقاشًا واهتمامًا شعبيَّيْن بقضيّتها. وقال أعضاءٌ في المجلس لمعهد الشرق الأوسط في مقابلاتٍ أُجرِيت معهم مؤخّرًا، إنّ الأحزاب الحاكمة والمعارضة تواصلت معهم مرارًا وتكرارًا عارضةً عليهم الترشّح للانتخابات البرلمانيّة، لكنّهم رفضوا هذه المناشدات وقاوموا أيضًا دعوات من أنصارهم إلى تشكيل قائمةٍ انتخابيّةٍ خاصّةٍ بهم. وهذا يدلّ على أنّ سياسات المعارضة لا تزال نشطة، لكنّ صناديق الاقتراع لا تجذب الناخبين حاليًا.

الخاتمة

يشعر الناخبون بالإحباط الشديد إزاء المسار السياسي في إقليم كردستان، ويفقدون الأمل في إحداث تغييرٍ من خلال الانتخابات. ويعكس هذا الواقع، من ناحيةٍ، التحدّيات الكبيرة التي تواجهها أيُّ مجموعةٍ معارضةٍ تريد منافسة الحزبَيْن الحاكمَيْن والأفضلية التي يحظيان بها ضمن منظومة الحكم. إذ يسيطر الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني على قوّات الأمن ولا يتردّدان في استخدام العنف والترهيب لفرض إرادتهما السياسية؛ كما يشرفان على شبكات المحسوبيّة الواسعة التي تعيث فسادًا في السلوك السياسي. بالإضافة إلى ذلك، يسيطر الحزبان الحاكمان إلى حدٍّ كبيرٍ على وسائل الإعلام، مع استثناءاتٍ ملحوظةٍ مثل قناة "إن آر تي" المملوكة لحراك الجيل الجديد، ويتمتّعان بنفوذٍ متجذِّرٍ في مؤسّسات الدولة، مثل القضاء. وحتّى عندما تسعى مجموعات المعارضة مثل "حركة كوران" للوصول إلى الحكم، تبقى احتمالات نجاحها منخفضةً وخطر استمالتها وإضعاف موقفها مرتفعًا.

يحمل الجدل الأخير حول توقيت الانتخابات المقبلة لبرلمان كردستان دلالاتٍ عدّة؛ إذ تُعدّ الانتخابات الاستحقاق الأفضل للمعارضة للبروز والتسويق لنفسها، في حين يتعيّن على الحزبَيْن الحاكمَيْن مواجهة مساءلة الناخبين. من الممكن طرح تساؤلاتٍ جدّيةٍ حول مدى حريّة هذه الانتخابات ونزاهتها، ولكنّها بالتأكيد تمنح مجموعات المعارضة الوقت والمساحة الكافيَيْن لاجتذاب الناخبين. وبعد الانتخابات، يقوم الحزبان الحاكمان إما باستمالة مجموعات المعارضة، كما فعلا مع "حركة كوران"، أو تجاهلها، كما حصل مع حراك الجيل الجديد.

ومع ذلك، غابت مواقف المعارضة إزاء التأجيل المتُكَرِّر للانتخابات، التي كان من المفترض إجراؤها في تشرين الأوّل/أكتوبر 2022 في الأساس. فعدا عن إصدار بيانٍ بين الحين والآخر يحثُّ على المضيِّ قدمًا في الانتخابات في موعدها المُقرَّر، لم تنبس المعارضة ببنت شفة. ولو كانت هذه الأحزاب تحظى بدعمٍ شعبيٍّ كبيرٍ، لربّما استطاعت تنظيم احتجاجاتٍ في الشوارع أو ممارسة أنواعٍ أخرى من الضغط على بغداد والحزب الديمقراطي الكردستاني والاتّحاد الوطني الكردستاني لإجبارهم على التحرّك والعمل. لكنّ هذا الاحتمال لم يكن واردًا على الإطلاق. فحتّى تاريخ كتابة هذه السطور، لم يُعلَن عن موعدٍ جديدٍ للانتخابات، ولكن تشير التوقّعات بحسب المعلومات المتوفِّرة إلى أنّها ستُجرى بحلول شهر تشرين الثاني/نوفمبر على أبعد تقدير. ووفقًا للنتائج، قد تضطلع مجموعات المعارضة بدورٍ في عمليّة تشكيل الحكومة، التي من المرجَّح أن تكون طويلةً وعسيرةً وخلافيّةً.

يُعزى فشل المعارضة في اغتنام هذه الفرصة إلى عدم قدرتها على تشكيل جبهةٍ موحّدةٍ أو صياغة رؤيةٍ مقنعةٍ وبرنامجٍ محدَّدٍ في حال استلمت السلطة. وبطبيعة الحال، تعجز المعارضة عن حشد دعمٍ كبيرٍ نتيجةً لذلك. ولا يشكّل تشتّت الأصوات تهديدًا كبيرًا للحزبَيْن الحاكمَيْن؛ كما يؤدي الانقسام العلنيّ بين مجموعات المعارضة وعدم قدرتها على اقتراح خططٍ إصلاحيّةٍ واقعيّةٍ إلى نفور المؤيّدين المحتملين. لذلك، فإنّ أحزاب المعارضة اليوم أمام تحدٍّ صعبٍ تفرضه القوّة الهائلة التي يتمتّع بها الحزبان الحاكمان؛ ولكنّها وحدها المُلامة في نهاية المطاف لأنّها فشلت في معالجة مشاكلها ومواطن ضعفها.

وينثروب رودجرز هو صحفيٌّ وباحثٌ يتمحور عمله على السياسة وحقوق الإنسان والاقتصاد السياسي. نُشرت أعماله السابقة في مجلّة "فورين بوليسي"، ومجلّة "مؤشر الرقابة"، وصحيفة "المونيتور" الإلكترونيّة، ومجلّة "Rest of World".


Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.
البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك