MEI

حلف شمال الأطلسي أمام فرصةٍ قد لا تتكرّر لوضع استراتيجيةٍ جنوبيّةٍ فعّالةٍ

يونيو 27, 2024

إيميليانو أليساندري


مشاركة

تحظى قمّة واشنطن المقبلة بأهميّةٍ كبرى؛ إذ تصادف الذكرى السنويّة الخامسة والسبعين لتأسيس منظّمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسيتمّ خلالها إطلاق عددٍ من المبادرات التي تهدف إلى تعزيز قدرات الحلف على الدفاع والردع، بالإضافة إلى "تمهيد الطريق" لانضمام أوكرانيا مستقبلًا إليه. ولعلّ الجانب الأقلّ تداولًا لهذه القمة هو أنّ قادة الحلف سيسعون إلى تنشيط دوره في دول الجنوب، وتحديدًا في الشرق الأوسط وإفريقيا. وتشير دراسة أجريت في وقتٍ سابقٍ من هذا العام إلى أنّ هذا التطوّر المرحّب به والذي طال انتظاره –إذ إنّ آخر مبادرةٍ بارزة قام بها الحلف تجاه دول الجنوب كانت منذ سنوات عدّة– يسلّط الضوء على الهامش الضيّق أمام الحلف للاستفادة من هذه الفرصة، نظرًا إلى العوائق السابقة والقيود المختلفة التي ما زال الحلف يواجهها.

لن يكون تحديث نهج الحلف إزاء الجنوب مهمّةً سهلةً، وذلك نتيجة تعقيدات تعود إلى ثلاثة عوامل أساسيّة. أوّلًا، تسبّبت الحرب في غزة بزيادة مشاعر العداء تجاه الغرب. ثانيًا، ما زالت الدول العربيّة غير مستعدّةٍ لاتّخاذ إجراءاتٍ صارمةٍ لعزل روسيا ومعاداة الصين. ثالثًا، يبرز تفاوتٌ واضحٌ في الأهميّة الاستراتيجيّة للجناح الجنوبي ضمن خطط الحلف، واختلافٌ في دور "الناتو" مقابل دور الاتّحاد الأوروبي في النشاط الإقليميّ. ومن التطوّرات اللافتة في هذا الإطار إطلاق الاتّحاد الأوروبي، وليس "الناتو"، عمليّةً عسكريّةً مؤخّرًا في البحر الأحمر لحماية حركة التجارة العالميّة.

من المُستَبعَد أن تُفضي قمّة واشنطن إلى نتائج أو إنجازاتٍ غير مسبوقةٍ، لكنّها ستشكّل بلا شكٍّ فرصةً لتسليط الضوء على الارتباط الوثيق بين أمن أوروبا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط ​​وإفريقيا. وبات هذا الارتباط اليوم أكثر استراتيجيّةً وحساسيّةً نظرًا للتحدّيات التي يفرضها الحضور الروسي في الشرق الأوسط وإفريقيا، والتعاون العسكريّ المتزايد بين روسيا وإيران في منطقة البحر الأسود. وأمام التهديدات التقليديّة وغير التقليديّة التي يواجهها، يتحتّم على حلف "الناتو" النظر في تعزيز مشاركته في جهود الحفاظ على أمن الملاحة البحريّة ومعالجة مسائل ذات أهميّةٍ متناميةٍ، مثل أنظمة الدفاع الجويّ والصاروخيّ، وغيرها من المجالات الحيوية، مع الاستمرار في التزامه الراسخ بمكافحة الإرهاب. 

يحظى حلف "الناتو" كذلك بفرصة تجديد شراكاته مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتعزيزها، بالتوازي مع توسيع نطاق جهوده الدبلوماسية في القارة الإفريقية. وعلى الرغم من انتشار المشاعر المعادية لحلف "الناتو" في دول الجنوب، فإن إمكانيات "الناتو" من حيث بناء القدرات والمساعدات الأمنيّة لا تزال تَجد صدى وترحابًا لدى قطاعَيْ الدفاع والأمن في عددٍ كبيرٍ من البلدان. ولن يصعب تحقيق التآزر حول أولويّاتٍ أمنيّةٍ محدّدةٍ. ومع ذلك، قد يبقى التقارب الاستراتيجيّ هدفًا بعيد المنال؛ وفي أفضل الحالات، يمكن أن يحصل تقاربٌ نتيجة العمليّات المتزامنة والثنائية إلى حدٍّ بعيدٍ، والساعية إلى تحقيق تعاونٍ أمنيٍّ عمليٍّ مع الشركاء المُدرِكين لأهميّة السيادة الوطنيّة، والذين سيواصلون انتهاج سياسات الحيطة.

 التزامٌ طويل الأمد لم يخلُ من العثرات

في حين أعادت الحرب التي شنّتها روسيا ضدّ أوكرانيا التأكيد على الدور المركزيّ للجناح الشرقيّ للحلف، يظلّ جناحه الجنوبيّ عاملًا حاسمًا في معادلة الأمن الشاملة للحلف، ولطالما شكّل مصدر قلقٍ له. فقد انضمّت تركيا واليونان إلى "الناتو" في العام 1952، بعد أنّ اعتبر مبدأ ترومان في العام 1947 منطقة شرق البحر الأبيض المتوسّط ساحةً مركزيّةً لاستراتيجيّة الاحتواء الأمريكيّة. بالإضافة إلى ذلك، أُدرجت إيطاليا في مجموعة الدول المؤسِّسة للحلف في العام 1949، ما يؤكّد بوضوح أنّ نطاق "الناتو" كان يتجاوز المحيط الأطلسيّ منذ تأسيسه.

في خلال حقبة الحرب الباردة، أصبحت منطقة البحر الأبيض المتوسّط ساحةً للتنافس الجيوسياسيّ الذي كان لحلف الناتو دور فيه عبر نشر الأنظمة الصاروخيّة الباليستية في مواقع رئيسةٍ على سبيل المثال لا الحصر. وبينما سعت القوّتان العظميان إلى حشد التأييد وكسب الحلفاء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حافظ "الناتو" على التفوّق البحريّ في البحر الأبيض المتوسّط؛ حيث شكّلت مدينة نابولي المقرّ الرئيسي للأسطول السادس للبحريّة الأمريكيّة وقيادة حلف "الناتو".

وفي أعقاب الحرب الباردة مباشرةً، لم يَعُد حلف شمال الأطلسي يواجه خصمًا استراتيجيًّا في المنطقة بسبب انسحاب القوات الروسيّة إثر انهيار الاتّحاد السوفياتي. وفي محاولةٍ لتعزيز العلاقات مع دول الجنوب، أطلق "الناتو" مبادرة الحوار المتوسّطي (MD) في العام 1994، بالتزامن مع اتفاقيّات أوسلو، ومبادرة إسطنبول للتعاون (ICI) مع دول الخليج في العام 2004. وساهمت هاتان الشراكتان، اللتان شملتا معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بفعاليةٍ في إعطاء معنى عملي لمفهوم "الأمن التعاوني"، الذي أدرجه حلف شمال الأطلسي ضمن قائمة "مهامه الأساسية" في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.

ومن الأهمية بمكانٍ التذكير بأنّ المرّة الأولى والوحيدة حتّى الآن التي فعّل فيها حلف "الناتو" بند الدفاع المشترك بموجب المادّة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي كانت بعد وقوع هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر2001؛ وهي واقعةٌ تاريخيّةٌ قلّما تُعطَى الأهميّة التي تستحقّها. فقد تصدّى الحلف لتلك الهجمات من خلال مبادرات مثل "عملية المسعى النشط" التي تمركزت في البحر الأبيض المتوسّط. وفي الفترة الممتدّة بين عامَيْ 2001 و2016، قام "الناتو" بتسيير دوريّاتٍ بحريّةٍ في البحر الأبيض المتوسّط، هدفت أساسًا إلى الوقاية من الأنشطة الإرهابيّة وردعها ودرء خطرها. وخلفت هذه العمليّة في العام 2016، عمليّةُ "حارس البحر"؛ وقد استفادت العمليّتان من المشاركة الفعّالة لمختلف الشركاء في الحوار المتوسّطي.

من ناحيةٍ أخرى، شكّلت منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا مصدرًا للخلاف بين أعضاء "الناتو"، فضلًا عن إخفاقات الحلف في مهامه في المنطقة. فأدّت الخلافات بين الأعضاء إلى عدم تولّي الحلف دورًا قتاليًّا في غزو العراق بقيادة الولايات المتّحدة سنة 2003، وانتهت مهمّة "الناتو" التي دامت عشرين عامًا في أفغانستان بشكلٍ مفاجئ في العام 2021، مخلّفةً دروسًا وعِبَرًا كثيرةً استفاد منها الحلف. أمّا التدخل العسكريّ في ليبيا سنة 2011، فتحوّل إلى مثلٍ يستشهد به منتقدو الحلف لإظهار الغطرسة العسكريّة للكتلة الأوروبية-الأطلسيّة وعواقب التدخّل الأجنبيّ الوخيمة.

غالبًا ما يتغاضى النقّاد عن حقيقة أنّ حلف شمال الأطلسي تدخّل في الحرب الأهليّة الليبيّة تنفيذًا لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة رقم 1973، الذي دعا إلى فرض حظر جوّي ووقف استهداف المدنيّين. ويتجاهل هؤلاء أيضًا الدعم النشِط الذي قدّمته بعض الدول العربيّة مثل الأردن والمغرب وقطر والإمارات العربيّة المتّحدة للعمليّات التي قادها "الناتو". لا شكّ في أنّ غياب المشاركة الفاعلة لدول الغرب بعد تدخّلها في ليبيا (وهو أمر يعود جزئيًّا للرغبة في تفادي تحديات بناء الدولة وما يرافقها من انتقاداتٍ محتملة) أفضى إلى نزوح المقاتلين الأجانب وانتشار كميّة كبيرة من الأسلحة الليبيّة. وأسهم ذلك بدوره في استمرار دوّامة عدم الاستقرار والانقلابات العسكريّة والعنف في منطقة الساحل الإفريقي منذ ذلك الحين.

أدّى التدخّل العسكري لحلف شمال الأطلسي في ليبيا إلى نتائج عكسيّة، إذ لم تتمكّن ليبيا حتّى اليوم من تحقيق الاستقرار أو إعادة الإعمار، في ظلّ سيطرة الفصائل المتنافسة على مناطق وأصول مختلفة للدولة الغنية بالطاقة. ومع تحوّل الحرب الأهليّة إلى نزاعٍ بالوكالة، أصبحت روسيا جهةً فاعلةً رئيسيةً في المشهد الليبي، معزِّزةً بحضورٍ عسكريٍّ متنامٍ. مع ذلك، انخرطت مجموعةٌ من الدول الأعضاء في حلف "الناتو"، ومنها تركيا وفرنسا وإيطاليا، في منافسةٍ مؤسفةٍ على النفوذ هناك؛ فاتّبعت كلٌّ منها استراتيجيّاتٍ متضاربة مدفوعة بمصالحها الوطنيّة ورؤاها المتباينة لمسار ليبيا المستقبلي.

حين وافق حلف شمال الأطلسي على تولّي مهمّة تحقيق الاستقرار في مرحلة ما بعد النزاع الشاقّة، لم يكن سِجِلُّه في المنطقة مخيّبًا للآمال كما كانت الحال في أفغانستان؛ فمنذ أن أصبح العراق شريكًا لحلف "الناتو" في العام 2011، تركّزت جهود الحلف على تعزيز الأجهزة والمؤسّسات الأمنية في البلد لمنع تنظيم "الدولة الإسلامية" من رصّ صفوفه مجددًا. وتُمثِّل بعثة "الناتو" في العراق، التي انطلقت في العام 2018، تتويجًا لجهودٍ دؤوبةٍ في سبيل بناء القدرات والتدريب تعود إلى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع أنّ نجاح تلك الجهود يعتمد على حُسن سير الأمور في حقبة ما بعد صدام حسين، تُظهِر البعثة أنّ موارد "الناتو" وأدواته تحظى بتقديرٍ كبيرٍ في سياقاتٍ لم تكُن في الحسبان.

استخلص حلف "الناتو" دروسًا عدّة من المشهد السياسي الشديد التعقيد في العراق. فقد تسبّب قرار الحلف بزيادةٍ عديدهٍ العسكريّ في العام2021 من 500 فردٍ إلى 4000 بموجة انتقاداتٍ في البداية من مجلس النواب العراقيّ، الذي كان قد دعا إلى انسحابٍ كافّة القوات الأجنبية. ولكن، أظهرت استجابة "الناتو" منذ ذلك الحين حنكةً شديدةً، حيث انطوت على أنشطة تواصلٍ فعّالةٍ وهادفةٍ، وتركيزٍ على احترام سيادة العراق، والتعامل بمزيدٍ من الحرص مع الحكومة على كافّة المستويات ذات الصلة. 

الشراكات والمهام في بيئةٍ متقلِّبةٍ

إذ يعمد حلف شمال الأطلسي إلى تجديد علاقته مع دول الجنوب، لا بدّ له من اعتماد مبدأ الواقعيّة. وينبغي أن يراعي النهجُ الجديدُ التنوّعَ في منطقة البحر المتوسّط وإفريقيا ككُلٍّ، وأن يعي القيود التي ستظلّ تعترض طريق الحلف، مع تطوّر الواقع السياسي في المنطقة والإطار الاستراتيجي العام في اتجاهاتٍ قد لا تؤيِّد دومًا لتعزيز دور "الناتو".

أوّلًا، يختلف الجوار الجنوبي لحلف شمال الأطلسي اختلافًا كبيرًا عن المنطقة الواقعة إلى شرقه؛ حيث أجمَع أعضاء "الناتو" على أن روسيا تشكّل مصدر التهديد الأكبر والأكثر إلحاحًا، وقرّروا، على الرغم من بعض التناقضات الداخليّة، الاستفادة إلى أقصى حدٍّ من قدرات الحلف لمجابهة النزعة الانتقامية لروسيا وسعيها إلى إعادة السيطرة على الأراضي التي خسرتها. أمّا في الجنوب، فيتعيّن على حلف شمال الأطلسي مواجهةُ مجموعةٍ متنوّعةٍ من البيئات والتحديات العابرة للحدود الوطنية وعدم الاستقرار على نطاقٍ واسعٍ. ويواجه "الناتو" خصومًا مثل إيران وروسيا وجماعاتٍ إرهابيّةٍ مختلفةٍ، قد تتعاون في ما بينها للإضرار بالمصالح الغربية، لكنّ أنشطتها لا تشكّل تهديداتٍ مباشرةٍ لأمن أراضي الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي. 

يتعيّن على حلف شمال الأطلسي أيضًا الاعتماد على شبكةٍ من الشراكات المتفاوتة والتي ما زالت قيد التبلور، يفرض بعضُها على الحلف إجراء مقايضاتٍ صعبةٍ أحيانًا بين الحفاظ على الاستقرار وتحقيق تغييرٍ إيجابيٍّ. لهذه الأسباب، فإنّ السياق في الجناح الجنوبي للحلف، الذي يشمل منطقتَيِ الشرق الأوسط وإفريقيا، يختلف للغاية عن منطقة الهند والمحيط الهادئ، التي تمثّل ساحةً استراتيجيّةً أكثر أهميّةً تشهد تهديداتٍ تقليديّةً عمومًا، وحيث يُظهِر الشركاء المحليّون للحلف درجةً أعلى من التوافق مع الأولويّات والقيم الغربيّة. 

والأهمّ من ذلك أنّ واشنطن ستستمرّ في إعطاء الأولوية للالتزام الطويل الأمد بالحلف على حساب دعم الاستراتيجية الجنوبية– علمًا أنّ هذه الاستراتيجية لم تعُد مضمونةً، بل باتت تعتمد بين ليلةٍ وضحاها على نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذا العام. في المقابل، سيستمرّ الأعضاء الأوروبيّون في الحلف في إيلاء مستويات مختلفة من الأهمّية للمنطقة، حتى مع اعتماد أوروبا المتزايد عمومًا على الطاقة المستوردة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد عزل روسيا، ومع تعرُّض القارة العجوز لظواهر عدّة مصدرها البحر المتوسّط، أبرزها الهجرة المتواصلة.

في هذا السياق، لن يكون "الناتو" المحفل الذي تُعالَج فيه الخلافات بين الحلفاء عن طريق إطلاق مبادراتٍ جديدةٍ وطموحةٍ. بل إنّ فعالية "الناتو" تعتمد على جهود أعضائه مُجتمِعين، علمًا أنَّ بعض القضايا العالقة، مثل الخلاف بين تركيا واليونان في شرق المتوسّط، تعود إلى الواجهة لدى البحث في بعض الملفّات الأساسية.

أمّا في المنطقة المتوسّطية المركزية، فمن المرجّح أن تبقى ليبيا خاصرةً رخوةً مساحتها 1.8 مليون كيلومتر مربّع. ولا يزال من الصعب جدًّا بناء تعاون مُجدٍ مع البلد المُقسَّم، وما من مؤشراتٍ تدلّ على أنّ "الناتو" سينخرط بشكلٍ مباشرٍ وفاعِلٍ حاليًا في الساحة الليبية، التي تحظى روسيا بنفوذٍ واسعٍ فيها، من المرجّح أنّه آيلٌ للتعاظُم. وينطبق ذلك على منطقة الساحل الإفريقي ككُلٍّ، التي تشكّل حاليًا أبرز بؤرة للإرهاب وفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي. فمن جهةٍ، يمكن لحلف شمال الأطلسي تعزيز علاقته مع موريتانيا، شريكة "الناتو" منذ العام 1995. ولكنْ، من جهةٍ أخرى، من المستبعَد أن يتمكّن الحلف من الانخراط بفعاليةٍ في هذه المنطقة التي تتّسم عمومًا بنفور من الغرب، استنادًا إلى تجربة فرنسا وشركائها في السنوات الأخيرة.

والواقع أنّ الخصومات المحلّية، والنزعة إلى بناء علاقات قائمة على التبادلات والمصالح، والبيئة المنقسمة والتي تطغى عليها النزاعات، كلُّها عوامل تقيّد انخراط "الناتو" في المنطقة. فسيواجه الحلف صعوبةً في التوصُّل إلى تقارُبٍ استراتيجيٍّ أو عقد حوارٍ متعدّد الأطراف حول القضايا الأساسية. وستقتصر أوجه انخراط "الناتو" في المنطقة بشكلٍ عامٍّ على المستوى الثنائي، من خلال "برامج الشراكة المصمّمة على نحوٍ فرديٍّ"، بحسب المصطلحات التي يعتمدها الحلف. وتتطلّب هذه العلاقات الثنائية إدارةً حريصةً، لكنّها قابلةٌ للتطوير بواسطة المزيد من الشركاء ذوي التوجّهات المشابهة، مثل الإمارات العربية المتّحدة والأردن. ولكنْ، طالما أنّ الحرب في غزّة مستعرة، سيبقى شركاء "الناتو" العرب غير مرتاحين إطلاقًا لشراكة حلف شمال الأطلسي مع إسرائيل. ونتيجةً لذلك، سيواجه الحلف عقبات في حواره المتوسّطي بلا شك.

في بعض القضايا المختارة، سيواصل "الناتو" تعزيز ولايته ومهامه وأصوله، وسيسعى في الوقت نفسه إلى إشراك الشركاء المهتمّين في هذه العملية. ويشكِّل الأمن البحري أحد المجالات الواعدة في هذا الإطار. فعُقَدُ الاتصالات في البحر الأبيض المتوسّط تعزّز دور المنطقة كمركزٍ عالميٍّ وتُعطي هذا الدورَ القائم منذ سنواتٍ طويلةٍ أبعادًا جديدةً. ومع تنامي الأنشطة الرقمية، يعتمد العالم أكثر فأكثر على البنى التحتية المادية مثل الكابلات، خصوصًا تلك التي تربط بين آسيا وإفريقيا وأوروبا، والتي غالبًا ما تمرّ في قاع البحر الأبيض المتوسط. وعبر الاستفادة من مركزه البحري للبنية التحتية الحيوية تحت سطح البحر الذي أُنشئ رسميًّا في شهر أيار/مايو، يمكن للحلف تعزيز أنشطته في مجال الأمن البحري، التي يمارسها منذ سنوات طويلة، وذلك بهدف اجتراح نهجٍ إقليميٍّ منسَّقٍ وموسَّعٍ لحماية البنى التحتية الحيوية.

كذلك، يمكن للحلف اتّخاذ خطوات حذرة ولكنْ تمسّ الحاجة إليها في مجالات حسّاسة مثل الدفاع الجوّي. فمع انتشار المسيّرات والأنظمة الصاروخيّة المتطوّرة، تكتسب قدرات الدفاع الجوّي أهمّية متزايدة بالنسبة للحلف وشركائه. وترتبط هذه القدرات على نحو وثيق أيضًا بمستقبل جهود الحدّ من انتشار الأسلحة وبالمنافسة مع إيران. ويُشار في هذا السياق إلى مشاركة الأردن والإمارات العربية المتّحدة في إسقاط الصواريخ التي أطلقتها إيران ضدّ إسرائيل في نيسان/أبريل الماضي، ما يوفّر أساسًا لمواصلة العمل على هذا المستوى. وفي السنوات المقبلة، يمكن للحلف النظر في تحديث أنظمة دفاعاته الجوّية والمضادة للصواريخ، وبعضُها بحريٌّ بطبيعته أساسًا، إلى جانب تعزيز التعاون مع الشركاء المهتمّين من دول الجنوب.

في ما يخصّ القارة الإفريقية، ينبغي على "الناتو" توخّي الحذر، لكنّه قد يحصد ثمار الاستراتيجيات الغربية التي تركّز بشكلٍ متزايدٍ على فوائد الانخراط في إفريقيا. وعلى وجه التحديد، يمكن للحلف التواصل مع الدول الإفريقية التي أبدَت استعدادًا للعمل مع الولايات المتّحدة وأوروبا حتى في ظلّ الحرب الدائرة في أوكرانيا وفي غزّة. ومن الأمثلة على ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، كينيا التي مُنِحَت مؤخرًا صفحة حليف رئيسي للولايات المتّحدة من خارج "الناتو" (غير أنّ الاضطرابات التي يشهدها البلد في الآونة الأخيرة تدلّ على المآزق الدائمة التي يُحتمَل أن يقع فيها الحلف في القارة الإفريقية عندما تواجه الجهات الفاعلة المحلّية ذات الأهمّية الاستراتيجية ظروفًا داخليةً صعبةً).

فضلًا عن ذلك، يمكن لحلف شمال الأطلسي تطوير علاقته مع الاتّحاد الإفريقي؛ فمع سعي الدول الإفريقية للبحث عن حلول محلّية الصُّنع لنزاعات القارة، لعلّ المجال الأبرز الذي يمكن للحلف تقديم المساعدة فيه هو مشاركة القدرات والموارد. فعلى سبيل المثال، سبق أن ساعد "الناتو" سابقًا في إقامة الجسر الجوي الاستراتيجي لقوّات حفظ السلام التابعة للاتّحاد الإفريقي في دارفور. حتى إنّ مشاركة المعلومات والتقييمات ببساطة قد تصبّ في صالح الطرفَيْن وتُفضي إلى مكاسب كبرى في قضايا حسّاسة مثل أنشطة مجموعة "فاغنر" (التي اتّخذت تسمية "الفيلق الإفريقي" مؤخرًا) في القارة الإفريقية.

الحاجة إلى تعزيز التنسيق

من المقترحات التي حظيت باهتمامٍ لافتٍ في الآونة الأخيرة تعيين مبعوثٍ خاصٍّ لحلف شمال الأطلسي لدول الجنوب -وهي مبادرة من شأنها تعزيز حضور الحلف وقدرته على التواصل مع تلك الدول- بالإضافة إلى معالجة بعض الحساسيّات بين أعضاء الحلف أنفسهم، أو في العلاقة مع حلفائهم. وكما سبق أن أنشأ "الناتو" منصب المنسّق الخاص المعني بمكافحة الإرهاب في العام 2023، من المفيد في هذه المرحلة اتّخاذ خطوات ملموسة لرفع مستوى تنسيق الأنشطة التي تؤثر، بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ، في أوجه انخراط "الناتو" في دول الجنوب ومعها. ومن بين جملةٍ من الأولويات الأخرى، يمكن تفعيل "مركز الناتو الاستراتيجي لإفريقيا والشرق الأوسط" (NSD-S HUB) الذي لا تُستغَلّ إمكانياته الكاملة، وهي خطوةٌ ستلقى ترحابًا واسعًا إن اتُّخِذَت.

نظرًا إلى أنّ حلف شمال الأطلسي أمام فرصةٍ قد لا تتكرّر في هذه المنطقة الشاسعة والمعقّدة، يعتمد نجاح القمّة المُزمَع عقدُها في واشنطن على اتّخاذ خياراتٍ واقعيّةٍ وعمليّةٍ. فينبغي على الحلف الاستفادة من دروس الماضي والممارسات الفضلى لتطوير نهجٍ جديدٍ ومبسّطٍ، بدلًا من تحديد أهداف طموحةٍ إنما مبهمة وغير واضحة المعالم.

إيميليانو أليساندري باحثٌ غير مقيم في معهد الشرق الأوسط وخبير في العلاقات الأوروبية-المتوسّطية، مع تركيز خاص على شمال إفريقيا.

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.
البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك