MEI

الأساطير المستمرّة للثورة الإيرانيّة لعام 1979

فبراير 13, 2024


مشاركة

أندرو سكوت كوبر 

قليلة هي الأحداث في تاريخنا المُعاصر المُحاطة بالأساطير والمؤامرات كما الثورة الإيرانيّة لعام 1979. ولكنْ، بعد مرور خمسة وأربعين عامًا على هذه الثورة، أصبحت لدينا الآن صورة أكثر وضوحًا للأحداث الدراميّة التي شهدتها شوارع طهران وتابعها العالم بأَسْره عبر شاشات التلفزة.

لا تزال بعض هذه الأساطير تحظى بشعبيّةٍ كبيرة. فقد أصاب سقوط الشاه جيلًا كاملًا من الإيرانيّين بالصدمة، ومن المنطقي تمامًا أن يتبنّى الناجون سرديّات معيّنة تشرح الأحداث التي عاشوها وتبرّرها.

فيما يلي وصفٌ لثلاثٍ من أكثر أساطير الثورة ديمومةً، بالإضافة إلى نظرتي للأحداث والأسباب الكامنة وراءها:

1.    "زعيم الشيعة الحقيقي هو آية الله روح الله الخميني"

تتعلّق إحدى الأساطير المؤسّسة للثورة الإيرانيّة بالمكانة الدينيّة لآية الله العُظمى روح الله الخميني. فحتّى يومنا هذا، يسود الاعتقاد بين صفوف غير الإيرانيّين أنّ روح الله الخميني كان "الزعيم الحقيقي" للمسلمين الشيعة،[1] مثال سفير الولايات المتّحدة في طهران، ويليام سوليفان في شباط/ فبراير 1978، والسفير أندرو يونغ، مبعوث الرئيس جيمي كارتر لدى الأمم المتّحدة، الذي قال إنّ الخميني "أشبه بقدّيس"، وأكّد للأميركيّين أنّه "من المستحيل أن تنشأ دولة إسلاميّة أصوليّة" في إيران.[2]

لم يكن للتصريحات التي أدلى بها سوليفان ويونغ أيّ أساسٍ لا في الواقع ولا في الفقه؛ فقد تمتّع الشيعة بحريّة تقليد المرجع (آية الله العُظمى) الذي يجسّد قِيَمَهم ووجهات نظرهم على أفضل وجهٍ- ولم يكونوا مُلزَمين بتأييد زعيمٍ واحد. في العام 1978، برز آية الله العُظمى أبو القاسم الخوئي بصفته المرجع الشيعي الأكثر احترامًا وتقليدًا، وقد وُلِد في إيران وعاش في النجف، في العراق. أمّا المرجع الذي حظي بأكبر عددٍ من الأتباع داخل إيران، فكان آية الله العُظمى كاظم الشريعتمداري من مدينة قُمْ. وقد عرف كلاهما الخميني لسنوات عدّة. كانت المؤسسة الدينيّة في إيران تميل إلى تأييد النظام الملكيّ، فأدانت بشكل عام خطاب الخميني الشعبويّ واستعطافه للمتمرّدين، وكانت تخشى ما قد يحصل في حال أُتيحت له فرصة وضع أفكاره المتطرّفة حول الحُكم الإسلاميّ موضع التنفيذ. ولكن، اتّضح لها أنّ شعبيّة الخميني آخذة في الازدياد. استخدم عناصر "قوّات الصدمات" الشباب التابعين للخميني العنف والترهيب للضغط على منافسيهم وتخويفهم. فسَعوا إلى جرّ قوّات الأمن إلى مواجهاتٍ مسلّحة على أمل أن تؤدّي إراقة الدماء إلى إضعاف موقف الشاه محمد رضا بهلوي. وأحدثت روحهم القتاليّة هذه انطباعًا كاذبًا، ولكن فعّالًا للغاية بأنّهم يمتلكون التفوّق العددي.

بلغ قلق بالشريعتمداري حدًّا جعله يؤيّد اغتيال الخميني في ربيع العام 1978،[3] كما حثّ الشاه على أسلمة البلاط الإمبراطوريّ والحكومة، وحاول بناء ائتلافٍ من المعتدلين، على أمل أن يقوده تلميذه الشاب، الإمام موسى الصدر. فأتى اختفاء الصدر لاحقًا في ذروة الثورة، حاملًا بصمات أنصار الخميني. وظلّ الشريعتمداري حتّى النهاية يتوسّل الشاه أن يبقى في إيران خشية انهيار الجيش واستيلاء الخميني على السلطة.

ولكن سرعان ما تحقّقت أسوأ مخاوف الشريعتمداري. في الواقع، تخلّل الثورة الإيرانيّة صراعان على السلطة. الأوّل دار بين الشاه والخميني، وحسم مصير إيران وشعبها. أمّا الثاني فدار بين الشريعتمداري والخميني، وحدّد مستقبل الإسلام الشيعي. ومن خلال منح الشرعية للخميني بغير مكانها وقبل أوانها، وضع الأميركيّون أنفسهم في مأزقٍ كبير، كاشفين، وللأسف الشديد، عن قصور فهمهم لإيران والإسلام الشيعي. يساهم ذلك في تفسير ما حدث في وقتٍ لاحقٍ من ذاك العام، حينما أقنع السفير سوليفان نفسه بأنّ السبيل الوحيد للحفاظ على الوجود الأمريكي في إيران هو رحيل الشاه وعودة الخميني من المنفى.

2.    شهد عهد الشاه انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان "على نطاقٍ غير مسبوق"

تزعم الأسطورة الأكثر ديمومةً أنّ الشاه كان ديكتاتورًا مُتعطّشًا للدماء ومسؤولًا عن مئات الآلاف من الاعتقالات والإعدامات وتعذيب السجناء. في منتصف السبعينيّات، أثارت انتهاكات حقوق الإنسان في إيران قلقًا محلّيًّا كبيرًا وشكّلت فضيحةً دوليّة. إذ قدّرت لجنة الحقوقيّين الدوليّة عدد الإيرانيّين السجناء بحوالى 100,000 "وقد تعرّض معظمهم للتعذيب من قبل منظّمة المخابرات والأمن القومي (سافاك)".[4] وألمحت ضمنًا إلى أنّ الظروف داخل إيران كانت أسوأ من الوضع في كمبوديا في عهد بول بوت وفي أوغندا في عهد عيدي أمين. وتبنّت منظّمة العفو الدوليّة الرقم نفسه أيضًا. وفي السنة التالية، ذهب الشاعر الإيراني المنفي رضا براهني أبعد من ذلك عندما أعلن في كتابه "أكلة لحوم البشر في السلطة" (Crowned Cannibals) أنّ السجون الإيرانيّة تعجّ بأكثر من ثلاث مئة ألف إيراني، بمعدّل اعتقالٍ يصل إلى 1,500 شخصٍ كلّ شهر.[5] وزعم براهني أنّ قوّات السافاك اعتقلت 5 آلاف شخصٍ في يومٍ واحد.[6] وقد حظيت ادّعاءات براهني بالاحترام، لا بل بالتبجيل، في الولايات المتّحدة، حيث تلقّى كتابه مراجعة رائعة من الروائي إي. أل. دوكتورو في صحيفة "نيويورك تايمز".[7]

لا أحد يشكّك في وقوع انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان في إيران خلال عهد الشاه، ولا سيّما في ذروة "الحرب القذرة" ضدّ المخرّبين في الفترة الممتدّة بين العام 1971 والعام 1976. إذ بلغ انتشار الانتهاكات حدًّا أدّى بأفراد العائلة الإمبراطوريّة، بما في ذلك الإمبراطورة فرح، إلى التعبير عن قلقهم إزاء هذه المسألة. صحيح أنّ قضيّة حقوق الإنسان ألحقت ضررًا بالغًا بزعم الشاه بأنّه يمتلك التفوّق الأخلاقيّ وأشعلت الانتقادات ضدّه في الداخل والخارج. ولكن منذ البداية، أحاط الغموض بالأعداد الدقيقة للأشخاص المُعتَقَلين والذين تعرضوا للتعذيب والإعدام. ولم يبدأ الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان فعليًّا إلا في أواخر التسعينيّات، عندما فشل التحقيق الداخلي الذي أجرته الجمهورية الإسلاميّة في إثبات الأرقام الكبيرة التي كانت سببًا رئيسًا لتجريم نظام بهلوي قبل الثورة.[8]

عندما سافرتُ إلى إيران في العام 2013، زرتُ مركز وثائق الثورة الإسلاميّة في طهران، وهو عبارة عن منظّمة تجمع البيانات الأوليّة عن الثورة. ووجدت أنّ الأرقام الموثّقة في المركز تتوافق مع الأرقام التي قدّمها لي الرئيس السابق للمديرية الثالثة ذات النفوذ الكبير في جهاز السافاك، برويز ثابتي: فبلغ عدد السجناء السياسيّين في إيران حوالي 3,200 في منتصف السبعينيّات (وقد يكون وصل إلى 3,700).[9] كما تبيّن أنّ عمليات الإعدام في السجون أقلّ ممَّا قيل في البداية. وكان الخميني قد اتَّهَم الشاه بإعدام سبعين ألف شخصٍ، وهو رقم لا يُصدّق إن فكّرنا فيه اليوم، ولا سيّما إذا عدنا بالتاريخ إلى العامَيْن 1963 و1978، حين أنقذ الشاه شخصيًّا حياة الخميني من أولئك الذين مارسوا الضغوط من أجل إعدامه. كذلك، أخبرني ثابتي أنّ 312 سجينًا سياسيًّا ماتوا أثناء الاحتجاز، ومعظمهم أُعدم.[10] بينما تزعم الجمهورية الإسلاميّة أنّ هذا العدد بلغ 368.[11]

ولكن من أين أتت الأرقام الأعلى؟ نعلم الآن أنّ الأرقام التي اعتمدت عليها محكمة العدل الدوليّة ومنظّمة العفو الدوليّة قدّمها منفيّون معارِضون كانوا يعيشون في باريس وبيروت. ولم يشكّك المراسلون والمحرّرون الأجانب في صحّتها قبل نشرها. لا تنتقص مراجعة الأعداد الفعليّة من تجارب ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، بل هي تسمح للمؤرّخين بفهم الأحداث التي كانت تدور في إيران في السبعينيّات. ويؤدّي ذلك إلى خوض نقاشٍ حقيقيّ حول القمع الذي ترعاه الدولة في إيران، ويسمح لنا بالتركيز بالكامل على قصص الضحايا وتجاربهم. علاوةً على ذلك، يساعد تحديد الأرقام الدقيقة على وضع التطوّرات الحالية في إيران ضمن سياقها الأوسع، إذ يسمح لنا برفض الحجّة القائلة إن الانتهاكات اليوم ليست أسوأ ممّا كانت عليه في الماضي.

3.    تآمَر القادة الغربيون لإسقاط الشاه

يعتقد معظم الإيرانيّين بأنّ مصير محمد رضا شاه بهلوي تقرّر خلال اجتماع للقادة الغربيّين في جزيرة غوادلوب الفرنسية بين 4 و7 كانون الثاني/يناير 1979. إلا أنّ التسلسل الزمني للأحداث يروي حكاية أخرى.

دوّن الرئيس الأميركي جيمي كارتر ملاحظات عن محادثاته مع رئيس وزراء المملكة المتّحدة جيمس كالاهان والرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان ومستشار ألمانيا الغربية هلموت شميت.[12] وتكشف الملاحظات أنّ معظم النقاشات بين هؤلاء القادة تركّزت حول المواجهة بين الشرق والغرب والعلاقات التجارية والأمنية مع الاتّحاد السوفياتي. ويبدو أنّ مسألة إيران لم تشكّل محطّ اهتمام كبير لأنّهم افترضوا أنّ أيام الشاه قد انتهت عمليًّا. وتباهى شميت بأنّه "لطالما عرفَ أنّ الشاه المُصاب بجنون العظمة سيسقط في نهاية المطاف"، في حين أقرّ كارتر لاحقًا بأنّه "استشعر مستوى متدنيًا جدًّا من التأييد للشاه لدى القادة الثلاثة الآخرين".[13] أمّا الرئيس الفرنسي فبرّر سماحه للخميني باللجوء إلى فرنسا بقوله: "من الأفضل إبقاؤه في فرنسا بدلًا من تركه يذهب إلى العراق أو ليبيا أو بلدٍ آخر حيث يمكنه التسبُّب بالمزيد من المشاكل للشاه". كذلك، قال كارتر إنّ "[الآخرين] أجمعوا على ضرورة أن يغادر الشاه في أقرب وقتٍ ممكن".

وتبيّن للقادة الأربعة أنّ هذا الهدف سهل التحقيق، إذ كان الشاه قد استسلم لقدره منذ وقت طويل. فبعد شعوره بالإحباط والإرباك نتيجة الأحداث المتسارعة وتشخيص إصابته بالسرطان سرًّا، أدرك بهلوي أنّ استراتيجية استرضاء منتقديه التي بدأ بتنفيذها منذ سنة مُنيت بفشل ذريع. وقبل عدّة أسابيع، كان الشاه قد رفض عرض ملك الأردن حسين بن طلال بتولّي قيادة الجيش الأردني شخصيًّا وشنّ حرب ضدّ المتمرّدين. وأدرك عندها الملك حسين أنّ صديقه ومُرشِده يعتزم التخلّي عن عرش الطاووس. وبين عيد الميلاد وعيد رأس السنة من عام 1978، قرّر الشاه والشهبانو إخراج أطفالهما الأصغر سنًّا من البلاد. وفي الوقت نفسه، طلب الشاه من خادمه الشخصي أمير بورشاجه حزم أمتعة لرحلةٍ إلى الخارج إلى أجلٍ غير مسمّى. وفي 3 كانون الثاني/يناير 1979، اتّصلت الشهبانو بإحدى صديقاتها المقرّبات التي كانت لا تزال في طهران، ونصحتها بتحضير جواز سفرها قائلةً: "حان وقت المغادرة".

حطّ القادة الغربيون الأربعة في غوادلوب في اليوم التالي. وفي حين أنّ سلوكهم أضعف موقف الشاه وسرّع وصول الخميني إلى السلطة بشكل أو بآخر، هل صحيح أنّ نواياهم كانت سيّئة؟ تشير الأدلّة إلى أنّ السبب الأساسي كان انعدام الكفاءة، وهو ما لا يدعو للاطمئنان إطلاقًا.

تذكّرنا الثورة الإيرانية لعام 1979 بأنّ الأساطير تزدهر في المجتمعات المغلقة، وبأنّها كفيلة بإحداث حالات خطيرة من سوء التفاهم والتسبُّب بعواقب وخيمة في حال عدم التعامل معها. لذا، من أجل تفادي حدوث كارثة مشابهة، ينبغي على الولايات المتّحدة أن تُجري مراجعة دوريّة للسياسات التي تتّبعها لجمع المعلومات بشأن إيران. فلا عُذر إطلاقًا للولايات المتّحدة، مع كلّ ما تملكه من موارد، لاتّباع سياسة تجاه إيران تكون غير مرتكزة على وقائع دامغة.

الدكتور أندرو سكوت كوبر هو باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط وأستاذ مساعد في الجامعة الدولية الهيلينية في سالونيك، اليونان، وهو متخصّص في سياسة الأمن القومي والسياسات النفطية للولايات المتّحدة تجاه المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية، وفي التاريخ المعاصر لإيران والأنظمة الملكية والملوك في الشرق الأوسط. كذلك، صدر لكوبر كتابان، أحدثهما بعنوان "سقوط الجنة: العائلة البهلوية والأيام الأخيرة للإمبراطورية الإيرانية". 

الهوامش


[1] رسالة عبر الحقيبة الدبلوماسية من السفارة الأميركية في طهران إلى وزارة الخارجية الأميركية، "المعارضة الإيرانية"، 1 شباط/فبراير 1978، إيران: صياغة السياسة الأميركية، 1977-1980، الوثيقة رقم 01296.

[2] "يونغ يشيد بالإسلام بوصفه "نابضًا بالحياة" ويشبّه آية الله بالقديس الحيّ"، صحيفة "نيويورك تايمز"، 8 شباط/فبراير 1979.

[3] أندرو سكوت كوبر، سقوط الجنة: العائلة البهلوية والأيام الأخيرة للإمبراطورية الإيرانية (هنري هولت: نيويورك، 2016)، ص. 315.

[4] كوبر، سقوط الجنة، ص. 235.

[5] المرجع نفسه.

[6] كوبر، سقوط الجنة، ص. 235-236.

[7] جون ليونارد، "القمع في إيران"، صحيفة "نيويورك تايمز"، 20 حزيران/يونيو 1977.

[8] سايروس كاديفار، "قضية أرقام"، مجلّة Rouzegar-Now، 8 آب/أغسطس 2003، https://www.emadbaghi.com/en/archives/000592.php#more.

[9] مقابلة للكاتب، 8 أيلول/سبتمبر 2013.

[10] المرجع نفسه.

[11] یرواند آبراهامیان، اعترافات تحت التعذيب: المعتقلون والإقرارات العلنية بالخطأ في إيران المعاصرة (منشورات جامعة كاليفورنيا؛ بيركلي، 1999)، ص. 103.

[12] ملاحظات الرئيس جيمي كارتر حول قمّة القادة الأربعة في غوادلوب، 5 كانون الثاني/يناير 1979، مكتبة جيمي كارتر الرئاسية.

[13] المرجع نفسه.

 

Read in English

معهد الشرق الأوسط مؤسّسة مستقلّة وحياديّة وتعليمية لا تبغي الربح. لا يشارك المعهد في أنشطة المناصرة، وآراء الباحثين لا تعبّر عن آراء المعهد. يرحّب معهد الشرق الأوسط بالتبرّعات المالية، لكنّه يحتفظ بالحقوق التحريرية الحصرية في أعماله، كما أنّ المنشورات الصادرة عنه لا تعبّر سوى عن آراء كتّابها. يرجى زيارة هذا الرابط للاطّلاع على لائحة بالجهات المانحة لمعهد الشرق الأوسط.

متعلق بالمنطقة

البريد الالكتروني
احصل على أحدث الإحاطات السياسية من معهد الشرق الأوسط وتنبيهات الفعاليات وكل ما هو جديد. ليصلك كل ذلك مباشرة من خلال البريد الإلكتروني الخاص بك