MEI

قيس سعيد واستراتيجيته الاقتصادية الجديدة لتونس

مارس 26, 2024

فاضل علي رضا


مشاركة

يسعى الرئيس التونسي قيس سعيد، على ما يبدو، إلى صياغة استراتيجية اقتصادية جديدة. فبعد أن حدَّد بدايةً الخطوط العريضة لأولوياته، مثل مكافحة الفساد والدفاع عن السيادة، بدأ مؤخرًا بالحديث عن تدابير أكثر تفصيلًا. وقد اعتمد سعيد نهجًا خاصًّا يحاول من خلاله تخطي الهياكل النقابية والمؤسَّسية القائمة. وبما أنَّ جهود سعيد لاستعادة الأصول المسروقة في الداخل والخارج لم تؤتِ ثمارها بعد، حوَّل اهتمامه نحو بناء هيكل للسياسة الاقتصادية في قطاعات محدَّدة، ومنها السياسة النقدية والسياسة الصناعية، كما اتَّخذ بعض الخطوات الأولية فيما يخص سياستَي العمل والزراعة.

السياسة النقدية

شهدت السياسة النقدية التطورات الأكبر والأكثر أهمية حتى الآن، فبدا الموقف التونسي مرتبكًا في البداية عندما رفض سعيد صراحةً قرض صندوق النقد الدولي وشروط التقشف التي يفرضها في نيسان/أبريل 2023، ولا سيما أنَّ مسؤولًا في صندوق النقد صرَّح علنًا بعد أيام قليلة أنَّ "البرنامج الذي رفضه الرئيس صمَّمته السلطات التونسية بفخر". وكان المجلس التنفيذي للبنك المركزي التونسي أيضًا يذكر في بياناته الصحافيةخلال العام 2022 وأوائل 2023 أنَّ قرض صندوق النقد ضروري، لكنَّه عاد وتراجع فجأةً عن هذا الموقف في آذار/مارس 2023.

الآن، بعد مرور عام على الرفض، يبدو أنَّ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لم يعد مطروحًا، لا بل أصبح صعب المنال. ويبدو أيضًا أنَّ الرئيس نفَّذ وعده بأنَّ "البديل يكمن في الاعتماد على الذات". ويُعزى ذلك جزئيًّا إلى إلغاء قانون استقلال البنك المركزي في العام 2016، وإنْ بشكل استثنائي حينها. وقد أُقِرَّ هذا القانون أساسًا لمنع البنك المركزي من منح قروض للخزانة، وذلك للوفاء بشروط قرض صندوق النقد الدولي آنذاك. وفي 7 شباط/فبراير 2024، أصدر الرئيس سعيد القانون رقم 10 لسنة 2024، الذي ينص على "استثناء" يتيح التغاضي عن المادة 25 من قانون البنك المركزي لعام 2016. وسمح هذا الاستثناء للبنك المركزي بمنح الخزانة قرضًا بقيمة 7 مليارات دينار (2.25 مليار دولار أميركي) لمدة 10 سنوات وبدون أي فوائد. ويفسح ضخُّ الأموال هذا المجالَ لاتخاذ قرارات اقتصادية جديدة بدون الحاجة إلى إرضاء الدائنين المحليِّين أو الدوليِّين ومراعاة قيود الإقراض التي غالبًا ما تحددها الأسواق المالية الدولية، والمؤسسات المالية الدولية، ووكالات التصنيف الائتماني.

وفي حين أثار بعض الصحافيين مخاوف بشأن التضخُّم المحتمل نتيجة هذه الخطوة، تجدر الإشارة إلى أنَّ التحذيرات التي كثيرًا ما يُستشهد بها والصادرة عن رئيس البنك المركزي السابق مروان العباسي بخصوص سيناريو التضخم المفرط "الفنزويلي" تعود إلى العام 2021، ولم تعُد تنطبق على السياق الحالي. ففي الواقع، أنَّ التضخُّم في تونس، كما في كثير من دول الجنوب العالمي، يتأثَّر بالاستيراد. ويعني ذلك أنَّ ارتفاع تكلفة السلع يُعزى إلى ارتفاع تكلفة المواد المستورَدة، أكثر من ارتفاع الرواتب والأجور والإنفاق الاستهلاكي. ومع أنَّ الأموال الجديدة من البنك المركزي مخصَّصة لتغطية العجز في ميزانية الدولة، يبدو أنَّ تونس سدَّدت قروضها الخارجية باستخدام احتياطي العملات الأجنبية لديها. وقد صمدَ هذا الاحتياطي، حتى الآن، في وجه الصدمات وبقي عند مستوى مستقرٍّ نسبيًّا بفضل استقرار الصادرات والتحويلات المالية. وقد اعتبرت وكالة التصنيف الائتماني "فيتش" مؤخرًا أنَّ الوضع في تونس يُظهِر "مرونة أفضل من المتوقَّع لاحتياطي العملات الأجنبية رغم محدودية التمويل الخارجي".

السياسة الصناعية

استطاعت الحكومة التونسية تجنُّب أزمة الائتمان بنجاح، وبدون الحاجة إلى قرض من صندوق النقد الدولي، ألَّا أنَّها تواجه الآن تحدِّيًا طويل الأمد يتمثَّل في معالجة أساسيات الاقتصاد. في هذا السياق، يبدو أنَّ الرئيس يصوغ سياسة صناعية تحاول وقف مسار الخصخصة أو حتى عكسه في الصناعات الاستراتيجية، التي كان الكثير منها مُربِحًا في السابق. فيركِّز جزء كبير من قطاع الصناعة في تونس على التصدير، وبخاصة في مجالات الصناعات الزراعية، والمنسوجات، والكابلات، وقطع غيار السيارات والطائرات. غير أنَّ سعيد يركِّز في زياراته على الصناعات الاستراتيجية المهمَّة للاستهلاك المحليِّ، والتي كانت سابقًا تعتمد على المواد الأولية المحلية سواء بالكامل أو جزئيًّا، مثل مصنع الفولاذ الوحيد في تونس، ومصنع ألبان، ومصنع الورق في قصرين. وخلال هذه الزيارات، أكَّد سعيد على إمكانية استعادة شكل من أشكال التكامل الرأسي والربحية، وهو شرط أساسي لتقليل الاعتماد على الواردات.

وخلال زيارته الأخيرة إلى مصنع الفولاذ، صرَّح سعيد أنَّ "تونس يجب أن تعود إلى مؤسسة الفولاذ"، مضيفًا أنَّه في فترة الحكم السابق، "كان كل شيء للبيع"، أمَّا اليوم، "فنحن نريد أن نبني بلادنا بثرواتنا واختياراتنا... ولن نبيع بلادنا إلى أحد". ويعكس هذا الموقف خطاباته السياسية الأخرى التي يشدِّد فيها على ضرورة استعادة السيادة. وفي مقاطع الفيديو التي توثِّق زياراته إلى المصانع المحلية، يبدو قيس سعيد وكأنه يفكر بصوت عالٍ في العوامل التي دفعت إلى التخلُّف عن السداد وإفلاس الشركات المملوكة للدولة، وفي تدابير الإفلاس القانونية والإدارية، التي وقعت كلُّها في براثن الفساد. ففي خطاباته هذه، يستهدف سعيد بعض رجال الأعمال المحدَّدين، ولكنَّه يمارس الضغط أيضًا على القطاع الخاص والمجموعات التي تدافع عن مصالح هذا القطاع، مثل الاتحاد التونسي للتجارة والصناعة والحِرَف اليدوية. وقد وصف منتقدو الرئيس نهجه هذا بـ"شيطنة القطاع الخاص".

سياسة العمل

بطبيعة الحال، يساهم كلٌّ من الاتحاد التونسي للتجارة والصناعة والحِرَف اليدوية والاتحاد العام التونسي للشغل في تطوير نمط حكم مؤسَّسي ونقابي، لكنَّ الرئيس يحاول تجاوزهما. فقد اعتُقِل عدد من قادة الاتحاد العام التونسي للشغل خلال الأشهر الماضية، ثم أُطلِق سراح البعض منهم بعد الاحتجاجات والضغوطات من النقابيِّين. وفي موازاة هذه الضغوط الممارسة على الاتحاد العام التونسي للشغل، يؤيِّد الرئيس أيضًا المبادرات الرامية إلى تلبية مطالب العمال، ما يقوِّض دور الاتحاد كجهة وسيطة.

على سبيل المثال، دعا سعيد مؤخرًا إلى إلغاء نظام التعاقد الفرعي وعقود العمل القصيرة الأجل من خلال إصلاح قانون العمل. وكان نظام التعاقد في قطاع الصناعة في تونس يتيح للعلامات التجارية الكبرى المتعددة الجنسيات إقامة عقود فرعية مع المصانع المحلية. ولكنْ، في الآونة الأخيرة، برز مستوى آخر من التعاقد الفرعي، يتمثَّل في نشوء مصانع مُستغِلَّة للعمَّال في المنازل. ووفقًا لهذا النموذج، يتم توظيف العمَّال على أساس عقود قصيرة الأجل تُجدَّد باستمرار، أو حتى بدون عقود على الإطلاق بموجب شروط استغلالية وغير مستقرَّة. وتؤثِّر هذه المشكلة بشكل خاص على النساء اللواتي يعملن في صناعات مثل المنسوجات. ومن المفترض، بموجب النظام المؤسَّسي والنقابي، أن يدافع الاتحاد العام التونسي للشغل عن حقوق العمال بدلًا من الرئيس. غير أنَّ تراجع معدلات العضوية والانتساب إلى النقابات في القطاع الصناعي خلال العقود الأخيرة يشير إلى خلل هيكلي في قدرة الاتحاد على دعم النموذج النقابي والحفاظ عليه. ودفع ذلك بالرئيس إلى التدخُّل كممثِّل للطبقة العاملة من خلال اعتماد نموذج سياسي مباشر أكثر، يُطلِق عليه النقَّاد والمعارضون صفة "الشعبوي".

السياسة الزراعية

تبقى الزراعة القطاع الذي يواجه المشاكل الأكثر إلحاحًا، والتي من الصعب حلُّها سياسيًّا. ففي حين حاول الرئيس سعيد وضع سياسة للقطاع الزراعي، تفتقر الأخيرة إلى استراتيجية واضحة، وإلى آليات التنفيذ والمخرجات المحدَّدة. فيروِّج سعيد لما يُسمَّى بـ"الشركات الأهلية"، وبخاصة للنساء اللواتي يعملن في القطاع الزراعي، كخطوة باتجاه تحقيق السيادة الغذائية والتنمية المحلية. وقدَّم سعيد هذه الفئة الجديدة من الشركات في آذار/مارس 2022، مُستندًا إلى إطار الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي نصَّت عليه التشريعات السابقة الرامية إلى تخفيف القيود التنظيمية العقابية التي فرضتها الدولة سابقًا على الهياكل التعاونية غير التقليدية. ويعود الفضل جزئيًّا في وضع هذا النموذج إلى الدور الرائد الذي أدَّته "جمعية حماية واحات جمنة" في مجال التعاونيات الزراعية.

مع ذلك، يرى بعض المحللين أنَّ الفارق الأساسي بين "الشركات الأهلية" وقانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني هو أنَّ "الشركات الأهلية" لا تتمتَّع باستقلال إداري، وبالتالي تشبه مشروع التعاونيات الذي أقامه أحمد بن صلاح في الستينيات. وحتَّى الآن، أعرب بعض العمال الزراعيين عن أملهم في أن يؤدِّي النظام الجديد الذي أطلقه سعيد إلى فوائد مادية ملموسة. ولكن، هناك شكوك حول قدرة "الشركات الأهلية" على معالجة المشاكل الجوهرية التي تواجه العمال الزراعيِّين ومسائل العدالة والنفوذ المتعلقة بملكية الأراضي واستخدامها، بحسب بعض الدراسات الأولية.

في حين أنَّ بعض القرارات الاقتصادية التي اعتمدها الرئيس قيس سعيد تبدو وليدة سياقٍ محدَّد، وغير منبثقة بالضرورة عن رؤية استراتيجية مُحدَّدة المعالم، إلا أنَّها تحمل في طيَّاتها عناصر الاستدامة والاتِّساق الكفيلة بتحويلها إلى سياسات متماسكة جديدة. وما يعزِّز هذا الواقع ويسهِّله هو تركيز السلطة في يد الرئيس، وهذا ما سعى سعيد إلى تحقيقه خلال السنوات الثلاث الماضية. على أيِّ حال، لا يزال من المبكر الجزم بما إذا كانت هذه السياسات ناجحة أم لا.

فاضل علي رضا هو مؤسس ورئيس تحرير موقع Meshkal.org الإخباري المستقل باللغتين الإنكليزية والعربية، الذي يغطي الشؤون التونسية، وهو باحث غير مقيم في برنامج شمال أفريقيا والساحل التابع لمعهد الشرق الأوسط.

 

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.

متعلق بالمنطقة

سبتمبر 28, 2023

فاضل علي رضا
البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك