حرب غزّة لم توقِف مساعي التهدئة في اليمن
ديسمبر 12, 2023إبراهيم جلال
إبراهيم جلال
مع دخول حرب غزّة شهرها الثالث، تستمرّ المخاوف من احتمال توسع نطاق النزاع، ويُخشى تحديدًا من خطر التصعيد ودخول شبكة وكلاء إيران حلبة الصراع. يزعم المتمرّدون الحوثيون في اليمن، المدعومون من إيران، أنَّهم أطلقوا 10 "دفعات كبيرة" من الصواريخ والمُسيَّرات نحو إسرائيل بين 18 تشرين الأوّل/أكتوبر و11 كانون الأوّل/ديسمبر، بعضُها سقطَ والبعض الآخر تمّ اعتراضه في البحر الأحمر والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن، ولم تُسجَّل أيّ أضرار أو إصابات بحسب ما تُشير إليه التقارير. وفي 19 تشرين الثاني/نوفمبر، نفَّذَ الحوثيون أيضًا عملية غير مسبوقة، حيث استولوا على سفينة تجارية إسرائيلية مُؤجَّرة لليابان في البحر الأحمر باستخدام مروحيّة – وهي عمليةٌ تُحاكي التكتيكات التي يستخدمها الحرس الثوري الإسلامي الإيراني وتُشكِّل انتهاكًا للقانون البحري الدولي. وفي 3 كانون الأوّل/ديسمبر، هاجم الحوثيون أيضًا ثلاث سفن تجارية مرتبطة بـ14 دولة مختلفة في البحر الأحمر باستخدام الصواريخ الباليستية المضادة للسفن والمُسيَّرات. وصعَّدَ الحوثيون موقفهم في 8 كانون الأوّل/ديسمبر، إذ هدّدوا بمنع جميع السفن من الإبحار نحو إسرائيل، بصرف النظر عن جنسيتها، إلى أن تتلقّى غزّة المساعدات الإنسانية، كما شنّوا هجومًا صاروخيًّا آخر على ناقلة ترفع العلم النرويجي في 12 كانون الأوّل/ديسمبر.
لم تردّ الولايات المتّحدة بعد على هجمات الحوثيّين، باستثناء حالات الدفاع عن النفس أو فرض عقوبات رمزية، وذلك على الرغم من تزايد الدعوات التي تُطالِب واشنطن باتّخاذ إجراءات أكثر حزمًا لصدّ الاعتداءات المستقبلية. وأشارَ مستشار الأمن القومي الإسرائيلي مؤخّرًا إلى أنَّ إسرائيل ستردّ بنفسها في حال لم تتحرّك الولايات المتّحدة والمجتمع الدولي. غير أنَّ الأعمال العسكرية المباشرة التي تستهدف الحوثيّين هي بالتحديد ما تريده هذه الجماعة المتمرّدة، لأنَّ التدخُّل الدولي سيسمح لها بحشد الرأي العام بشكل أكبر نحو المعركة التي لم تنتهِ بعد في الداخل، بالإضافة إلى إمكانية توسيع قاعدة الدعم الشعبي لها في العالمَيْن العربي والإسلامي.
تزداد المخاوف في الخليج من أن تؤدّي الأوضاع الميدانية إلى عرقلة المحادثات الرامية إلى خفض وتيرة التصعيد بين الرياض وحكومة الجمهورية اليمنية والحوثيين، أو حتّى من أن تُعيدها إلى نقطة الصفر في حال تصاعدت ديناميات النزاع على الساحتَيْن المحلّية والإقليمية. ولكنْ، من غير المُرجَّح أن يتسبّب التصعيد الإقليمي المستمرّ بحدّ ذاته في تعطيل المحادثات. في الواقع، لم تنقطع قنوات التواصل بين السعودية والحوثيين في الشهرَيْن الماضيَيْن، وهو ما أوضحته الزيارات غير المُعلَنة التي أجراها كبير المفاوضين الحوثيين محمّد عبد السلام إلى المملكة العربية السعودية في تشرين الأوّل/أكتوبر، واستلام الحكومة اليمنية للنسخة الأحدث من "خارطة الطريق" المُقترَحة لخفض التصعيد من الرياض في مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر.
أعادت المملكة العربية السعودية إحياء قنوات الاتّصال المباشرة مع الحوثيين في أواخر عام 2022 بعد فشل الهدنة بين الطرفَيْن في نيسان/أبريل 2022 بسبب تزايد مَطالِب الحوثيّين وعدم استعدادهم لتقديم التنازلات. وأعقبَت ذلك عدّة جولات من المحادثات المُعلَنة وغير المُعلَنة في صنعاء والرياض عام 2023. ولكنْ، تبدّدت الآمال في التوصُّل إلى حلٍّ سريع بسبب ارتفاع سقف مَطالِب الحوثيين، فضلاً عن الضغوط الأمريكية والبريطانية لوقف محادثات المسار السريع التي غلبَت عليها التنازلات من جانب واحد. ومع لجوء الحوثيين إلى تكثيف هجماتهم البرّية والبحرية وتوسيع نطاقها، تُطرَح علامة استفهام حول ما إذا كانَ الغرب سيُعدِّل نهجه تجاه هذه الجماعة في إطار استراتيجية أمنية طويلة المدى.
بعد إعادة تموضُع المملكة العربية السعودية في اليمن من كونها قائدة تحالف عسكري ناشط يدعم الحكومة اليمنية، إلى وسيط بين الحكومة المدعومة من السعودية والمتمرّدين الحوثيّين المدعومين من إيران والذين خاضت السعودية حربًا ضدّهم، يتغيّر مجدّدًا إطارُ الوساطة القائم بقيادة الأمم المتّحدة. وطالما أنّ الأمم المتّحدة لا تزال تُعتبَر "شريكًا مُنفِّذًا" في جهود الوساطة الحالية في أحسن الأحوال، يبقى من الممكن إبرام اتّفاق برعايتها، علمًا بأنَّ المملكة العربية السعودية سبق أن تفاوضت، بدعمٍ عُماني، على القضايا الرئيسية مع الحوثيين.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، استضافت المملكة العربية السعودية الأعمال الختامية لمبادرة مجلس التعاون الخليجي في الرياض التي تَمثَّلَ هدفها في احتواء أزمة الربيع العربي وتجنُّب تفاقمها. إلّا أنَّ المساعي الحميدة وجهود الوساطة التي بذلتها الأمم المتّحدة، خلال فترة ولاية المستشار/المبعوث الخاصّ جمال بن عمر، كانت محدودة في عام 2011، واتّخذت في نهاية المطاف صفة الشريك المُنفِّذ ضمن مبادرة مجلس التعاون الخليجي بين عامَيْ 2012 و2014. وعلى الرغم من أنَّ الاتّفاق بين النخبة نجحَ في منع اندلاع حرب أهلية مباشرة، كانت العملية بطيئة ومليئة بالتحدّيات والقيود. ولم يدم نجاح هذه المبادرة طويلًا، حيث سقطت قُبيل إقدام الحوثيين على اقتحام العاصمة اليمنية صنعاء في 21 أيلول/سبتمبر 2014. واشتدّت حدّة النزاع المسلّح تدريجيًّا ليتخّذ منحًى إقليميًّا بعد ستّة أشهر عندما تدخّلت المملكة العربية السعودية عسكريًّا على رأس تحالف عربي في آذار/مارس 2015 لإعادة نظام الرئيس عبد ربّه منصور هادي إلى صنعاء، وتحجيم الدور الإيراني، وهزم الحوثيين.
بعبارة أخرى، ساعدَ نموذج الوساطة الإقليمية الأمم المتّحدة على الظهور بمظهرٍ ناجحٍ في ذلك الوقت، إلّا أنَّ هذه الجهود استعانت بمصادر خارجية للتنفيذ واقترنت بمخاطر على الأمم المتّحدة من دون تقديم الدعم السياسي والاقتصادي والأمني الكافي أو تحقيق المواءمة بين جداول الأعمال الإقليمية بالضرورة. لذلك، من أجل إحداث أثر طويل الأمد، يجب اتّباع نهج أقرب إلى مفهوم التعاون، مع إشراك الجهات المعنيّة اليمنية التي تُدرِك صيغة الحكم التي يريدها الشعب اليمني واللازمة لتحقيق التنمية المستدامة والسلام والأمن في المنطقة.
تمهيد الطريق نحو نتيجةٍ مُثمِرة أم أُفق مسدود؟
منذ عام 2015، حقّقت وساطة الأمم المتّحدة نتائج محدودة واستبدلت محادثات السلام الشاملة بمحادثات ذات نطاق جغرافي محدّد أو مُتمحورة حول قضايا معيّنة. وفي ظلّ اعتماد الأمم المتّحدة لنهجٍ تدريجي منذ ولاية مارتن غريفيث (2018-2021)، كما يتّضح في اتّفاق ستوكهولم لعام 2018، تشتّتت جهود الوساطة، ما أسفرَ عن تغيير في الديناميات والأولويات المتعلّقة بالنزاع والتهدئة وصنع السلام بأربع طرق رئيسية.
أوّلاً، استطاعَ الحوثيون أن يُرغِموا الأمم المتّحدة على التركيز على الأولويات قصيرة المدى، بدءًا بمنع إعادة السيطرة الفورية على الحديدة في أواخر عام 2018، وصولاً إلى طرح المَطالِب كأولويات "إنسانية" وربط المحادثات الشاملة بالموافقة عليها. شملت هذه الأولويات توسيع الوجهات من مطار صنعاء الدولي، وتأمين التدفّق الحرّ للبضائع إلى ميناء الحديدة من دون تفتيش، وتقاسم إيرادات الحكومة من النفط والغاز، ودفع رواتب الموظّفين، بمَنْ فيهم القوّات العسكرية والأمنية المُعيَّنة حديثًا أو القوّات شبه العسكرية.
ثانيًا، انشغلَ مكتب المبعوث الخاصّ للأمم المتّحدة بمجموعة من القضايا الاقتصادية والإنسانية والعسكرية والسياسية ولم يتمكّن من استعادة السيطرة على المشهد العام لسببَيْن أساسيَّيْن، هما: شروط الحوثيين، والرغبة في إحراز بعض التقدُّم المنشود على نطاق أصغر في ظلّ تعثُّر المحادثات، على أمل كسر حالة الجمود في المساعي نحو السلام.
ثالثًا، ساهمَ تعثُّر وساطة الأمم المتّحدة في ظهور مسارات عشوائية متعدّدة للوساطة والتيسير، ما أدّى إلى تراجُع دور الأمم المتّحدة بسبب غياب التنسيق، بالرغم من مشاركتها المستمرّة. وحتى عند بَذْلِ مساعٍ كافية للتنسيق، لعلّ قنوات التفاوض وأنظمة الدعم المتعدّدة ساهمت في تحقيق مكاسب تكتيكية، مثل هدنة نيسان/أبريل 2022 برعاية الأمم المتّحدة، لكنَّها أعطت الحوثيين هامشًا أكبر للمناورة ومزيدًا من النفوذ، ما أفضى في النهاية إلى تقويض دور المبعوث الخاصّ للأمم المتّحدة.
رابعًا، حاولَ الحوثيون في مناسبات عدّة إضعاف جهود الأمم المتّحدة للمشاركة في محادثات مباشرة مع المملكة العربية السعودية، و/أو تشويهها، و/أو تهميشها، كما سعوا في الوقت نفسه إلى إزاحة الحكومة اليمنية من الصورة. في هذا الإطار، أشارت فينا علي-خان، وهي باحثة مُساعِدة سابقة في "مجموعة الأزمات الدولية"، إلى أنَّ "المملكة العربية السعودية وجماعة الحوثيين تريدان تجاوز المحادثات التي تتوسّط فيها الأمم المتّحدة".
تؤكّد التصريحات السعودية الرسمية دعمَ الرياض لعملية السلام برعاية الأمم المتّحدة مع استمرارها في إعادة تموضُعها كوسيط، إلى جانب عُمان التي لعبت دورًا فاعلًا في مجال التيسير والوساطة خلال السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من أنَّ عددًا من المسؤولين اليمنيين اشتكوا من تهميشهم في المحادثات، أبقى المسؤولون السعوديون الحكومة على اطّلاعٍ حول المُجريات خلال مفاوضاتهم مع الحوثيين. على سبيل المثال، في 18 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، عرضَ وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، الذي أشرفَ على الملفّ اليمني منذ اتّفاق الرياض عام 2019، خارطة الطريق المُقترَحة خلال لقاءٍ جمعه بمجلس القيادة الرئاسي للوقوف عل رأي الأخير، ثمّ عادَ واجتمعَ به مجدّدًا في تشرين الثاني/نوفمبر. ولكنْ، من غير الواضح ما إذا كانَ مجلس القيادة الرئاسي يستطيع الصمود أو إحداث تغييرات كبيرة. وفي حين تمّ تكثيف المحادثات حول خارطة الطريق منذ نيسان/أبريل 2023، سُجِّلَت زيادة ملحوظة في الجهود الدبلوماسية المكوكية من قِبل المبعوث الخاصّ للأمم المتّحدة والمبعوث الخاصّ للولايات المتّحدة في تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأوّل/ديسمبر، على أمل التوصُّل إلى اتّفاقٍ قريبًا، برعاية الأمم المتّحدة.
خارطة الطريق نحو التهدئة وخفض التصعيد
بحسب المصادر المُطَّلِعَة والتسريبات الأمنية، ومنها تلك التي نشرها الصحافي اليمني فارس الحميري، تنطوي خارطة الطريق الأخيرة على عملية مؤلّفة من ثلاث مراحل. تتناول المرحلة الأولى بشكل أساسي مَطالِب الحوثيين الفورية، مثل توسيع وجهات مطار صنعاء الدولي، وتسهيل تدفُّق البضائع إلى موانئ الحديدة، وتسديد الرواتب في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون (حيث يتعيّن على المملكة العربية السعودية دفع هذه الرواتب خلال الأشهر الستّة الأولى)، ووقف إطلاق النار، وتقاسم إيرادات النفط والغاز من خلال المزيد من المفاوضات، واستئناف تصدير النفط. وينصبّ تركيز المرحلتَيْن الثانية والثالثة على القضايا الاقتصادية المعقّدة، مثل إعادة توحيد السياسة النقدية، والانسحاب التدريجي لقوّات التحالف، واستئناف المحادثات بين اليمنيّين، تليها عملية حوار معمّقة حول هيكل الدولة، فضلًا عن قضايا أخرى.
عند تبلور المزيد من التفاصيل والتوصُّل إلى اتّفاق، ستبرز الحاجة إلى إجراء تقييمٍ شامل، علمًا بأنَّ العقبات ستظهر بسرعة لتَحول دون التنفيذ، كما رأينا في اتّفاقات وقف إطلاق النار والسلام السابقة خلال العقدَيْن الماضيَيْن. ومن غير المُستبعَد أن يطول أمد المحادثات أو حتّى أن تتعثّر لأيِّ سببٍ من الأسباب، منها مثلًا التغييرات الحوثية في اللحظة الأخيرة كجزء من استراتيجية تعزيز المكاسب. فقد فشلت المحادثات في السابق بسبب رفع سقف مَطالِب الحوثيين، إذ يتبنّى هؤلاء استراتيجية التفاوض الإيرانية التي تتّسم بـ"النَّفَس الطويل"، لعلمهم أنَّ الوقت لصالحهم. ومع ذلك، يبدو أنَّ المملكة العربية السعودية مستعدّة لتقديم المزيد من التنازلات، بما في ذلك ممارسة ضغوط فعلية على شركائها للدفع باتّجاه التوصُّل إلى اتّفاق. كذلك، تحرص الولايات المتّحدة على خفض وتيرة التصعيد في اليمن على الرغم من ازدياد الهجمات الحوثية البرّية والبحرية مؤخّرًا.
ختامًا، لابدّ من التشديد على أنَّ الاتّفاق المُحتمَل يُعَدّ بمثابة مكسب استراتيجي للمملكة العربية السعودية إلى حدٍّ بعيد، ولكنَّه مكسب تكتيكي بالنسبة إلى اليمن. فسيؤدّي إلى تطبيع الوضع الراهن المستمرّ منذ تسع سنوات، وسيُقدِّم فوائد مرحلية مناسبة للحوثيّين قبل بدء محادثات السلام بين الأطراف اليمنيّين، وسيمنح المملكة العربية السعودية مَخرجًا يحفظ لها ماء الوجه بينما تنتقل بثباتٍ وبطءٍ إلى دور الوسيط وعلاقات ما بعد النزاع، فضلًا عن أنَّه سيُتيح للحكومة اليمنية أن تستأنف تصدير النفط. وبالنظر إلى استمرار اختلال موازين القوى والأهداف والرؤى النهائية غير المتناغمة لدى الحكومة اليمنية والجهات التي تمثّلها والحوثيين، فقد يبقى خطر توطين النزاع قائمًا في اليمن، ذلك إذا لم يحظَ الاتّفاق العتيد، والعملية التي سوف تليه، بإطارٍ سليم لناحية التصميم والتنفيذ والدعم والمتابعة.
إبراهيم جلال باحث يمني في مجال الأمن والنزاعات والدفاع؛ وباحث غير مُقيم في معهد الشرق الأوسط؛ وعضو مؤسّس في مركز Security Distillery للأبحاث.